ترجمة حفصة جودة
ذاك الصباح الذي بدأ فيه القتال سيظل في ذاكرتي للأبد، بدأ اليوم عاديًا تمامًا حيث خططت لإفطار رمضان مع مجموعة من الصحفيين في وسط الخرطوم، ثم استعديت للخروج لموعد مع موسيقيّ في منزلنا بأم درمان التي تقع على الجانب الآخر من النيل المواجه للخرطوم.
في الساعة الـ9 صباحًا تقريبًا، رأيت رسائل من زملائي عن أصوات طلقات نارية تأتي من جنوب الخرطوم، ففكرت في الذهاب هناك لأرى ما يحدث، لاحقًا بدأت أسمع عن قتال بين قوات الدعم السريع والجيش حول المطار والقصر الرئاسي ومقرات الجيش.
هذه المناطق أعرفها جيدًا، فمعظمها قريب من أحياء بها مقرات الصحف وحيث أعمل أغلب الوقت، الآن أصبحت تلك الأحياء منطقة حرب.
قبل أن أتمكن حتى من الخروج كان القتال قد وصل إلى منزلي، حيث وُلدت ونشأت، ومنه ذهبت إلى المدرسة وإليه عدت بعد دراسة الصحافة في مدينة كارديف والسياسة في لندن.
لقد سمعت أصوات الانفجارات وطلقات الرصاص ورأيت سحب الدخان الأسود وطائرات القتال تحوم فوق أم درمان أيضًا، كان الوضع مرعبًا وبداية لكابوس طويل لا نتوقع أن ينتهي قريبًا.
كمراسلة للغارديان ومراقبة في السودان، يقتضي عملي فهم بلدي واكتشاف ما سيحدث هنا، هذه المهمة عادة ما تكون صعبة للغاية، لكن ليس مع هذه الحرب.
لقد توقعت حدوث ذلك، فقد كان الحديث عن الحرب يهيمن على تجمعاتنا ومحادثاتنا قبل أشهر، لكننا لم نعدّ أنفسنا لذلك، في الحقيقة؛ كنا نتمنى أن يحدث شيء مختلف ليوقف تلك الحرب.
جعلتني ثورة 2019 التي أطاحت بالديكتاتور عمر البشير وحكمه الذي استمر 30 عامًا أشعر بالأمل في مستقبل مشرق لتلك البلاد، رغم أن خبرتي في العمل لأكثر من عقد في الخرطوم وجوبا وكل مناطق الحرب الأخرى في السودان علمتني ألا أكون متفائلة عندما تحدث أشياء مبشرة في بلادي.
لقد عملت تحت حكم البشير، حيث كان لزامًا علينا أن نعرض مقالاتنا على الرقابة قبل نشرها، وقد اعتقلتني المخابرات مرتين بسبب عملي، واختطفتني مليشيات تابعة للجيش في مدينة أبيي – منطقة نزاع بين السودان وجنوب السودان – لذا كنت أشعر بأمل حقيقي في أثناء تغطية احتجاجات 2019 ضد النظام القمعي.
كنت أحمل في حقيبتي فرشاة ومعجون أسنان وصابون وفوط صحية لمدة 4 أشهر حتى رحل البشير، أعتقد أن ذلك كافيًا لمن يريد أن يعرف عن الحياة والعمل تحت حكم البشير، كنت أحملهم لأن أصدقائي الذين قضوا شهورًا خلف القضبان في موجات الاحتجاج السابقة أخبروني أنهم حُرموا من تلك الأشياء عمدًا كأحد أنواع التعذيب.
هذه الأيام القليلة الماضية كانت سيئة للغاية، فقد كنا نلتقط الرصاص من الشوارع، لكن الحي الذي أسكن فيه بأم درمان أصبح أكثر أمانًا من غيره، وقد أنتقل إليه الكثير من الناس ليصبحوا أبعد نسبيًا عن الاشتباكات الحاليّة، لكن الناس يموتون الآن بسبب أمراض يمكن الوقاية منها.
توفي أحد أقاربي وصديق طفولتي بسبب حمى الضنك التي أصبحت متفشية هنا، كان من الممكن إنقاذه إذا حصل على رعاية صحية أفضل، لكن المستشفى القريب كان مغلقًا بعد ضربة جوية قتلت شخصًا وجرحت 12 مريضًا آخر وأقاربهم.
حتى وقت قريب، كنت أشعر أن حس الدعابة لدى والدتي أمر طبيعي، فقد كانت تسخر من رعبي وفقداني الوزن بعد بداية الحرب، ومن مشاهدة الأطفال يحملون البسكويت من أجل خبزه استعدادًا لعيد الفطر رغم أن الاشتباكات تدور حول المدينة.
لكن بعد ذلك بدأنا نمر بمرحلة انقطاع المياه والكهرباء والإنترنت، كنا معتادين بعض هذه الأمور، فالإنترنت المتقطع أو المنقطع تمامًا كان أمرًا معتادًا هنا، وفي أي وقت تحدث فيه احتجاجات ضخمة كان الجيش يقطع الإنترنت فورًا.
ورغم ذلك كان هناك شيء جديد، لم تنقطع الكهرباء في حيّ جدتي لسبب ما، لكن عندما ذهبت إلى منزلها لنشر قصصي، علمت أنه ستكون هناك غارة جوية في أي لحظة.
ربما كان أسوأ شيء هو المجهول، فقد يتحول الصراع في أي لحظة إلى حرب أهلية في البلاد المنقسمة عرقيًا، كعائلة لم نعلم بعد هل علينا أن نرحل أم نبقى ونواجه القادم أيًا كان ما سيحدث.
إنه قرار كبير، وكعائلة تضم أفرادًا من ذوي الإعاقة والمرضى والأطفال، فهذا القرار هو أصعب قرار يجب أن نتخذه في تلك اللحظة، والأمر لم يعد سهلًا؛ فأسعار تذاكر الحافلات أصبحت أكثر من 10 أضعاف ثمنها الأصلي، كما أن هناك احتمالية التوقيف على الحدود لعدة أيام.
هناك أيضًا الخرطوم والسودان، فأنا أحب مدينتي ولا أرغب في أن أعيش بأي مكان آخر في العالم، أحب مؤلفيها والقصيدة الشهيرة للشاعر والروائي أبو بكر آدم إسماعيل “صوت الوتر السادس” التي تخيل فيها حرب الخرطوم اليوم، والقصص القصيرة لاستيلاء قايتانو وعبد العزيز بركة ساكن.
لقد حولت المشاهد الثقافية في الخرطوم ومعارضها الفنية الحديثة التي فتحت أبوابها مؤخرًا في السنوات القليلة الماضية، وجه المدينة وكذلك مهرجاناتها الموسيقية، وحتى في أثناء الدراسة والعمل في المملكة المتحدة ثم الولايات المتحدة الأمريكية، كنت أعود دائمًا لأكون بجوار عائلتي وأصدقائي، لأحكي قصة السودانيين للعالم، لذا لا أريد الرحيل الآن.
المصدر: الغارديان