مع انتصاف العقد الثامن للنكبة الفلسطينية، تبدو المعطيات القائمة في المشهد الفلسطيني أكثر تطورًا باتجاه حضور مصطلح العودة والحرية من أي وقت مضى، وسط حالة التراجع التي يشهدها مجتمع المستوطنين الإسرائيليين على كافة الصعد داخليًّا وخارجيًّا.
ومع تتالي الهبّات في السنوات الأخيرة، كهبّة باب العامود ومصلى باب الرحمة وهبّة الكرامة وهبّة حي الشيخ جراح ومعركة سيف القدس ووحدة الساحات، يبدو الفلسطينيون متفائلين بمستقبل يحمل معه اقتراب حلم التحرير، الذي لطالما كان الحديث عنه مجرد أماني نتيجة للفارق الكبير في الإمكانات.
ومع تطور مقاومة الشعب الفلسطيني على الصعيد الشعبي والجماهيري إلى جانب الخيار العسكري، تتحول المعتقدات الفلسطينية نحو اقتراب تحرير فلسطين بشكل كامل، نتيجة لتغيرات بعضها مرتبط بالوعي الكبير إلى جانب الصراع الجيوسياسي والديموغرافي وعدة عوامل أخرى.
ويعد الجيل الشاب الصاعد حديثًا هو الأكثر تطورًا من ناحية التفكير في شكل الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي مقارنة بالأجيال السابقة، خصوصًا أن الجيل الحالي عاصر حروب غزة أعوام 2009 و2012 و2014 و2018 و2019 و2021، والتي كان بعضها شاهدًا على نموذج البطولة الفلسطينية في تحدي “نموذج البعبع” للجندي الإسرائيلي الذي لطالما سعى الاحتلال لتطوير صورته.
ومع مرور 75 عامًا على النكبة الفلسطينية، فإن تفاصيل ما جرى ظلت الأجيال تتوارثها جيلًا بعد جيل، إذ إن العصابات الصهيونية سيطرت خلال النكبة على 774 قرية ومدينة فلسطينية، وتمَّ تدمير 531 منها بالكامل وطمس معالمها الحضارية والتاريخية، وما تبقى اُخضع للاحتلال وقوانينه، بحسب مركز المعلومات الفلسطيني.
وشهد عام النكبة أكثر من 70 مجزرة نفّذتها العصابات الصهيونية التي أمدتها بريطانيا بالسلاح والدعم، كمجازر دير ياسين والطنطورة، وأكثر من 15 ألف شهيد والعديد من المعارك بين المقاومين الفلسطينيين والجيوش العربية من جهة والاحتلال الإسرائيلي من الجهة المقابلة.
في المقابل، شهد الخطاب الإسرائيلي خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة زيادة ملحوظة في الحديث من قبل أركان جيش وقيادات إسرائيلية سياسية سابقة عن قرب انهيار الكيان وزواله، من ضمنهم إيهود باراك وزير الحرب الأسبق وإيهود أولمرت رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، إلى جانب عدد من قيادات الجيش السابقين أمثال بني غانتس وموشيه يعالون.
محمد مسعود الطيراوي وزوجته غالية (تجاوزا 80 عامًا) يحلمان بالعودة إلى قريتهما الطيرة التي احتلتها إسرائيل عام 1948، فيما يسكنان الآن على أطراف مخيم الجلزون للاجئين الفلسطينيين قرب رام الله وسط الضفة الغربية. (الأناضول)
الثقافة الفلسطينية.. المقاومة خيارًا عسكريًّا وشعبيًّا
خلافًا للنهج المتّبع من سلطة أوسلو، تتبنّى الحاضنة الشعبية الفلسطينية الفعل الكفاحي والمقاوم كخيار استراتيجي لا غنى أو بديل عنه، في ضوء الممارسات الإسرائيلية وتصاعد الانتهاكات والاعتداء على المقدسات كالمسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي والكنائس المسيحية، إلى جانب عمليات الاستيطان وضمّ الأراضي بشكل متسارع.
وباتت هذه الثقافة في منحنى تصاعدي منذ أن تطور الأداء المقاوم، خصوصًا مع التطور العسكري على صعيد قصف المدن المحتلة المركزية مثل تل أبيب والقدس والخضيرة وعسقلان وبئر السبع وأسدود، إلى جانب تنفيذ عمليات أسر ناجحة كعملية جلعاد شاليط والجنود الأربعة المحتجزين منذ عام 2014 في قطاع غزة.
في الوقت ذاته، لا يمكن إغفال هبّة القدس عام 2015 والتي أُطلق عليها هبّة السكاكين والدهس، إذ اعتمدت بالأساس على الفلسطينيين شعبيًّا الذين لم يكونوا فاعلين في أذرع عسكرية، وكانت هذه العمليات معبّرة عن المزاج الشعبي الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
على الصعيد الشعبي، حضرت عدة أدوات أبرزها المواجهات في البؤر الاستيطانية أسبوعيًّا بالضفة المحتلة، مثل جبل صبيح في نابلس وبيتا وبعض مناطق بيت لحم والخليل إلى جانب الخان الأحمر، أما في غزة فقد كانت مسيرات العودة الكبرى والبالونات الحارقة والمتفجرة والإرباك الليلي وسائل شعبية تستخدَم لمواجهة الاحتلال.
وتعد الأدوات الشعبية بالنسبة إلى الفلسطينيين وسيلة لا تقل أهمية عن الوسائل العسكرية التي يمتلكونها، خصوصًا في الأوقات التي لا تتطلب مواجهة عسكرية في ظل الفارق الكبير على المستوى التسليحي، وغياب الظهير العسكري للفلسطينيين في مواجهتهم مع الاحتلال.
وبرز مصطلح المقاومة الشعبية على نطاق واسع مع بدايات القرن الـ 21، إذ جاء بفعل مجموعة من العوامل والمتغيرات التي لا بدَّ من الوقوف عليها، ومنها تجربة الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي مالت بوضوح نحو العسكرة والتصعيد العسكري الواضح مع الاحتلال.
ومن بين العوامل قيام “إسرائيل” بالبدء في بناء الجدار الفاصل داخل أراضي الضفة الغربية لفصلها بشكل تامّ عن أراضي 1948، وعن المستوطنات الإسرائيلية الموجودة داخل الأراضي الفلسطينية، فبناء الجدار والتفافه داخل الأراضي الفلسطينية من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، قاضمًا مساحات واسعة من الأراضي، وتاركًا وراءه آثارًا ديموغرافية وجغرافية ونفسية كثيرة؛ ولّد موجة تضامن دولية لمناصرة الفلسطينيين.
في هذا السياق، لفت نمط المقاومة الشعبية ذات التوجهات السلمية أنظار المتضامنين الأجانب، لأنهم اعتبروا أنفسهم جزءًا من هذه العملية النضالية التحررية الراقية كونها ذات طابع سلمي، وأبعادها الأخلاقية السامية سهلة التسويق عالميًّا ولدى الرأي العام الدولي.
ثقافة التحرير.. المعارك والهبّات تعزز القناعة الفلسطينية
لعبت صورة المقاومين الفلسطينيين خلال المواجهة الأخيرة دورًا في الحديث عن “التحرير”، خصوصًا مع نشر بعض مقاطع الفيديو للمقاومين وهم يقومون بإهانة ذاك الجيش الذي لطالما ردّد عبارة “الجيش الذي لا يهزم”، كما حصل في عدة عمليات خلال عام 2014.
وأسهمت هذه الصور في تعزيز الروح المعنوية للفلسطينيين والحديث عن حلم النصر والتحرير، مقابل تحطيم الروح المعنوية للجنود الإسرائيليين والإحساس بالإهانة أمام التفوق العسكري للمقاومين الفلسطينيين ميدانيًّا وعند المواجهة البرّية، ما جعل هذه المواجهة خيارًا غير محبّذ بالنسبة إلى الإسرائيليين.
وباتت الهبّات السلاح الإضافي للفلسطينيين في وجه المخططات الإسرائيلية، ما أسهم في الإطاحة بالمشاريع والمخططات الإسرائيلية مرات عديدة خصوصًا في السنوات العشر الأخيرة، وإن كانت الهبّات الفلسطينية قد بدأت في ثلاثينيات القرن الماضي مع الثورة الكبرى وثورة عز الدين القسام وثورة البراق وثورة النفق عام 1996، مرورًا بهّبة باب الرحمة وهبّة العامود وهبّة الكرامة في الداخل المحتل.
وخلال هذه الهبّات فقدَ الإسرائيليون السيطرة على المشهد، ونجح الفلسطينيون في مختلف أوقاتها بفرض مطالبهم على حساب الاحتلال الذي كان يتراجع في كل مرة، ما عزز الفلسطينيين على مختلف العصور باستخدام هذا السلاح كخيار للانتفاض في الأوقات العصبية.
ويمكن القول إن النتائج الاستراتيجية التي تحققت في جميع المواجهات والهبّات خلال العقدَين الماضيَين، أسهمت في رسم مشهد مغاير على صعيد القضية الفلسطينية خلال الآونة الأخيرة عن ذاك الذي كان يعتقد أن تسلكه القضية كمسار بعد اتفاقية أوسلو.
لعنة الثمانين
في الوقت الذي تبدو فيه “إسرائيل” وكأنها في تمدُّد جيوسياسي في المنطقة والعالم، بانخراطها في الأحلاف والاتفاقيات السياسية والعسكرية والأمنية، فإن واقعها الداخلي لا يتوافق مع ذلك؛ إذ شهدت “إسرائيل” في الأشهر الأخيرة تزايدًا مطّردًا في صدور تحذيرات من تفاقم المخاطر المحدقة بها، وبدا لافتًا استدعاء أحداث تاريخية قبل قرون شهدت فيها سقوط “الممالك” اليهودية في حينها، والتحذير من تكررها.
وإلى جانب ذلك، تزايد الحديث عن “لعنة الثمانين” بين الأوساط الإسرائيلية، على اعتبار أنه وعلى مرّ التاريخ اليهودي لم تعمر لليهود دولة أكثر من 80 عامًا إلا في فترتَين، وكلتاهما كانتا بداية تفكُّكها في العقد الثامن.
ورأى رئيس وزراء الاحتلال السابق نفتالي بينيت “أن الدولة تقف أمام اختبار حقيقي ومفترق طرق تاريخي: إما استمرار العمل وإما العودة إلى الفوضى، لأنها تشهد اليوم حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار، ومرة أخرى نواجه جميعًا لحظة مصيرية، فقد تفكّكت “إسرائيل” مرتَين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، الأولى عندما كان عمرها 77 عامًا، والثانية 80 عامًا”.
أما وزير الحرب بيني غانتس يقول إن “قلقًا يكتنف مستقبل “إسرائيل” بسبب فقدانها السيادة في النقب والجليل، وإمكانية خسارتهما في النهاية بسبب تعاظم الثقل الديموغرافي للفلسطينيين، ومظاهر تشبُّثهم بالهوية الوطنية، وقد تتقلص جغرافيًّا لتصبح ممتدة فقط بين مدينتَي الخضيرة جنوب حيفا وغديرا جنوب تل أبيب”.
كما أبدى رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، في مقال صحفي مخاوفه من قرب زوال “إسرائيل” قبل حلول الذكرى الـ 80 لتأسيسها، مستشهدًا في ذلك بـ”التاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتَين استثنائيتَين، فترة الملك داوود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتَين كانتا بداية تفككهما في العقد الثامن، وإن تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي الثالثة على وشك دخول عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنته كما نزلت بسابقتها”.
أما تامير باردو، الرئيس السابق لجهاز الموساد، فقال سابقًا في محاضرة: “بينما كثر الحديث عن التهديدات الكبيرة التي تحوم فوق “إسرائيل”، فإن التهديد الأكبر يتمثل بنا نحن الإسرائيليين، بظهور آلية تدمير الذات التي جرى إتقانها في السنوات الأخيرة، تمامًا مثل أيام تدمير الهيكل الثاني، ما يستدعي منَّا وقف هذا المسار الكارثي قبل نقطة عدم العودة، لأن “إسرائيل” تنهار ذاتيًّا”.
أما رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو، فقد سبق كل هؤلاء بقوله عام 2017: “سأجتهد كي تبلغ “إسرائيل” عيد ميلادها الـ 100، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمنًا، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة”.
وترجع جميع هذه التحذيرات إلى سبب واضح يتمثل في الأزمة الداخلية الإسرائيلية السياسية، والصراع بين اليمين الديني المتطرف والقوى اليمينية الأخرى، إذ شهدت دولة الاحتلال إجراء 4 انتخابات خلال 5 سنوات، ما يعكس حالة عدم الاستقرار السياسي، فضلًا عن تداعيات ما يعرف بخطة “الإصلاح القضائي” التي أظهرت مشاهد غير مسبوقة من الصراع والتصدُّع في مجتمع المستوطنين الإسرائيليين.
بين ثقافتَين.. التحرير فلسطينيًّا والزوال إسرائيليًّا
أمام المشهد الحالي، إن الواقع منحصر أمام التحرير فلسطينيًّا والحديث عن الانحسار الإسرائيلي، في الوقت الذي يتزايد فيه حديث قادة مجتمع المستوطنين عن الزوال ولعنة الانهيار في ظل حالة التشظي والانهيار الشامل، بفعل الأزمات السياسية الداخلية وحالة التراجع.
ويمكن القول إن ما يحصل يمكن أن يؤسّس لمشهد جديد خلال السنوات المقبلة بشكل يحقّق المزيد من الانتصارات للفلسطينيين على حساب الإسرائيليين، وتراجعهم استراتيجيًّا في ظل الأزمات الداخلية والخارجية التي تعصف بالاحتلال الإسرائيلي.
ورغم مرور 75 عامًا على النكبة، فإن العبارة التي لطالما رددها قادة الاحتلال المؤسسين لهذا الكيان “الكبار يموتون والصغار ينسون” لم تعد واقعًا، لا سيما مع تصاعد حديث الإسرائيليين عن انهيار كيانهم المزعوم لأسباب داخلية بنيوية وأسباب خارجية متعلقة بالمقاومة.