أعلنت الشركة المتحدة للإلكترونيات “إكسترا” السعودية عن وقف خططها التوسعية في مصر، وفق بيان لبورصة التداول السعودية، ونقلته وكالة “رويترز” الإثنين 1 مايو/أيار 2023، لافتة إلى أن التراجع عن هذا الاستثمار يأتي بعد دراسة جدوى قامت بها بشأن استمرارية المضي قدمًا في التوسع الخارجي في السوق المصري، لكنها لم توضح تفاصيل نتيجة الدراسة ولا أسباب التراجع.
كانت الشركة في ديسمبر/كانون الأول 2021، قد قررت تأسيس شركة مملوكة لها بالكامل في مصر، بحجم استثمارات مباشرة أولية بقيمة مليار جنيه بالتمويل الذاتي والاقتراض، لتكون أولى محطاتها التوسعية خارج منطقة الخليج، ليأتي بيان الأمس المفاجئ لينسف تلك الخطط المعلنة قبل عام ونصف.
وقبل يومين، نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” تقريرًا كشفت فيه عن انسحاب صندوق الاستثمارات العامة السعودي وصندوق أبو ظبي السيادي وجهاز قطر للاستثمار من مفاوضات لهم بشأن الاستحواذ على بعض الأصول المملوكة للدولة المصرية التي عرضتها للبيع في إطار خطة التخارج المرحلي لحل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجهها منذ سنوات.
التقرير أشار إلى رفض جهاز قطر للاستثمار عرض حصة في شركة لتصنيع البسكويت مملوكة للجيش، فيما انسحب صندوق الاستثمارات العامة السعودي من مفاوضات صفقة الاستحواذ على بنك المصرف المتحد المملوك للحكومة المصرية، كما أوقف صندوق أبو ظبي السيادي – مؤقتًا – بعض المشروعات الاستثمارية له في السوق المصري.
الانسحاب الجماعي لتلك الصناديق والشركات الخليجية من السوق المصري، أو تعطيل استثماراتها بشكل مؤقت، بهذه الصورة وفي هذا التوقيت، كان مثار جدل كبير لدى الشارع المصري ولدى النخبة الاقتصادية والسياسية معًا، التي انقسمت في تفسيرها إلى قسمين: الأول يميل إلى البعد الاقتصادي في المسألة وأن هناك شروطًا تريد تلك الصناديق تنفيذها لتحقيق العوائد المرجوة من تلك الاستثمارات، فيما ذهب الفريق الآخر إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تسييس تلك القرارات في ضوء ما تعاني منه العلاقات المصرية الخليجية من توترات – وإن لم تخرج للعلن بشكل رسمي – خلال الآونة الأخيرة.
حان وقت الحصاد.. تغير في الإستراتيجية
في الأول من مارس/آذار 2023 نشرت الصحفية الاقتصادية بشبكة “سي إن إن” الأمريكية، نادين إبراهيم تقريرًا تحت عنوان “دول الخليج قدمت مساعدات بمليارات الدولارات لمصر، والآن يريدون أن يروا عوائد”، كشفت فيه عن التحول المحوري في نظرة دول الخليج لحليفهم المصري، والتوقف عن إستراتيجية الدعم غير المشروط والانتقال منها إلى الاستثمار الذي يحقق العوائد المرجوة بما يتناسب مع الضخ الاستثماري المستمر.
التقرير استعرض أبرز ملامح الرؤية الخليجية الجديدة في تعاطيها مع ملف الاستثمارات في مصر، التي يأتي في مقدمتها الاستحواذ على أكبر قدر من الحصص في الأصول المملوكة للدولة ذات القيمة العالية، بما يحقق أسرع عائد اقتصادي ممكن، وهو ما أقره وزير المالية السعودي محمد الجدعان بشكل واضح وعلني خلال مشاركته في منتدى دافوس العالمي يناير/كانون الثاني الماضي، حين أشار إلى أن بلاده ستعيد النظر في المنح والمساعدات التي تقدمها لحلفائها التي يجب أن تكون مشروطة بإصلاحات اقتصادية محورية، ورغم أنه لم يذكر مصر بالاسم، فإن الإشارة كانت واضحة للجميع.
التصريحات الصادرة عن مسؤوليين كبار في دوائر صنع القرار الاقتصادي في دول الخليج تعكس بشكل كبير حالة التململ من الدعم غير المشروط للقاهرة، حيث نقلت “سي إن إن” عن الأمين العام لمجلس الإمارات للمستثمرين الدوليين (UAEIIC) (تجمع لأكبر المستثمرين الدوليين في الإمارات)، جمال بن سيف الجروان، قوله إن طلب مصر للدعم الخليجي بصورة مستمرة يمكن أن يفقدها مصداقيتها في الوفاء بالتزاماتها، كما أن ذلك قد يُفقد الخليجيين صبرهم على تلك الإستراتيجية، لافتًا إلى عدم التزام مصر بتعهداتها السابقة لصندوق النقد الدولي كشرط للحصول على القرض الأخير بقيمة 3 مليارات دولار.
وأوضح الجروان أن مصر بحاجة إلى إجراء إصلاحات، حتى إن لم تكن ذات شعبية كبيرة، مضيفًا أن الإمارات تراقب جهود الخصخصة في مصر “عن كثب” لأنها تريد زيادة استثماراتها في البلاد إلى 35 مليار دولار من 20 مليار دولار حاليًا على مدى السنوات الخمسة المقبلة، وتأمل في تجاوز هذا الرقم في النهاية.
غياب الإصلاحات الاقتصادية
واتساقًا مع الإستراتيجية الخليجية الجديدة في التعامل مع ملف الاستثمارات في السوق المصرية، أشار نائب مدير معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط في واشنطن، تيموثي كالداس، إلى أن استحواذ الجيش المصري على الاقتصاد كان أحد الأسباب الرئيسية وراء غياب الحماسة الخليجية في ضخ المزيد من الاستثمارات في مصر، منوهًا أن هناك صراعًا كبيرًا بين المؤسسة العسكرية والقطاع المدني الخاص في الاستحواذ على السوق الاقتصادي، وهو الصراع المحسوم بطبيعة الحال لصالح الجيش صاحب النفوذ الأكبر في الدولة، والرابح الأكبر من المشهد الحاليّ، مرجعًا ذلك إلى رغبة السيسي في “الحفاظ على العمود الفقري لنظامه” على حد قوله.
وكانت الحكومة المصرية في اتفاقها الأخير مع صندوق النقد الدولي، قد وافقت على عدد من الإصلاحات غير المسبوقة، بما في ذلك تقليص بصمة الدولة والجيش في الاقتصاد وإخضاع المؤسسات المملوكة للدولة والجيش للإفصاحات المالية الإلزامية، بجانب تحرير سعر الصرف وأن تكون العملة المحلية “الجنيه” أكثر مرونة في قيمتها أمام العملات الأجنبية الأخرى، وهو ما لم يحدث وفق ما ذهبت الكثير من التقارير الصادرة عن مؤسسات اقتصادية ومالية دولية.
وبجانب هيمنة الجيش على الاقتصاد، والشكوك في نوايا النظام الحاليّ تقليص نفوذ المؤسسة العسكرية ومصالحها، هناك عوامل أخرى رصدها خبراء ومصرفيون وراء فقدان الخليج شهية الاستثمار في السوق المصري، منها آليات تقييم الأصول المصرية التي ترتكز على قيم سوقية مرتفعة لا تتناسب مع قيمتها الحقيقية، حيث تصر القاهرة على تقييم محدد يراه الخليجيون لا يتناسب مع القيمة الحقيقية لتلك الأصول، وهو ما أدى في النهاية إلى تراجع وتأخر الكثير من الصفقات التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الإبرام.
الأمر كذلك مع العملة المحلية، ففي الوقت الذي ترى فيه المؤسسات الدولية أن سعر الجنيه المصري في البنوك الرسمية أقل بكثير من قيمته السوقية الحقيقية التي يتم التعامل بها في المجالات الأخرى الأكثر استقلالية كالذهب والعقود الآجلة وخلافه، وهو ما يعرقل الكثير من الاستثمارات، فبينما يتمسك البنك المركزي بسعر 30.8 جنيه للدولار، يتراوح سعره في السوق السوداء بين 40 – 44 جنيهًا للدولار، وتمارس الكثير من الكيانات ضغوطًا على الحكومة المصرية لتحرير سعر الصرف دون استجابة واضحة حتى كتابة تلك السطور.
وتحاول صناديق السيادة والاستثمار الخليجية استغلال المأزق الاقتصادي المصري الحاليّ ورغبة الدولة الملحة في الحصول على استثمارات عاجلة تواجه بها نقص العملة الأجنبية، في إبرام العديد من صفقات الاستحواذ على أصول الدولة المصرية، الأكثر ربحية بأقل سعر، ودون شروط أو ضمانات تحفظ للقاهرة سيادتها على تلك الأصول، وكانت تلك النقطة هي محل الخلاف الأبرز مع الرياض تحديدًا خلال الآونة الأخيرة، حيث كانت تريد الاستثمار دون مراقبة الحكومة المصرية وهو ما رفضته الأخيرة بطبيعة الحال.
وكان مجلس الوزراء المصري قد أعلن الشهر الماضي أنه سيبيع حصصًا في 32 شركة مملوكة للدولة والجيش خلال العام المقبل، بما في ذلك بنوك بارزة وشركتين مملوكتين للجيش على الأقل، وهي الطروحات التي لم يتحقق منها شيء حتى كتابة تلك السطور، إذ كانت تتمتع تلك الشركات بامتيازات استثنائية من الدولة، ما أهلها لأن تحقق أرباحًا كبيرة خلاص الأعوام الماضية، الأمر الذي أثار قلق المستثمرين الخليجيين، فيما طالب بعضهم بأن يكون الطرح شاملًا الامتيازات القديمة التي كانت تتمتع بها تلك الشركات من إعفاء ضريبي واحتكار للمشروعات على حساب شركات القطاع الخاص، في إشارة إلى أن ما حققته تلك الشركات من أرباح كان محل شك وبفعل فاعل وأن استمرارية هذا النجاح أمر تغلفه الريبة والمقامرة.
ولخص عدد من المستثمرين الخليجيين المشهد بقولهم إنهم “مستعدون لوضع المال، لكن يجب أن يكون استثمارًا ذكيًا، يحتاج إلى جني الأموال، أو في حالات نادرة على الأقل تحقيق التعادل”، وأضافوا “لن يقوموا برمي المال فقط، إنهم يحاولون إيجاد الفرصة المناسبة”، وفق ما نقلت “سي إن إن” عنهم.
توتر العلاقات.. تسييس الاقتصاد
أما الفريق الآخر فيميل نسبيًا إلى أن هذا القرار الجماعي المفاجئ بشأن تعطيل أو توقيف أو فقد الحماسة للاستثمارات الخليجية في السوق المصري، في هذا الوقت الحساس الذي تعاني فيه القاهرة من أزمة اقتصادية خانقة، هو – إلى جانب الأسباب الاقتصادية – رد فعل سياسي على توتر العلاقات المصرية الخليجية في الآونة الأخيرة، لا سيما مع السعودية ومؤخرًا الإمارات بسبب تباين وجهات النظر إزاء بعض الملفات.
وكانت العلاقات المصرية السعودية قد تعرضت لهزات عنيفة – وإن لم تظهر للعلن بشكل رسمي – بسبب بعض الملفات العالقة بين البلدين، منها ملف تسلم جزيرتي تيران وصنافير، في ضوء الجدل الذي يخيم على الشارع المصري منذ إبرام اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية في 2018، بجانب التناغم المصري الإماراتي بما تراه الرياض متعارضًا مع توجهاتها وأمنها القومي كما هو الحال في الملف الليبي والتطبيع مع دولة الاحتلال، وقد تكشف ذلك في الهجوم الإعلامي غير المسبوق الذي شنه كتاب ومسؤولون أمنيون مقربون من ولي العهد السعودي، قوبل بهجوم مشابه من صحفيين مصريين محسوبين على نظام السيسي.
هذا بخلاف امتعاض المملكة من إستراتيجية مصر الجديدة في ضوء “وثيقة سياسة ملكية الدولة” حيث تستشعر أن هناك وصاية حكومية عليها في خريطة استثماراتها في مصر، وهو ما يفسر عدم ضخ السعودية إلا أقل من مليار ونصف دولار فقط في السوق المصري رغم تعهدها بضخ 10 مليارات دولار وفق الاتفاقية الموقعة بين البلدين التي أقرها مجلس الشيوخ السعودي في أبريل/نيسان 2022.
كما أن العلاقات مع أبو ظبي – رغم الحميمية التي تخيم على علاقة محمد بن زايد بالسيسي – شهدت هي الأخرى في الآونة الأخير توتيرًا دفينًا جراء تغريد الدولة الخليجية المنفرد في بعض المسارات التي تهدد الأمن القومي المصري، كما هو الحال في الملف السوداني والليبي واليمني، فضلًا عن الانخراط في مستويات تطبيعية متعمقة تتحفظ عليها القاهرة رغم علاقاتها الجيدة مع الحكومة الإسرائيلية.
ويرى أنصار هذا الفريق أن لتلك التوترات دورها المحوري في هذا الموقف الجماعي بشأن التردد في ضخ الاستثمارات الخليجية في مصر، حيث تحاول الرياض وأبو ظبي تحديدًا الضغط على القاهرة سياسيًا عبر بوابة الاقتصاد والرضوخ للإملاءات والشروط الخاصة بإجراء إصلاحات اقتصادية معينة كشرط أولى لاستمرار تدفق الاستثمارات.
الخبيرة الاقتصادية والعميدة السابقة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، عالية المهدي، علقت على تلك الظاهرة على صفحتها الشخصية على فيس بوك قائلة “أما كل الصناديق العربية تنسحب من السوق المصرية وتؤجل قرارتها بالشراء يبقى لازم نعرف العدو من الحبيب… أنا عن نفسي مكنتش مؤيدة خالص بيع الشركات لهم… وخاصة البيع المتسرع بالرخيص.. ولكن في نفس الوقت استغرب جدا إن دول تسحب صناديقها في صورة جماعية وتمنعها من الاستثمار في مصر بعد أن كانت التعاقدات قاب قوس من التنفيذ.. لمجرد وجود خلافات سياسية”.
تتمحور الأزمة هنا بين القاهرة وحلفائها في أن الأولى تنظر لما تحصل عليه من دعم من الخليجيين على أنه هبة مستمرة غير مشروطة، ولم تضع في حساباتها أن تتعرض لعراقيل أو تحديات توقف إمداداتها، في حين أن علوم الاقتصاد بشتى أنواعها تؤكد على أن الربحية وجني العوائد هو الهدف الأساسي من وراء ضخ الاستثمارات، وأن الاستمرار في الاستثمار دون المكاسب نوع من السفه، هذا إن لم يكن له أبعاد أخرى تتأرجح يمينًا ويسارًا حسب المستجدات والظروف، وهو ما لم يوليه النظام الحاكم في مصر الاهتمام المطلوب.
وهكذا تجد القاهرة المأزومة اقتصاديًا نفسها في ورطة حقيقية، فالأعباء النقدية والمالية المتزايدة عليها في ضوء الالتزامات التي يجب الوفاء بها للدائنين، فضلًا عن الضغوط الاقتصادية الداخلية، تضعها بين خيارين لا ثالث لهما: إما الرضوخ لتلك الشروط والالتزام بالإصلاحات المطلوبة، وإما البحث عن بدائل أخرى للخروج من هذا المطب الذي لن يقف عند حاجز الاقتصاد فقط إذا استمر على هذا الحال.