بينما تحتفل أغلب دول العالم في 1 مايو/ أيار من كل عام بعيد العمال، هذا العيد الذي يحتفي فيه العالم بذكرى من حارب وواجه في الحراكات العمالية حول العالم، لنيل أبسط حقوق العمال بالعمل في ساعات محددة (8 ساعات في أغلبها) وتحسين ظروف العمل.
وفلسطين حالها من حال الدول المجاورة تحتفل بهذا اليوم، إلا أن احتفالها وإجازتها معقدان في تفاصيلهما، يسلطان الضوء خلال هذا العيد على الواقع العمالي الصعب في الأراضي الفلسطينية، مع بطالة كبيرة في صفوف الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، والهجرة إلى الأراضي المحتلة عام 1948، والمستوطنات المقامة على أراضي عام 1967، للعمل كعمال في المصانع وورش البناء والمزارع الإسرائيلية.
البطالة في السوق الفلسطيني
وفق بيانات جهاز الإحصاء المركزي، يبلغ عدد العمال الفلسطينيين نحو 1.133 مليون عامل، 940 ألفًا منهم يعملون في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع نسبة بطالة في صفوف الفلسطينيين تبلغ الربع تقريبًا من نسبة القادرين على العمل.
وبحسب هذه البيانات، فإن ما يزيد عن 40% يتقاضون أقل من الحد الأدنى للأجور (1880 شيكلًا إسرائيليًّا)، فيما يعمل أكثر من 193 ألف عامل في الداخل الفلسطيني المحتل والمستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراضي الضفة الغربية المحتلة عام 1967.
في الوقت ذاته، ترافقت الزيادة المضطردة في أعداد العاملين داخل الأراضي المحتلة عام 1948 مع ظاهرة منحرفة في سوق العمل الفلسطيني، حيث يعاني الأخير من معدلات بطالة عالية، وفي الوقت نفسه يدور الحديث عن شحّ في العمالة.
وترتفع نسبة البطالة في أوساط خريجي الجامعات، وبشكل أكبر بالنسبة إلى الخريجات، وهي الفئات التي لا يمثل العمل في الأراضي المحتلة عام 1948 بالنسبة إليها خيارًا ممكنًا، أما بالنسبة إلى العمالة غير الماهرة فإن انتقال جزء كبير منها للعمل في الأراضي المحتلة بدافع الفرق في الأجور، أدّى إلى نقصها في السوق المحلي وإلى ارتفاع الأجور في قطاعات معيّنة.
وإلى جانب ذلك، أدى غياب التوظيف في المؤسسات الحكومية الرسمية إلى تعزيز البطالة، إذ تمرُّ مؤسسات السلطة الفلسطينية بأزمة مالية خانقة منذ عامَين نتيجة لتراجع التمويل الخارجي التي كانت تستند إليه “سلطة أوسلو”، ما يجعلها تصرف رواتب لا تتجاوز 80% منذ قرابة 18 شهرًا.
في الوقت ذاته، تكشف بيانات وزارة المالية وخططها إلى أن اللجوء لتطبيق قانون التقاعد المبكر في فلسطين لن يحل الأزمة على صعيد التوظيف، إذ سيتم استبدال كل 3 موظفين يحالون إلى التقاعد بشاغر وظيفي واحد فقط.
أما في قطاع غزة فإن الحال يبدو أسوأ من الضفة الغربية المحتلة، إذ ترتفع معدلات البطالة في صفوف الشباب إلى 60% وفي صفوف الإناث إلى 80%، فيما تلامس معدلات الفقر حاجز الـ 70% من السكان وسط تدنٍّ كبير في الأجور.
ويعتمد غالبية الشبان على العمل في وظائف أو فرص عمل في مؤسسات خاصة أو مشاريع خاصة مملوكة لتجار، ما يجعل سقف الرواتب يتراوح ما بين 700 إلى 800 شيكل إسرائيلي (220 دولارًا أمريكيًّا) شهريًّا، وهو أمر لا يحقق طموحاتهم.
مشقة العبور إلى الأراضي المحتلة
يشكّل العمل في الداخل المحتل طوق النجاة الوحيد من شبح البطالة بالنسبة إلى الكثير من الفلسطينيين، إلا أنه غير متاح بالوتيرة التي تحل أزمة البطالة نتيجة للإجراءات الكثيرة التي يتطلبها العمل، واستغلال الاحتلال ذلك أمنيًّا واجتماعيًّا في التأثير على الفلسطينيين.
ويحتاج العامل الفلسطيني الذي يرغب بالعمل داخل فلسطين المحتلة إلى بطاقتَين: الأولى تتمثل في “البطاقة الممغنطة”، وهي بطاقة ذكية توجد فيها المعلومات الأساسية للعامل الفلسطيني (الاسم الرباعي، رقم الهوية، تاريخ الميلاد، صورة شخصية، العنوان، تاريخ الإصدار والانتهاء).
ويقوم الاحتلال عند ذهاب العامل إلى مكاتب “التنسيق والارتباط الإسرائيلية” التابعة لما يسمّى “الإدارة المدنية” بأخذ بصمات أصابعه، إصبع الإبهام في اليدَين اليمنى واليسرى والأصابع الأربعة الأخرى مرة واحدة، ويتم أخذ بصمات كلتا اليدَين، وتلتقط كاميرا مثبتة على جدار الغرفة الصغيرة بصمات عين العامل، ويشار إلى أن تلك الكاميرا مثبتة على مستوى متدنٍّ حتى يضطر العامل إلى الانحناء قليلاً من أجل أخذ الصورة، وهذا السلوك الذي يمارَس من قبل المنظومة الإسرائيلية الأمنية والبيوسياسية حتى يكون العامل في وضع ضعيف ومتأرجح أمام عين كاميرا الاحتلال وجنوده ومجنداته.
وواقع الأجور يبدو أفضل حالاً ممّا يحصل عليه العامل في الأراضي الفلسطينية، إذ يتراوح المبلغ بين 300 إلى 500 شيكل، وهو مبلغ يتراوح ما بين 100 إلى 130 دولارًا أمريكيًّا، وهو مبلغ يومي أفضل بكثير ممّا قد يحصل عليه العامل في الضفة المحتلة أو قطاع غزة.
أما البطاقة الثانية فهي ما تسمّى بـ”تصريح العمل” ولونها برتقالي، لتتميز عن التصاريح الأخرى مثل تصاريح الاحتياجات الخاصة (بحث عن عمل، زيارة عائلة، أغراض طبية، تجاري، تصريح أعياد.. إلخ)، ويحصل العامل على التصريح إذا كان ملفه الأمني وفق التصنيف الإسرائيلي “نظيفًا” هو وأقاربه بالدرجة الأولى وأحيانًا الثانية والثالثة، ويحتاج العامل إلى ربّ عمل (مقاول، سمسار، شركة، مصنع.. إلخ) لإصدار التصريح له.
ويستخدم الاحتلال ورقة العمل في الأراضي المحتلة كوسيلة ضغط سياسي واجتماعي واقتصادي على الفلسطينيين، إذ لسنوات حرمَ سكان القطاع من العمل في الأراضي المحتلة وتحديدًا منذ عام 2000 مع اندلاع شرارة انتفاضة الأقصى، حيث كان يعمل قرابة 100 ألف فلسطيني من غزة داخل الخط الأخضر، فيما أعاد تصاريح العمل عام 2021 بعدد لم يتجاوز 20 ألفًا، فيما يبلغ العدد الإجمالي لأعداد العاملين في الأراضي المحتلة حتى نهاية العام الماضي 193 ألف عامل من الضفة وغزة.
دوافع أمنية: محاولة لمنع الضفة من الانفجار الاقتصادي
تقدّر الأوساط الاقتصادية حجم العائدات المالية الناتجة عن العمل داخل الأراضي المحتلة بين 800 مليون شيكل إلى مليار شيكل سنويًّا، وهو أمر يساهم في القوة الشرائية في الأراضي الفلسطينية، في ظل تراجع الواقع الرسمي والوظائف في المؤسسة الرسمية.
وسبق أن استخدمت الحكومات الإسرائيلية ورقة العمل في الأراضي المحتلة كوسيلة لتحسين الواقع الاقتصادي في الضفة هربًا من تصاعد الأحداث فيها، عملًا بالقاعدة التي استخدمتها قوى الاستعمار “العصا والجزرة” في محاولة منها لتطويع الشعوب.
وفي عهد حكومة نتنياهو السابقة، وتحديدًا 18 ديسمبر/ كانون الأول 2016، أصدرت حكومته قرارًا حملَ الرقم 2174 بعنوان “زيادة حجم توظيف العمال الفلسطينيين في “إسرائيل” من منطقة يهودا والسامرة، وتحسين طريقة إصدار تصاريح العمل، وضمان ظروف عمل عادلة للعمال الفلسطينيين”.
ورغم وجود عشرات القرارات الحكومية خلال العقد ونيف الأخيرَين فيما يخص العمال الفلسطينيين، بالإضافة الى المداولات المستمرة في لجان الكنيست وداخل أجهزة الدولة المختلفة، فأن هذا القرار على ما يبدو يعتبر تأسيسيًّا لمرحلة تحاول “إسرائيل” من خلالها انتهاج سياسة جديدة فيما يخص العمال الفلسطينيين، ويمكن تلخيص هذه السياسة في 3 محاور، كما هو واضح من عنوان القرار نفسه.
رغم أن هذه السياسة لم تفلح كثيرًا، إلا أن الاحتلال ماضٍ في استخدام هذه السياسة العقابية كوسيلة ضغط على الفلسطينيين في مختلف مناطق تواجدهم، في محاولة لكسر تصاعد العمل المقاوم وتحقيق سياسة “العصا والجزرة”.
وتلخّصت هذه المحاور في زيادة حجم العمال الفلسطينيين، خصوصًا في قطاع البناء، وابتداء من العام 2022 شرع الاحتلال بتخصيص كوتا للعمال الفلسطينيين القادمين من غزة، و”تحسين” (أو في الواقع “تغيير”) طريقة إصدار التصاريح التي يلعب السماسرة فيها دورًا ملموسًا في استغلال العمال، واقتطاع جزء من أجورهم، وتغيير ظروف العمل من خلال تطوير نظام دفع أجور العمال، بحيث تستبدل تدريجيًّا آليات الدفع النقدي بآليات دفع بنكية عن طريق حوالات ما بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية.
وعاد الاحتلال إلى استخدام هذه السياسة من جديد خلال العملية الأمنية الفاشلة التي حملت اسم “كاسر الأمواج”، إذ عمل على سحب تصاريح العمل من عشرات الفلسطينيين في الضفة وغزة بذريعة وجود أقارب مقاومين لهم، في محاولة لجعل العمل المقاوم مرتفع الثمن.
ورغم أن هذه السياسة لم تفلح كثيرًا، إلا أن الاحتلال ماضٍ في استخدام هذه السياسة العقابية كوسيلة ضغط على الفلسطينيين في مختلف مناطق تواجدهم، في محاولة لكسر تصاعد العمل المقاوم وتحقيق سياسة “العصا والجزرة”.