أوشك الجيل الأول الذي شهد النكبة الفلسطينية على الرحيل، فغالبيته فارق الحياة ولم يعد هناك إلا قلة يقصّون الحكايات والمواقف التي دارت أمام مرأى أعينهم كشريط فيلم سينمائي، من أجل توثيقها لتروى للأجيال الجديدة ليحفظوا تاريخهم والوقائع التي دارت حين سرقت العصابات الإسرائيلية الأراضي الفلسطينية.
ولأن النكبة الفلسطينية عام 1948 ليست حدثًا عابرًا تذكر وقائعها كحدث سياسي عادي، يحرص الفلسطيني عبر عقود على توثيقها وسردها لترسخ في عقول الجيل الجديد وفق الأدوات المتاحة، فالتوثيق كما هو حكايات تروى شفهيًّا، هناك أساليب أخرى لجأ إليها الفلسطينيون لترسيخ حقه في العودة وحفظ تلك الأحداث كي لا تنسى.
كما استغل الأحفاد وسائل التكنولوجيا لحفظ مواقف كثيرة عاشها الأجداد الذين باتوا في سنّ كبير اليوم، منهم دشّن صفحة عبر فيسبوك أو إنستغرام أو بودكاست يتحدث عبر فيديوهات مختلفة مع الجد أو الجدة عن قصص لا تزال تحفظها ذاكرتهما.
وترك جيل النكبة الأول مقتنيات كثيرة لا يزال الأبناء والأحفاد يحفظونها كالمفتاح الذي بات يرمز إلى عودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم، وكذلك بعض الأثواب المطرّزة والأدوات التراثية العتيقة التي يشهد قدمها على وجود هذا الجيل في تلك الأرض المسلوبة، لذا يستعرض “نون بوست” بعض المبادرات التي أطلقها فلسطينيون لحفظ رواية الأجداد عن النكبة.
معرض “قول يا طير”
مع أن الوجوه شاخت إلا أن الذاكرة لا تزال تحتفظ بتفاصيل النكبة، فهي منقوشة في عقل الجيل الأول الذي يسرد الوقائع وكأنها تحدث أمامه، وذلك عبر أفلام وثائقية باتت مرجعًا لكثير من أحداث النكبة.
كما دُشنت مراكز فلسطينية لحفظ قصص النكبة وتوثيقها على ألسنة من عايشوها، عدا عن صفحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحفظ كل ما يثبت حق العودة للفلسطيني بالدليل.
كل عام تحمل الباحثة الفلسطينية فيحاء عبد الهادي وفريقها في مركز الرواة معرض “قول يا طير”، تجوب به البلاد العربية لتنقل حكايات التهجير على ألسنة من عايشوا زمن النكبة عام 1948.
يحتوي معرض “قول يا طير” حكايات مصوّرة ومقتنيات جمعت من أشخاص جلبوها من بيوتهم القديمة، وأثِروا أن تكون جزءًا من المعرض.
ويضمّ المعرض ركنًا تعرض فيه فيديوهات لأشخاص هاجروا من قراهم إلى قطاع غزة، ثم استقر بهم الحال في دول عربية أمثال محمد حسين، وهو من أوائل مدربي الثوار الفلسطينيين الذي عاش حياته في مصر.
ومن المقتنيات التي جمعها فريق مركز الرواة حلي وملابس وشهادات ميلاد وبطاقات هوية، بالإضافة إلى مطرزات وساعة يد عتيقة حملتها معها اللاجئة عفاف التميمي أثناء هجرتها.
كما يعرض فستان زفاف وغطاء سرير، وفي كل مرة يتشجّع زوار المعرض ويرسلون مقتنيات لذويهم احتفظوا بها بعد الهجرة.
ويعد معرض “قول يا طير” من ضمن المشاريع التي ينقل من خلالها الفلسطيني روايته الصحيحة، ويحفظها بطريقته وهو يتنقل بها من دولة إلى أخرى.
ولأن الصغار من الأحفاد هم رفقاء الأجداد، يستغلون خبرتهم بالتكنولوجيا وينصتون للجد بأسلوبهم، فكل قصة تروى توثَّق بـ”كبسة زر” عبر الهاتف بفيديو، تمامًا كما فعلت جمانة حسنين حين وثّقت لجدها محمد حسين حكايات عن قرية كوكبا التي احتلتها “إسرائيل”، وهو يستذكر يوم خرجوا من بيوتهم بطريقة مرعبة، فكانت تسأل عن تفاصيل تخطر على بالها وهو يردّ وكأنه يعيش لتوه الحدث.
واستغلَّ مركز الرواة فيديو جمانة مع جدها لعرضه في “قول يا طير” ولاقى استحسانًا كبيرًا من قبل الجمهور، لدرجة أن حكاية الجد باتت تجسَّد على خشبة المسرح.
أفلام درامية تحاكي تفاصيل النكبة آخرها “فرحة”
في السنوات الأولى عانت النكبة الفلسطينية من أزمة في التوثيق وحفظ الروايات التي تبعت الأحداث، لكن خلال العقود الأخيرة بدأت الجهود تتكثّف لاستحضار الروايات الشفهية للفلسطينيين الذين عايشوا تفاصيلها.
وكانت التجربة الفلسطينية في إنتاج الأفلام قبل النكبة محدودة، لكن بعد ذلك خرجت العشرات من الأفلام التي تحاكي بأسلوب درامي مأساة شعب على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، وغالبيتها حصدت جوائز دولية وعالمية.
ومع مرور 75 عامًا على النكبة وتوالي الأحداث السياسية الساخنة، إلا أن تراكمات التهجير بقيت تؤثر على أي عمل درامي، ومن أبرز الأعمال الدرامية والروائية التي تجسّد مواقف من النكبة كان فيلم “الزمن الباقي” للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، حيث سرد تاريخ عائلته بأسلوب لا يخلو من السخرية.
كانت البداية من رحلة الأب مع المقاومة ضد عصابات الصهاينة في عام 1948، مرورًا بكل لحظات المقاومة المسلحة والسلمية، حتى قدوم جيل الأبناء، هوية ترفض الطمس، ومعاينة عن قرب للحظة سرقة الأرض الأولى.
ومن الأفلام أيضًا “إن شئت كما في السماء” يروي حكاية فلسطيني ملَّ من مضايقات الاحتلال فحاول أن يجد له منزلًا آخر حول العالم، ليكتشف بعد رحلة قصيرة أن العالم كله يعاني، العالم كله يذكّره بوطنه المحتل.
وفيلم “200 متر” يروي المعاناة اليومية لأهل فلسطين بعد تقسيم أرضهم بجدار الفصل العنصري الذي أقامته قوات الاحتلال الإسرائيلي.
وكذلك فيلم “عمر” الذي تُكشف من خلاله دوافع الشباب الفلسطيني الحامل للسلاح في وجه قوات الاحتلال، كما نشاهد للمرة الأولى سينمائيًّا مشاهد حقيقية لتسلُّق جدار الفصل العنصري الذي أقامته قوات الاحتلال.
وكان آخر الأفلام “فرحة” الذي عُرض على منصة نيتفلكس وأثار غضب الإسرائيليين ومن يدعمهم في روايتهم المزيفة، حيث تنطلق أحداثه في فلسطين ما قبل النكبة وفي قرية صغيرة، ليُعاصر المشاهد تلك الحقبة بكل تفاصيلها من حيث الديكور والملابس واللهجة، وحتى روتين الحياة اليومية وأجواء الأسرة.
والفيلم مستلهم من قصة حقيقية لفتاة تحمل الاسم ذاته (فرحة) عاشت خلال أربعينيات القرن العشرين، قبل النكبة، في إحدى قرى فلسطين، وكانت تحلم بالانتقال إلى المدينة ودخول المدرسة، وبعد محاولات مضنية مع والدها وافق وتخلى عن العادات السائدة التي تستدعي زواج الفتاة في أقرب فرصة، ولكن تلك السعادة لم تستمر سوى يوم واحد، وبعده مباشرة بدأت أحداث النكبة الفلسطينية (عام 1948).
يحاول الأب تهريب ابنته إلى المدينة لكنها ترفض، فيكون الحل حبسها في غرفة تخزين الطعام في باحة منزلهم، لحمايتها من الجنود الإسرائيليين الذين يقومون بعملية “تطهير عرقي” لساكني القرى والمدن التي يدخلونها.
وتحمل قصة النكبة الفلسطينية فظائع، مثل تلك التي حدثت في فيلم “فرحة” بل أسوأ حيث قُتلت عائلات بالكامل، وأخرى تمَّ تهجيرها وتشتّت أهلها في البقاع، والسكان الذين هربوا على الأقدام حتى حدود البلاد العربية المجاورة، ليصبحوا لاجئين على بُعد كيلومترات قليلة من أرضهم الأمّ.
بالتصاميم والأزياء تُحفظ الهوية الفلسطينية أيضًا
حين يعي الفلسطيني قضيته جيدًا، يحمل على عاتقه نقلها لأي مكان وبأدواته الخاصة، تمامًا كما فعلت مصممة الأزياء الفلسطينية نفين القاضي، حيث تقول لـ”نون بوست” إنها تعيش في الإمارات ومنذ بداية عملها في مجال التصميم قررت إبراز هويتها الفلسطينية على طريقتها.
وذكرت القاضي أنها تحرص أن يكون لكل ثوب تطرزه حكاية، موضحة أن ما تصمّمه ويعرَض في بيوت أزياء عالمية ليس مجرد ألوان مزركشة، بل لكل غرزة في الفساتين مغزى ومعنى.
وتشير إلى أنها تربّت على فكرة المقاومة بكل أشكالها كالفنّ والرسم والموسيقى والأزياء، مؤكدة أن المحافظة على التراث بحدّ ذاته سلاح كبير يعكس الهوية الفلسطينية.
من أزياء نفين القاضي في باريس
وتوضّح القاضي أن المرأة الفلسطينية تنسج ثوبها بالفطرة لذا بقيت تحافظ على هذا الإرث وتطوره، مبيّنة أن محاولات الاحتلال لسرقة الثوب الفلسطيني فشلت لأن المرأة الأصلية تدرك معنى كل غرزة تنقشها في ثوبها، فالطريقة مدروسة وليست عشوائية.
وتحلم مصممة الأزياء أن تصل إلى العالمية عبر أثوابها المطرزة، لتحكي عبر تصاميمها الوطنية حكايا التهجير وحق العودة، وتثبت الرواية الفلسطينية.
يذكر أن هناك أشكالًا وألوانًا مختلفة للثوب الفلسطيني، فالنقشة المطرزة تختلف من منطقة إلى أخرى، حيث مثلًا مدينة يافا لا تشبه في أثوابها المجدل.
ورغم مرور 75 عامًا على النكبة، إلا أن الفلسطيني لم يملَّ ولو لمرة في استخدام كل الأدوات المتاحة لنقل معاناته وهموم قضيته والدفاع عنها، سواء بالفن أو السلاح، ليؤكد حقه في العودة إلى قريته التي هُجّر أجداده منها قسرًا.