وافق طرفا النزاع في السودان –الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”- أمس، على تمديد الهدنة 3 أيام، بدءًا من موعد انتهاء سريان اتفاق وقف إطلاق النار الحالي منتصف ليلة الأحد، وذلك بناء على وساطة أميركية سعودية.
جاءت هذه الهدنة استجابة لنداءات دولية وإقليمية ومحلية، بهدف فتح الممرات الإنسانية وتسهيل حركة المواطنين والمقيمين وتمكينهم من قضاء احتياجاتهم والوصول إلى مناطق آمنة، لكن يبدو أن الطرفان لم يلتزمان بها، فالمعارك مستمرة إلى الآن.
تستمر المعارك بالأسلحة الثقيلة والخفيفة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم ومناطق سودانية أخرى، ما فاقم الوضع الإنساني أكثر في البلاد، ورفع عدد القتلى المدنيين، ودفع الآلاف إلى النزوح سواء داخليًا أو مغادرة البلاد بشكل كامل بحثًا عن أي شعور بالأمان والحياة بشكل اعتيادي.
تشير عديد المؤشرات إلى استحالة حسم المعركة ميدانيًا، فلا طرف له أن يحسم الصراع لصالحه بقوة السلاح، ما يمهد لتنازلات أو توافقات قادمة، قبيل مصالحة مرتقبة بين الطرفين، وهو ما يفسّر انتقال المعارك إلى دارفور ذلك المكان الذي خبره قائد قوات الدعم السريع، فهل يعود حميدتي من حيث جاء لضمان وجوده في السلطة؟
صعوبة حسم المعركة من قبل الطرفين
مرّ أكثر من أسبوعين على انطلاق المعارك في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، لكن الحسم لم يحصل بعد ولا يتوقع أن يحصل في القريب، فرغم تسيّد الجيش لسماء المعركة فإنه يجد صعوبة في طرد “الدعم السريع” من الخرطوم وباقي الأماكن التي يتمركز فيها.
يمتلك الجيش السوداني بقيادة البرهان طائرات مقاتلة ودبابات ومدرعات، مع ذلك لم يتمكّن حتى الآن من حسم المعركة لصالحه، بل على العكس، فالدعم السريع يؤكد تفوقه في العديد من المناطق ويفرض سيطرته على مراكز هامة في الخرطوم وعديد المدن الأخرى، ما يؤكد حصوله على دعم خارجي.
عدم قدرة أي طرف على حسم المعركة لصالحه، يعد مؤشرًا خطيرًا على أن القتال مرشح ليتواصل لفترة طويلة تهدد بسقوط مزيد من الضحايا خاصة المدنيين، ووفق نقابة أطباء السودان فقد بلغ عدد الوفيات بين المدنيين 425 حالة وفاة، فيما سجلت النقابة 2091 حالة إصابة بين المدنيين، لكن يرجح أن تكون الحصيلة أكبر من ذلك.
هدف حميدتي من هذه الخطوة ليس دارفور في حدّ ذاته، إنما البقاء في المشهد وتعزيز حظوظه في أي تسويات قادمة على السلطة
على الورق يبدو الجيش أقوى، إذ يبلغ عدده نحو 205 آلاف جندي، وفق تقارير عسكرية نشرها موقع “غلوبال فاير”، وهو ضعف عدد قوات الدعم السريع، ويمتلك الجيش طائرات حربية ودبابات ومركبات عسكرية ومدافع وراجمات صواريخ ووحدات بحرية، وهو ما لا تمتلكه قوات الدعم السريع شبه العسكرية، لكن المؤشرات على الميدان تظهر توازن قوة الطرفين.
هذا التوازن يوحي بإمكانية تكرار سيناريو الحروب الطويلة التي سبق أن عرفها هذا البلد العربي، على غرار تمرد جنوب السودان (1955-2005)، الذي انتهى بانفصاله رسميًا سنة 2011، وحركات التمرد في دارفور (2003-2019)، والتمرد الذي شهدته ولايتا جنوب كردوفان والنيل الأزرق (2011-2019).
إمكانية عودة حميدتي لدارفور تمهيدا لتسويات قادمة
يدّعي حميدتي السيطرة على مواقع هامة في الخرطوم كالقصر الجمهوري والإذاعة والتلفزيون ومطار الخرطوم، لكن الجيش يؤكد من حين لآخر “إعادة سيطرته على هذه الأماكن”، وسعيه إلى ملاحقة قوات حميدتي في كلّ مكان وتوجيه ضربات قاصمة لها.
تتالي الضربات الجوية المستهدفة لقوات الدعم السريع، وعدم قدرتها على حسم المعركة لصالحها في الخرطوم وعدم امتلاكها لحاضنة شعبية قوية في العاصمة، من شأنها أن تدفع حميدتي إلى إعادة التفكير في خططه العسكرية وإمكانية العودة من حيث أتى، ونعني بذلك العودة إلى دارفور.
لا تعني العودة إلى دارفور هزيمة حميدتي وإنما إعادة تمركز قوته في منطقة خبرها جيدًا منذ عقود، فيقين حميدتي بعدم قدرة قواته على حسم المعركة في الخرطوم، يمكن أن يدفعه إلى التوجه إلى إقليم دارفور، لقيادة المعركة من هناك.
ما الأسباب التي جعلت إقليم دارفور أرضاً للصراعات؟#الشرق #الشرق_للأخبار pic.twitter.com/F6w2XyDvTr
— الشرق للأخبار – السودان (@AsharqNewsSUD) April 30, 2023
هدف حميدتي من هذه الخطوة ليس دارفور في حدّ ذاته، إنما البقاء في المشهد وتعزيز حظوظه في أي تسويات قادمة، فالحل الوحيد أمامه، هو قيادة تمرد عسكري في دارفور لإثبات وجوده، ذلك أنه لن يقبل التهميش والرجوع إلى الخلف بعدما صار الرجل الثاني في الدولة.
يستذكر حميدتي في هذه الخطوة، ما أقدم عليه رياك مشار نائب رئيس جنوب السودان الحالي، الذي قاد تمردًا على الجيش الحكومي بقيادة رئيس البلاد سلفاكير ميارديت، وعاد إلى موقعه عبر تسوية رعتها الهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد”، بعد مقتل عشرات الآلاف في المواجهات العسكرية بين الطرفين.
من المرتقب إذن أن يلجأ حميدتي وقواته مرة أخرى إلى معاقلهم في دارفور ومواصلة الحرب من هناك، وهذه المرة ستكون حرب استنزاف، فالمسألة عند قائد قوات الدعم السريع حياة أو موت، وليس هناك أي فرصة منه للتخلي عن هدفه.
نقاط قوة حميدتي في دارفور
ليس من السهل أن يتخلى حميدتي عن خططه للسيطرة على حكم السودان، أو في أضعف الحالات المشاركة في الحكم، فمن ذاق طعم السلطة يصعب عليه التخلي عنها، كحال العسكر في أغلب الدول العربية، لذلك سينوّع من استراتيجياته.
مسألة العودة إلى دارفور مطروحة بقوة، فمن هناك يمكن لحميدتي أن يعيد العبث بأوراق اللعبة وتوزيعها مجددًا وفق ما يخدم مصالحه، فدارفور تعتبر المنطقة الأبرز التي تستطيع فيها قوات الدعم السريع التحرك بأريحية، إذ خبرتها لسنوات عديدة.
يمكن أن يستغلّ حميدتي الثروة الكبيرة التي جنها من تجارة الذهب والتهريب، فضلا عن الأموال المتأتية من الخارج، لاستقطاب جماعات مسلحة أخرى للقتال معه
يقين حميدتي بخوضه معركة وجود، سيبرّر له كلّ الخطوات، من بينها إشعال تمرد في دارفور، رغم أن جراح هذه المنطقة لم تندمل بعد وأحزان الأهالي متواصلة، فقد سبق أن تسبب حميدتي بقتل الآلاف هناك وتشريد عشرات الآلاف من المدنيين.
يمتلك حميدتي نقاط قوة عديدة في دارفور لها أن تكون في صالحه، منها درايته الكبيرة بالمنطقة وجاهزية قواته للمعاركة الطويلة داخل المدن، فقوات الدعم السريع مجهزة بشكل أفضل للانخراط في حرب الشوارع والمدن بفضل امتلاكها مركبات صغيرة مزودة بمدافع رشاشة.
يذكر أن قوات الدعم السريع نشأت بالأساس في دارفور وتمرست القتال هناك، إذ انبثقت هذه القوات مما يُسمى ميليشيا الجنجويد المسلحة التي قاتلت في مطلع الألفية في الصراع بدارفور واستخدمها نظام عمر البشير الحاكم آنذاك لإخماد تمرد الجماعات المسلحة في الإقليم.
صحيح أن قوات الدعم السريع أشرفت على انتهاكات في حق أهالي الإقليم، لكن قائد هذه القوات استطاع نسج علاقات قوية مع النسيج القبلي والمجتمعي في دارفور، له أن يستغلها خدمة له في قادم الصراعات مع الجيش أو أي طرف آخر.
ذكرت قبل أربع سنوات أن حميدتي هو الأخطر في المشهد السوداني، وأنه مهيأ ليكون حفتر السودان، واليوم هو يمارس دور حفتر تمامًا. حفتر ليس مجرد شخص، هو نموذج مُعد ومرسوم، بدأ هذا النموذج في ليبيا ثم انتقل إلى السودان، ولا ندري كم حفتر يجهزونه لتفكيك الدول العربية. pic.twitter.com/TUuMIYG3Xc
— نايف بن نهار (@binnahar85) April 30, 2023
يمكن أن يستغلّ حميدتي الثروة الكبيرة التي جناها من تجارة الذهب والتهريب، فضلًا عن الأموال المتأتية من الخارج، لاستقطاب جماعات مسلحة أخرى للقتال معه في وجه الجيش، خاصة وأن عديد الحركات المسلحة تطمح في تعزيز مكانتها ونفوذها في البلاد.
من شأن مشاركة جماعات مسلحة أخرى في الحرب الدائرة بين الجيش والدعم السريع أن يزيد تأزيم الوضع أكثر، ويكرّس الانقسام في البلاد ويهدّد بمواجهات عرقية ومجتمعية، وسبق أن شهد السودان العديد من هذه المواجهات.
عدم حسم المعركة في الخرطوم وتحوّلها إلى دارفور من شأنه أن يؤجج الوضع أكثر في السودان، ويفتح الباب بقوة أمام حرب أهلية جديدة، تنسف ما تبقى من مقومات الدولة، وتذهب بأرواح السودانيين وممتلكاتهم.