في الأقاليم الهشة (Soft States) تنشطر الأزمات وتتطاير شظاياتها لتمتد إلى ما هو أبعد من المحيط الجغرافي الضيق لها، ويتأرجح تأثير تلك الشظايا في المناطق المجاورة على حسب صلابة جدران تلك المناطق وقدرتها على امتصاص هذا التطاير بأقل الأضرار، وينطبق هذا على الأزمة السودانية الراهنة وحرب الجنرالات المشتعلة بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، منذ منتصف أبريل/نيسان 2023 وحتى اليوم، والمتوقع أن تستمر إلى حين، في ظل انسداد الأفق السياسي وتغذية إطالة أمدها بشكل مثير للشكوك.
في تصريحات له نشرتها صحيفة “فيلت أم زونتاغ” الألمانية في عددها الصادر اليوم الأحد 30 أبريل/نيسان 2023، قال مفوض الشؤون الإنسانية بالاتحاد الأوروبي، يانيز لينارتشيس: “هناك مخاطر حقيقية لتوسع الأزمة لتصل لدول جوار (السودان)”، متوقعًا مزيدًا من التصعيد في المواجهات بين الجنرالين بما يزيد من تفاقم الوضع داخليًا وخارجيًا.
ويشترك السودان حدوديًا مع 7 دول (مصر من الشمال وليبيا من الشمال الغربي وتشاد من الغرب وجمهورية إفريقيا الوسطى من الجنوب الغربي وجنوب السودان من الجنوب وإثيوبيا من الجنوب الشرقي وإريتريا من الشرق)، ولو أضيف لها دول جوار الجوار فإن العدد سيزيد على 17 دولة يتجاوز تعداد سكانها 500 مليون نسمة، كل تلك الدول، ترتبط ارتباطًا وثيقًا باستقرار السودان سياسيًا وأمنيًا، بل واقتصاديًا كذلك.
وبعيدًا عن التحذيرات الصادرة عن المؤسسات الأممية بشأن مخاطر تجاوز الحرب في السودان لحدودها الجغرافية الضيقة واحتمالية تحولها إلى حرب إقليمية أو دولية، في ظل رضوخ طرفي الصراع للعديد من الأجندات التي تهيمن على مسار العملية العسكرية في الداخل، فإن ارتدادات تلك المواجهات على دول الجوار الحدودية الملاصقة للسودان ستكون قوية، بل إن بعض الدول ربما تتعرض لهزات أمنية وسياسية عنيفة جراء ما يحدث في الداخل السوداني نظرًا لحالة التشابكات والارتباطات المعقدة التي تربط بين دول الجوار تلك.
فالموقع الجيوسياسي المحوري لهذا البلد الواقع في بؤرة الممرات المائية اللوجستية (عند تقاطع المحيط الهندي مع القرن الإفريقي والساحل والعالم العربي، كما يمر به نهر النيل وخطوط أنابيب النفط)، فضلًا عما يتمتع به من ثروات معدنية هائلة، وإمكانات اقتصادية قوية، كل ذلك جعل علاقاته بجيرانه مرتبطة بمصير واحد، فما يحدث في أي من تلك البلدان سرعان ما ينتقل صداه إلى الدول الأخرى.
مصر.. ثلاثية الأمن والماء والسياسة
تتقاطع مصر مع السودان في شريط حدودي يبلغ طوله 1276 كيلومترًا، يبدأ من جبل العوينات مع ليبيا ثم يتقدم شرقًا شمال بحيرة ناصر وينحرف شمالًا نسبيًا فيما يعرف بـ”نتوء وداي حلفا” قبل أن يتجه على طول البحر الأحمر جنوب رأس علبة، ومنه إلى الشمال الشرقي حيث مثلث حلايب.
هذا الشريط الحدودي المتعرج شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، ربط مصر والسودان برباط جغرافي لا تنفصم عراه، ومما زاد من تماسك هذا الترابط نهر النيل الذي يشق وسط السودان، قادمًا من إثيوبيا، ومنه إلى الأراضي المصرية، كونه مصدر الري والشرب الأكبر والأدوم في البلاد.
ومن هنا فإن الخرطوم إذا ما أصيبت بزكام، لا شك أن القاهرة ستعاني من الرشح وارتفاع درجة الحرارة، الأمر الذي يجعل ما يحدث في السودان له ارتدادات عدة على الجارة الشمالية التي تربطها عشرات الروابط والأواصر التي تجعل من البلدين لحمة واحدة وإن فرقت بينها الحدود والخلافات السياسية.
الأمن القومي.. التأثير الأبرز لما يحدث في السودان على مصر يتعلق بالجانب الأمني، فاستقرار الوضع السوداني وفرض التهدئة والبعد عن الاضطرابات والحروب الأهلية وتجنب الولوج في صراعات هنا وهناك، هو الضمانة الوحيدة للحفاظ على الأمن القومي المصري، والعكس صحيح، فإن أي حراك من شأنه إحداث اضطرابات وقلاقل في الداخل السوداني يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن المصري.
وتنطلق مخاوف الأمن المصري مما يحدث في السودان من ركيزة نقل عدوى الميليشيات المسلحة السودانية – على كثرتها – إلى الداخل المصري، بخلاف إثارة الفوضى على الحدود الجنوبية للدولة المصرية، الوضع كذلك على الحدود الغربية مع ليبيا، حيث سيطرة ميليشيات الجنجويد وغيرها من الميليشيات السودانية المسلحة المنضوية تحت لواء حميدتي على الشريط الحدودي بين السودان وليبيا، وهو ما يمثل تهديدًا للأمن المصري من تلك الناحية.
كما أن ترك السودان ساحة مستباحة لمختلف القوى والأجندات، وتحويل المدن السودانية إلى مسرح كبير للأجندات الإقليمية والدولية، من شأنه أن يضع الأمن القومي المصري على المحك، ويمثل خنجرًا في ظهر الدولة المصرية ناحية الجنوب، وهو ما تتجنبه مصر وتسعى جاهدة للحيلولة دون الوصول إلى تلك المرحلة والعمل على احتواء الأزمة بين الجنرالات قبل تفاقم الوضع بما يمهد للتدخلات الدولية.
الماء وسد النهضة.. يمثل السودان ضلعًا محوريًا في مفاوضات سد النهضة مع الجانب الإثيوبي، ولطالما توترت العلاقات بين الخرطوم والقاهرة بسبب تباين المواقف إزاء هذا الملف الذي يمثل قضية حياة أو موت للمصريين الذين يعتمدون على مياه النيل بصفة أساسية، ومن ثم فإن العبث بحصتهم السنوية يعني باختصار تعطيشهم وتهديد حياتهم وحياة أبنائهم.
تكدس كبير للشاحنات وحافلات النقل السفرية في المعبر الحدودي بين #السودان ومصر. pic.twitter.com/BgJX9vNBUi
— Sudan News (@Sudan_tweet) April 26, 2023
وتعلم القاهرة جيدًا أن استمرار الوضع الملتهب في السودان قد يزيد من تفاقم أزمة السد ويفقد القاهرة حليفًا مهمًا في معركة المواجهة الدبلوماسية مع أديس أبابا، ومن ثم تحاول العمل جاهدة لاستتباب الأمن وفرض الاستقرار والتهدئة بين حميدتي والبرهان بما يحافظ على اللحمة السودانية من التفتت والتشرذم الذي لن يصب في صالح الدولة المصرية بالمرة.
بعدا السياسة والاقتصاد.. فكرة أن ينزلق السودان نحو آتون الاحتراب الأهلي والتمهيد بدخول القوى الدولية كما طلب حميدتي بنفسه، فكرة تحمل بين ثناياها الإبقاء على الجنوب المصري في خطر دائم، ليس الخطر الأمني فقط، بل خطر سياسي ولوجستي في ظل تصاعد الدعوات بين الحين والآخر بشأن أحقية السودان في منطقة حلايب وشلاتين، وعليه فإن إطالة أمد تلك الأزمة سيخلق واقعًا سياسيًا غير جيد للقاهرة هي في غنى عنه في الوقت الراهن.
ومن السياسة إلى الاقتصاد، فالنزوح الجماعي السوداني المتوقع هربًا من ويلات الحرب قد يزيد من أعباء مصر الاقتصادية، التي تعاني في الأساس من أوضاع معيشية متدنية، وهي النقطة التي شكلت صداعًا كبيرًا في رأس قطاع ليس بالقليل من المصريين ممن تخوفوا من تداعيات هذا النزوح الاقتصادية وتأثيره على الحياة المعيشية للمصريين، مع الوضع في الاعتبار وجود أكثر من 7 ملايين وافد في مصر من جنسيات مختلفة.
ومن هنا فإن كل الحلول والمبادرات غير عودة الاستقرار وإنهاء تلك الحرب لن تصب في صالح مصر والمصريين، ورغم دعم القاهرة للجيش والبرهان، بما يتناغم مع العقيدة العسكرية المصرية الداعمة للجيوش النظامية في مواجهة أي فصائل فرعية أو ميليشياوية، فإن الجانب المصري ليس لديه أي مشكلة في الوساطة لحل تلك الأزمة والجلوس مع طرفي الصراع لتحجيم الفتنة قبل تجاوزها الخطوط الحمراء التي تخشاها مصر.
ليبيا.. مخاوف الفوضى السياسية والأمنية
تتقاطع الحدود بين السودان وليبيا لمسافة تقدر بنحو 382 كيلومترًا (237 ميلًا) تبدأ من النقطة الثلاثية مع مصر في الشمال وصولًا إلى النقطة الثلاثية مع تشاد في الجنوب، فيما يقبع الشريط الحدودي الجنوبي بأكمله تحت قبضة الميليشيات المسلحة وعلى رأسها الجنجويد، المعروفة حاليًّا باسم قوات الدعم السريع التي يتزعمها حميدتي.
وللأوضاع الحاليّة في السودان ارتداداتها المؤثرة على الداخل الليبي، خاصة الجانب الشرقي الذي تسيطر عليه قوات خليفة حفتر، الذي وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه منذ اندلاع تلك الحرب بين حليفه وداعمه الميليشاوي الأكبر، حميدتي، وخصمه الجنرالي البرهان، فخسارة أي من الطرفين أو انتصارهما ليس في صالح ثقل حفتر ونفوذه العسكري والسياسي.
وقد عبر رئيس هيئة التنظيم والإدارة العسكرية بالجنوب، التابع لقيادة حفتر، العميد عبد السلام البوسيفي، عن هذا القلق حين وجه نداءً عاجلًا لرئاسة الأركان في الشرق والغرب لسرعة تفادي الموقف من خلال إغلاق الحدود مع السودان، مطالبًا بـ”تكليف قوات عسكرية بحمايتها، ومنع أي تسلل، ووضع طائرات للاستطلاع بمطار الكفرة” القريب من الحدود، محذرًا من الاشتباكات في السودان وتداعياتها على الشأن الليبي، منوهًا إلى ضرورة الاحتذاء بدولة تشاد التي أغلقت حدودها مع السودان بصورة كاملة منذ بدء المعركة.
منذ 2015 يخضع الجنوب الليبي إلى سيطرة الميليشيات المسلحة، ما تسبب في إحداث فراغ أمني سلطوي من الجانب الليبي تمامًا، وقد استغلت الجنجويد هذا الفراغ لتعزيز نشاطها وحضورها ونفوذها في تلك المنطقة، فكانت الجسر الأكبر لتهريب الذهب إلى الخارج، كذلك تهريب المرتزقة إلى ليبيا وبعض البلدان كنوع من التجارة والاسترقاق، وكان قائد قوات الدعم السريع هو السمسار الأكبر لتلك التجارة الرائجة.
بعد فشل #حفتر في إرسال دعم العتاد العسكري من مطار #الكُفرة في ليبيا لمساندة #الدعم_السريع.. وفقد نقطة الإنزال في مطار #مروي فإن الشكوك تتجه للاستعانة بمرور الدعم عبر دولة افريقيا الوسطى التي يديرها مرتزقة #فاغنر حلفاء #حميدتي وحفتر وهو ما يمكن أن يبرر الأحداث في #الجنينة.… pic.twitter.com/s16f62Lnvd
— يوسف النعمة (@YousifAlneima) April 28, 2023
كان الوضع على تلك الشاكلة مقبولًا لدى حفتر خاصة بعد تدعيم الجنجويد لقواته في معاركها ضد حكومة السراج وفي حروبه لتوسيع نفوذه في وسط وغرب ليبيا، إذ كان السواد الأعظم الذي حارب في صفوف حفتر في معركة طرابلس التي خسرها عام 2019- 2020 هم من الجنجويد، ومن ثم ترك لهم الجنوب نظير هذا الدعم.
اليوم المشهد يحمل الكثير من ملامح التغيير، فدخول حميدتي كطرف أساسي في تلك المعركة سيدفعه بطبيعة الحال للاستعانة بقواته المتمركزة في ليبيا، وهو ما قد يضعف من ثقل حفتر ويقلل من نفوذه بطبيعة الحال، وفي الوقت ذاته لا يمكنه الرفض أو الاعتراض لما قد يترتب على ذلك من صدام مع تلك الميليشيات هو في غنى عنه حاليًّا.
الوضعية الليبية، أمنيًا وسياسيًا، تزداد تعقيدًا كلما طال أمد الحرب بين الجنرالات في السودان، حتى إن انتهت – عاجلًا أم آجلًا، فإن الأمر لن يتغير، ففي حال انتصار حميدتي وقواته، فإن نفوذه سيزداد بطبيعة الحال في منطقة الجنوب الليبي لتعزيز حضوره، ومن ثم سحب تلك المنطقة برمتها من تحت أقدام حفتر وقواته، وفي حال خسارته فإنه من المتوقع أن يلجأ إلى تلك المنطقة الآمنة للاحتماء بها واتخاذها نقطة تمركز جديدة لبناء ميليشياته وتعزيز قدراتها العسكرية من جديد، بل ربما يتخذها مركزًا لبدء مرحلة جديدة من حرب العصابات المعتادة لديه، وفي كلتا الحالتين فإن الفوضى الأمنية والسياسية الليبية ستكون كلمة السر إزاء ما يحدث.
اللافت هنا أن القوى الداعمة لحفتر هي ذاتها الداعمة لحميدتي، وعلى الأخص منها الإمارات وروسيا، وهو ما يجعل الصدام بينهما أمرًا مستبعدًا، فكلاهما ينفذان أجندات واحدة، وعليه قد يرضخ حفتر – حماية لنفوذه – بقبول حميدتي (المدعوم بقوة – بجانب الإمارات – من أوروبا لدوره في محاربة المرتزقة واستهداف المهاجرين غير الشرعيين للأراضي الأوروبية) وميليشياته شريكًا سلطويًا في حكم المنطقة الجنوبية الليبية.
جنوب السودان.. ثلاثية الاختناق الاقتصادي والتهديدات الأمنية واللاجئين
يرتبط السودان مع جارته الجنوبية المنفصلة عنه عام 2011 بشريط حدودي يبلغ طوله 1931 كيلومترًا (1200 ميل)، فيما تعاني العلاقات بين البلدين من مشاكل الترسيم وأزمات السيطرة على بعض المناطق، ما جعل هذا الشريط الطويل محل نزاع مستمر بين الدولتين رغم الاتفاقيات المبرمة بينهما.
ورغم الثراء النفطي لجنوب السودان، الذي أحدث ضربة موجعة للسودان اقتصاديًا بعد الانفصال، فإن الجنوب لا يمكنه التمتع بتلك الثروة بمعزل عن الشمال الذي يعد المعبر الوحيد أمامه لتصدير نفطه والحصول على عوائده، ومن ثم فإن استمرار الحرب يعني بطبيعة الحال وقف هذا الممر، الأمر الذي يعتبر “شللًا كاملًا” للاقتصاد الجنوب سوداني الذي يعتمد في المقام الأول على هذا المورد في ظل شح وندرة الثروات الأخرى.
وزير خارجية جنوب السودان للجزيرة مباشر: نؤمن أن حل الأزمة يبقى بيد السودانيين أنفسهم ونحذر من تدويل الصراع#الجزيرة_مباشر #السودان pic.twitter.com/hAqous4Xdj
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) April 29, 2023
كما أن الجزء الشمالي من جنوب السودان يعتمد بشكل كامل على السلع والإمدادات القادمة من السودان، ومن ثم فإن الوضع اليوم مرشح للتفاقم إنسانيًا بعد توتير الأجواء في الداخل السوداني ووقف معظم حركة الإمداد والتجارة شمالًا وجنوبًا، وهو ما ينذر بأزمة جديدة بدأت إرهاصاتها تلوح في الأفق مع الأسبوع الأول للحرب.
علاوة على ذلك فإن شبح المعركة الدامي قد يدفع ملايين السودانيين إلى الهروب بحياتهم إلى الجارة الجنوبية، هذا بخلاف نزوح سكان الشمال إلى الوسط والجنوب (علمًا بأن هناك نحو 800 ألف لاجئ من جنوب سودان يعيشون في السودان، جراء الحرب الأهلية التي ضربت البلاد ويتوقع عودتهم في ظل تلك الأزمة)، وهو ما يعني إرهاق حكومة الجنوب بأعباء ليست في استطاعتها في الوقت الراهن، إذ يعتمد 75% من سكان جنوب السودان البالغ عددهم 12 مليون نسمة على المساعدات الإنسانية، هذا بخلاف 2.3 مليون جنوب سوداني لاجئين في بلدان مجاورة، بجانب مليونين آخرين نازحين داخليًا.
وهنا ومع النزوح المتوقع، فإن الأمن – وليس الاقتصاد وحده – بات في مرمى الاستهداف، فالتكالب على الموارد الشحيحة، والتنافس بين أهل الشمال والجنوب على لقمة العيش، سيشعل المشهد أمنيًا، ويتسبب بطبيعة الحال في صراعات ونزاعات قد ترتقي لدرجة التهديدات الأمنية الملحة، وهي البيئة الملائمة تمامًا لنمو وانتشار الجماعات المسلحة وتفشي سياسات الابتزاز، الأمر الذي يحمل بين طياته تهديدًا مباشرًا لأمن واستقرار دولة الجنوب، ومن هنا جاء التحرك مع القاهرة للتوسط من أجل وقف شلالات الدماء المتوقعة ووضع حد سريع لتلك المواجهات السودانية قبل تفاقم الوضع.
وهناك بعد اقتصادي آخر ربما يزيد من تأزم المشهد اقتصاديًا، يتعلق باعتبار السودان المتنفس البحري الوحيد للعديد من البلدان المجاورة المغلقة والحبيسة التي لا تطل على أي ممرات مائية، كتشاد وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى وإثيوبيا، إذ تعتمد تلك البلدان على ميناء بورتسودان في توفير احتياجاتها من الخارج، ومع تصاعد الموقف قد يتم وقف العمل بالميناء، كما حدث من قبل، ما يعني غلق المنفذ الوحيد لتلك البلدان، وما لذلك من ارتدادات اقتصادية كارثية في ظل ما تعاني منه هذه الدول الحبيسة من موارد قليلة واعتماد شبه كلي على الاستيراد من الخارج.
تشاد.. فوضى أمنية وتهديدات سياسية
يرتبط السودان بتشاد بحدود عريضة يبلغ طولها 1403 كيلومترات وتمتد من النقطة الثلاثية مع ليبيا في الشمال إلى النقطة الثلاثية مع جمهورية إفريقيا الوسطى في الجنوب، ويتشابك البلدان بحزمة من الملفات المعقدة على رأسها التدخلات الأمنية هنا وهناك، واتهامات متبادلة بين الخرطوم وإنجامينا بزعزعة نظامي الحكم وتقويض الأمن والاستقرار.
وشهدت العلاقات بين البلدين خلال العقدين الأخيرين توترات حادة، بسبب اتهامات تشاد للسودان بدعم المتمردين ومحاولة قلب نظام الحكم لديها، حيث تنشط ميليشيات الجنجويد بجانب مجموعة “فاغنر” الروسية، وهاتان الميليشيتان هما الخنجر الأكثر تهديدًا في ظهر حكومة ديبي، الأب والإبن.
وكانت ميليشيات الجنجويد قد نفذت العديد من الهجمات في الداخل التشادي وعلى الحدود مع السودان خلال عملية القمع في إقليم دارفور، حيث لاحقت الفارين من اللاجئين السودانيين إلى الأراضي التشادية، وهو ما اعتبرته إنجامينا تدخلًا غير مقبول، الأمر الذي زاد من توتر العلاقات إبان عهد عمر البشير.
نزوح اللاجئين السودانيين إلى تشاد يستمر بسبب المواجهات المسلحة المستمرة في #السودان | تقرير: فضل عبد الرزاق#الأخبار pic.twitter.com/cAQi44uGL6
— قناة الجزيرة (@AJArabic) May 1, 2023
وقد أعلن البنتاغون قبل فترة عن وثائق تكشف تعاونًا كبيرًا بين الجنجويد وفاغنر من أجل تجنيد المتمردين التشاديين وتدريبهم في إفريقيا الوسطى، بهدف الإطاحة بالنظام السياسي في تشاد، الذي يعد الحليف الأبرز للولايات المتحدة في منطقة الساحل الإفريقي، والمستهدف بطبيعة الحال من ميليشيات فاغنر الروسية في ظل صراع النفوذ بين واشنطن وموسكو داخل القارة السمراء.
وخلال الحروب التي خاضها السودان السنوات الماضية، خاصة في دارفور، نزح أكثر من 400 ألف سوداني إلى تشاد، بجانب 20 ألف آخرين نزحوا منذ اشتعال المعركة الحاليّة بين حميدتي والبرهان، وسط توقعات بتضاعف هذا الرقم إذا استمرت الحرب، ما يعني احتمالية حدوث فوضى أمنية وسياسية داخل الأراضي التشادية، خاصة إذا تسرب من بين النازحين موالين لقوات الدعم السريع، مع الوضع في الاعتبار الأعباء الاقتصادية المترتبة على هذا النزوح لبلد يعاني في الأصل من أوضاع اقتصادية هشة لا تتحمل أي كلفة إضافية.
المأزق هنا أن حكومة تشاد تعاني من علاقات متوترة مع طرفي الصراع في السودان، الجيش وقوات الدعم، ومن ثم فإن أي نتيجة كانت ستسفر عنها تلك المواجهة لن تصب في صالحها، هذا بخلاف القلق المتزايد من نشوب حرب إقليمية بالوكالة في المنطقة، وتعزيز نشاط الحركات المسلحة وهو الكابوس الذي يهدد الكثير من الأنظمة في المنطقة، بما فيها النظام التشادي.
إفريقيا الوسطى.. مأزق الميليشيات وهشاشة الاقتصاد
من البلدان التي يتوقع أن تكون ضمن الأكثر تأثرًا بما يحدث في الداخل السوداني جمهورية إفريقيا الوسطى، التي تتقاطع مع السودان بشريط حدودي يبلغ طوله 174 كيلومترًا (108 أميال) يبدأ من النقطة الثلاثية مع تشاد في الشمال، ثم الجنوب من منطقة كافيا قنجي المتنازع عليها بين السودان وجنوبه، وصولًا إلى النقطة الثلاثية مع جنوب السودان في الجنوب.
وتعاني الجمهورية الإفريقية الحبيسة التي لا تتجاوز مساحتها 620.000 كيلومتر مربع (240.000 ميل مربع)، ويقبع أكثر من نصف سكانها في مستنقعات الفقر المدقع، من حروب أهلية طيلة السنوات الماضية، أسفرت عن وضعية معيشية متدنية ونظام سياسي هش واستقلالية رخوة، حيث ترضخ الدولة في معظم مناطقها لسيطرة المجموعات المسلحة وفي مقدمتها فاغنر التي تهيمن على مواردها وثرواتها التعدينية.
الأمم المتحدة: 6 ملايين سوداني فروا إلى أفريقيا الوسطى منذ الاشتباكات بين الجيش و #الدعم_السريع#الحدث pic.twitter.com/XItlCyvMlE
— ا لـحـدث (@AlHadath) May 1, 2023
اشتعال الوضع في السودان سيكون له تأثيره الفج بالتبعية على الشأن الداخلي للجمهورية الوسطى التي تعتمد في المقام الأول على ميناء بورتسودان في الحصول على احتياجاتها الخارجية، فضلًا عن إمدادات السلع والغذاء القادمة عبر السودان، وهو الممر الوحيد لها، الذي يوشك أن يتوقف مع استمرار أمد الحرب، ما يعني أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة سيكون لها ارتداداتها الأمنية والمجتمعية على الدولة بأكملها.
الأمر يزداد تعقيدًا مع تدفق آلاف النازحين السودانيين إلى إفريقيا الوسطى، فوفق مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تدفق 6 آلاف سوداني إلى الجمهورية خلال أول أسبوعين فقط من الاشتباكات، وصل اليوم إلى 6 ملايين شخص بحسب المنظمة الأممية، وهو ما يعقد الوضع الإنساني والمعيشي كما أشار مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” الذي أعلن أن النازحين السودانيين لإفريقيا الوسطى يعيشون في “مخيمات عشوائية” قرب بلدة أم دافوق الحدودية، مضيفًا “لقد تعطّلت التجارة بين السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى بشدّة، ما أدى إلى زيادة حادة في أسعار الضروريات الأساسية”، في حين أن “120 ألف شخص يحتاجون إلى مساعدات غذائية” في شمال إفريقيا الوسطى.
وتخشى بانجي من استمرار الحرب في السودان وما يمكن أن يسفر عن تعاظم دور الميليشيات المسلحة، خاصة الجنجويد بجانب فاغنر، داخل أراضيها، والتخوف من تحويلها إلى مركز لها في مواجهة الجيش السوداني، فضلًا عن استمرار عمليات نهب وسرقة الموارد الطبيعية للدولة بما يزيد من إفقارها وإذلال شعبها.
إثيوبيا: من صراع الحدود إلى سد النهضة
تتشارك إثيوبيا مع السودان في حدود يبلغ طولها 1600 كيلومتر تقريبًا، بعدما كانت نحو 220 كيلومترًا قبل استقلال جنوب السودان عام 2011، ولا يزال نزاع الحدود بين الجارتين مستمرًا حتى اليوم وهو أحد المعضلات الرئيسية في توتير الأجواء بين الجارتين الأكثر التصاقًا في الإقليم.
وتتشابك الدولتان بحزمة من الملفات العالقة تجعل ما يحدث في أي منهما مثار ترقب الآخر، فما يشهده السودان تنتقل عدواه بشكل أو بآخر إلى إثيوبيا، والعكس صحيح، وهو ما دفع كثير من المحللين إلى القول بأن كلا البلدين مرتبط بالآخر، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
وتتبادل كل من الخرطوم وأديس أبابا الاتهامات فيما بينهما حول تورط كل منهما فيما يحدث لدى الآخر من اضطرابات وفوضى، فالأوضاع الملتهبة سودانيًا اليوم تتُهم إثيوبيا بالعمل على تأجيجها بسبب الخلافات بين الدولتين، وما حدث في الداخل الإثيوبي قبل عامين حيث النزاع بين الحكومة وإقليم التيغراي كان السودان على رأس قوائم الاتهام بالضلوع وإشعال الموقف.
? #عاااااااجل : ﺍﺳﺘﺠﺎﺑﺘﺎ لبعض الشكاوى التي وصلتنا في معبر المتمة، حول التأخير في الاجراءات وما شابه، الحكومة الأثيوبية تقوم بإرسال لجنة فنية متخصصة لتسهيل عبور النازحين من السودان الشقيق الي أثيوبيا وتباشر عملها فوراً
بيوتنا مفتوحة لكم
ومرحباً بكم في بلدكم الثاني ??❤️?? pic.twitter.com/mrNjx0FDAM
— Ethiopia – اثيوبيا (@ArabicEthiopia) April 28, 2023
وتتصاعد الأصوات من داخل السودان بدعم الحكومة الإثيوبية لقوات الدعم السريع وحميدتي في تلك الحرب، وهو ما نفته أديس أبابا بشكل رسمي، لكن تبقى الشكوك والاتهامات المتبادلة قائمة، فيما يتوقع البعض أن تكون هناك ارتدادات قوية لتلك المواجهات على الملفات والقضايا المتشابكة بين الجارتين، على رأسها النزاع الحدودي وملف “الفشقة الصغرى والكبرى” وهي القضية التي أشعلت الصراع بين الدولتين خلال السنوات الأخيرة.
كذلك ملف التيغراي، حيث يربط الإقليم علاقات جيدة مع السودان الذي يعد الملجأ الأبرز لأبناء هذا الإقليم خلال حربه مع حكومة آبي أحمد، إذ استقبلت الأراضي السودانية أكثر من 50 ألف من التيغراي خلال العامين الماضيين، فيما يتوقع تعميق تلك العلاقات إذا استمر أمد الحرب بما يهدد النظام الإثيوبي ويفرض المزيد من التحديات أمام حكومة آبي أحمد والحكومات التي تليها.
هذا بخلاف ملف سد النهضة والأمن المائي الإثيوبي، إذ قد تعرقل تلك المواجهات مساعي أديس أبابا نحو الملء الرابع للسد، وتأمين حدوده، ويقلم أظافرها نحو تحقيق حلمها في الانتهاء من هذا المشروع الذي يعتبره الإثيوبيون الأهم في تاريخهم الحديث لما يترتب عليه من طفرة اقتصادية متوقعة، ففي حال هزيمة قوات الدعم – التي تتهم إثيوبيا بدعمها – فإن ذلك قد ينعكس على موقف الخرطوم الرسمي من الملف برمته، (وهي الداعمة للموقف الإثيوبي في مجمله خلال السنوات الماضية) بما يميل نحو دعم الموقف القاهري، وهو ما يضع أديس أبابا في مأزق سياسي على طاولة المفاوضات خلال المرحلة المقبلة.
وعلى عكس ما يردده البعض من استفادة أديس أبابا من اشتعال الموقف الحاليّ داخل السوان، فإن توتير الأجواء على الحدود بين البلدين سيزيد من نشاط الحركات المسلحة والمعارضة للنظام الإثيوبي على هذا الشريط الممتد لأكثر من 1600 كيلومتر، إذ تشير التقديرات الحاليّة إلى وجود قرابة 10 جماعات مسلحة تستهدف الداخل الإثيوبي لإسقاط النظام، وفي حال تصاعد الموقف سودانيًا فإن هذا العدد مرشح للزيادة بما يهدد الأمن القومي والسياسي الإثيوبي.
إريتريا.. زعزعة الاستقرار الهش
يرتبط السودان مع إريتريا بشريط حدودي يبلغ طوله 605 كيلومترات، يحد إريتريا غربًا، والسودان من ناحية الجنوب الشرقي، ويعد ثاني أطول حدود برية لإريتريا (بعد حدودها مع إثيوبيا) والخامسة بالنسبة للسودان، هذا في الوقت الذي تعاني فيه العلاقات بين البلدين من توترات وصلت حد اتهامات الخيانة وإعلان الحرب.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي تهيمن شعارات الاتهام والاستهداف على أجواء العلاقات بين الجارتين، ففي عام 1994 اتهم الرئيس الإريتري أسياس أفورقي الخرطوم بدعم الجماعات الإسلامية في بلاده بهدف إسقاط نظام الحكم هناك، وفي المقابل اتهم الرئيس السوداني المعزول عمر البشير إريتريا بالخيانة عام 2002 إثر استهداف مواقع تابعة للجيش السوداني من الحركة الشعبية لتحرير السودان المدعومة حينها من أسمرة، لترد الأخيرة على تلك الاتهامات بأنها “إعلان حرب”.
وخلال العقدين الماضيين برزت العديد من الجهود الدبلوماسية ومبادرات الوساطة لتخفيف حدة التوتر بين البلدين ووضع حد لتبادل الاتهامات الذي لا يتوقف، لكنها باءت بالفشل حتى أعلنت حكومة البشير غلق الحدود بين الدولتين عام 2018 بسبب اتهام إريتريا بدعم وإيواء المعارضين السودانيين وتمويلهم.
التداعيات لن تنحصر في الجغرافيا المُسوّرة بالحدود الداخلية الأربعة للسودان، لكنها ستتجاوز ذلك إلى دول الجوار السبعة، ومنها إلى دول جوار الجوار الزاخرة بعشرات القواعد العسكرية الأجنبية
ويعد السودان الملاذ الآمن لكثير من الإريتريين أوقات الصراعات والنزاعات الداخلية، كما تنشط الجماعات المسلحة السودانية في الداخل الإريتري بشكل ملحوظ، وهو ما يمثل صداعًا في رأس النظام هناك، وفي حال اشتعال الموقف سوادنيًا فإن المخاوف تتصاعد من نزوح مضاد للإريتريين الموجودين في السودان هربًا من التجنيد الإجباري، بجانب سودانيين فارين من ويلات الحرب، إلى الأراضي الإريترية، وهو ما يحمل تهديدًا أمنيًا وسياسيًا لأسمرة من جانب، وزيادة الأعباء على اقتصادها المترهل من جانب آخر، ما يقود في النهاية إلى زعزعة الاستقرار الهش الذي تتمتع به إريتريا والقابل للانهيار في أي وقت.
وإلى جانب كل ذلك، هناك مخاوف من أن تسفر حرب الجنرالات تلك عن صياغة عقد اجتماعي يرسخ للنزاعات الإثنية، كما ذهبت الصحفية السودانية منى عبد الفتاح في مقال لها، لافتة أن الوضعية المشتعلة حاليًّا “سيستفيد منها بعض الإثنيات في دول الجوار ذات التداخلات العرقية مع مناطق التماس على حدود السودان من هذا الوضع، ما يشكل تهديدًا كبيرًا لاستقرار الدول المجاورة”، منوهة إلى أن دول الجوار التي تربطها صلات إثنية مع السودان ترى في أي نزاع داخلي للدول المجاورة فرصة لتوسيع نفوذها وزيادة رقعتها، مستشهدة بالقبائل شرق السودان المتداخلة مع القبائل الإثيوبية، ما يجعل مناطق النزاع الحدودية كالفشقة وغيرها “بيئة خصبة لتولد مجتمع بإمكانه فرض واقع جديد على السودان”.
وبحسب الكاتبة فإن هذا التأثير الإثني سيتوقف على المدى الزمني لحرب الجنرالات في السودان وتأثيرها الجغرافي والسياسي، الإقليمي والدولي، محددة 3 عوامل رئيسية تحدد حجم هذا التأثير، أولها: قدرة الجيش على حسم المعركة قبل تجاوزها الخطوط الحمراء، ثانيها: حالات اللجوء والحركة بين الحدود وما يمكن أن يترتب عليها من تبعات، ثالثها: مدى اعتماد المنظومة السياسية السودانية على المحاور الإقليمية في حل مشكلاتها، دون اللجوء إلى الخيار السهل المعتاد وهو الاستفتاء كما هو الحال في الحرب الأهلية جنوب السودان.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن ما يحدث في السوادن لم ولن يكن شأنًا داخليًا كما يحاول البعض أن يروج، وأن الصراع ليس بين البرهان وحميدتي فحسب، وبالتالي فإن التداعيات لن تنحصر في الجغرافيا المُسوّرة بالحدود الداخلية الأربعة للسودان، لكنها ستتجاوز ذلك إلى دول الجوار السبعة، ومنها إلى دول جوار الجوار الزاخرة بعشرات القواعد العسكرية الأجنبية، وسط تحذيرات من تفاقم الوضع وتحول المعركة إلى إقليمية وربما دولية إن لم يتم تدارك الأمر على وجه السرعة.