تتواصل المعارك التي اندلعت في العاصمة السودانية الخرطوم وفي مناطق أخرى من البلاد، لليوم الـ18 على التوالي، بين الجيش الذي يقوده عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة والرئيس الفعلي للسودان، من جهة، ونائبه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، من جهة أخرى.
معارك دمرت البنى التحتية للبلد الغارق في الفوضى والأزمات منذ سنوات، كما حصدت أرواح مئات الأبرياء، ودفعت عشرات الآلاف للنزوح ومثلهم للهجرة خارج السودان، في ظل إصرار الطرفين على حسم المعركة عسكريًا.
خلال هذه الفترة، تدخلت العديد من القوى الدولية والإقليمية للتوصل إلى حل سلمي بين الطرفين المتنازعين، يحقن دماء المدنيين السودانيين، لكن لم يحصل ذلك إلى الآن، إلا أن بعض الجهود أثمرت عن إقرار هدن إنسانية لتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة للضحايا، مع ذلك لم يتم الالتزام بها، فما الأسباب وراء ذلك؟
تعدد الهدن الإنسانية
قبل يومين، وافق طرفا النزاع في السودان على تمديد الهدنة 3 أيام، بدءًا من موعد انتهاء سريان اتفاق وقف إطلاق النار السابق منتصف ليلة الأحد، وذلك بناء على وساطة أمريكية سعودية، بهدف فتح الممرات الإنسانية وتسهيل حركة المواطنين والمقيمين وتمكينهم من قضاء احتياجاتهم والوصول إلى مناطق آمنة، لكن لم يتم الالتزام بهذه الهدنة.
لم تكن تلك المرة الأولى التي تم فيها خرق الهدنة، فمنذ اندلاع الاقتتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في منتصف أبريل/نيسان الماضي، أعلن طرفا النزاع عن هدن عدة لم يتم الالتزام بها، وتبادلا الاتهامات بانتهاكها.
من الصعب أن تلتزم القوى السودانية المتقاتلة بالهدن الإنسانية المعلنة، إذا لم يحقق أي طرف النصر
منذ اندلاع الاقتتال إلى الآن، جرى التوصل إلى 6 هدن، لكن تخللها العديد من الانتهاكات والخروقات، وكل طرف يتهم الآخر بخرق الهدنة، لكن الواضح أن كلاهما غير مكترث بها، فالمهم عندهما مواصلة القتال وتحقيق الأهداف المرسومة لذلك.
وبين الحين والآخر، يسمع السودانيون صوت تفجيرات قنابل وهدير الطائرات الحربية والمدفعية والصواريخ، فضلًا عن صوت الرصاص في الأحياء السكانية، ما فاقم أزمتهم الإنسانية وزاد من متاعبهم المعيشية.
شفوية غير مكتوبة
من أبرز أسباب فشل هذه الهدن أنها شفوية وليست مكتوبة، فالأطراف التي أعلنت عنها لم تتفاوض بخصوصها، وإنما جاء الإعلان شفويًا، دون أن يتم تحديد معالم الهدنة ولا أطرها ولا كيفية مراقبتها وأماكنها، كما هو متفق عليه عادة في مثل هذه الهدن.
هدف الهدنة هو تفادي مزيد من الخسائر البشرية والمادية، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية وإجلاء الجرحى من جبهات القتال.
إنتشار القوات المسلحة #السودانـ ـية#الحلفايا #بحري #امدرمان #كافوري #الخرطوم #sudan #khartoum #كوبر #شمبات pic.twitter.com/FZnoFNYnJJ
— غـ ـاندي خالد (@9klid) May 1, 2023
في العادة، يتم إبرام الهدن الإنسانية بين الأطراف المتنازعة، وخلال الاتفاقية يتم التنصيص على بعض البنود التي تضمن التزام أطراف النزاع بهذه الهدن، من ذلك إقرار مراقبين دوليين أو إقليمين لمراقبة مدى امتثال أطراف النزاع للهدنة، وفي حال لم تتم الاستجابة وتم الخرق، يعاقب المتسبب في ذلك، وهي نقطة ضغط.
فضلًا عن ذلك، يتم إقرار مناطق وممرات آمنة خلال الهدن الإنسانية، وهو ما لم يتحقق في التجربة السودانية الأخيرة، فهناك كلام فقط ولا شيء على أرض الواقع، فالمدنيون لا يمكنهم التنقل من منطقة إلى أخرى.
لا نية للسلام
توقف الهدن الإنسانية الحرب لفترة معينة، تمهيدًا لإرساء السلام بالطرق الدبلوماسية والتسوية السلمية، لكن في الحالة السودانية، هذا غير موجود، فالحرب متواصلة وأي من الطرفين لم يحقق أهدافه وموازين القوى على حالها، ولا أحد منهما في حالة قوة ليفرض شروطه على الآخر.
يُظهر مسار الحرب في السودان عدم وجود نية لطرفي النزاع للسلام، فكلاهما مصر على إقصاء الآخر والقضاء عليه، رغم أن البرهان وحميدتي سبق أن عملا معًا وانقلبا على إرادة الشعب السودانية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
صحيح أنهما نفذا الانقلاب معًا وأقصيا القوى المدنية من حكم السودان، لكن حب السلطة والاستفراد بالحكم عجل حصول الانشقاق بينهما، وظهرت بوادر الفرقة بسرعة، وها نحن نرى نتيجة ذلك، فكلاهما يسعى إلى فرض وجوده دون الآخر.
يسعى الجيش والدعم السريع إلى كسب ثقة المجتمع الدولي، والظهور بثوب الراعي لمصالحهم
يبدو أن الطرفين يسعيان إلى حسم المعركة عسكريًا، قبل الحديث عن تهدئة ومفاوضات، وهو ما يفسر تواصل القتال إلى الآن، ومن غير المرجح تتحقق فرضية الحسم في الوقت القريب نظرًا لتوازن القوى بين الطرفين وتدخل العديد من القوى الأجنبية في هذا الصراع.
هذا ما يفسر استغلال الطرفين للهدن الإنسانية المعلنة لزيادة الحشد وتعزيز مكامن القوى لديهما، فكل طرف لا ينوي تقديم تنازلات لفائدة الآخر، فالمعركة بالنسبة لهما معركة وجود – حياة أو موت – لا تقبل القسمة على اثنين.
يعني هذا الأمر، أنه من الصعب أن تلتزم القوى السودانية المتقاتلة بالهدن الإنسانية المعلنة، إذا لم يحقق أي طرف النصر، فالهدنة عادة تتطلب طرفًا منتصرًا أو يكاد ينتصر وطرفًا يقبل بشروط المعادلة الجديدة.
إرضاء المجتمع الدولي
من الأسباب الأخرى التي أدت لفشل الهدن الإنسانية المعلن عنها في السودان منذ بداية القتال، أنها لم تُعلن بإرادة طرفي النزاع، فكلها جاءت بوساطة خارجية، يمكن أن نقول إنها إملاءات خارجية لتيسير عمليات إجلاء الدبلوماسيين والرعايا الأجانب.
نفهم من هنا أن قيادة الجيش والدعم السريع، استجابا لطلبات القوى الأجنبية ولم يستجيبا لمطالب الشعب السوداني، وما الهدن المعلنة إلا ترضية لهذه القوى، وسعي للتقرب منهم قصد الحصول على دعمهم ومساعدتهم في هذا الظرف أو على الأقل عدم استعدائهم وإظهار “نوايا حسنة”.
? الخارجية الاميركية: الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يبديان استعدادهما للدخول في حوار من اجل هدنة دائمة وترتيبات انسانية.
? انتهاك هدنة وقف اطلاق الناري السودان لا تعني فشلها ونحث الطرفين على التزام افضل بالهدنة. pic.twitter.com/hCOzrpFRH9
— Elrayah Mohammed الريح محمد (@ElrayahMohamed4) April 28, 2023
يسعى الجيش والدعم السريع إلى كسب ثقة المجتمع الدولي، والظهور بثوب الراعي لمصالحهم، وذلك ليقينهم أن الحسم لن يكون داخليًا، وأن القوى الخارجية لها دور كبير في هذا الأمر، أي أننا أمام هدن دبلوماسية وليست إنسانية.
ويرتبط عبد الفتاح البرهان بعلاقات قوية مع بعض القوى الإقليمية والدولية، ونفس الشيء بالنسبة إلى حميدتي الذي يقود الدعم السريع، وهو ما يفسر تواصل القتال إلى الآن، فهذه القوى لم تحقق بعد أهدافها على الأرض.
على القوى المتقاتلة في السودان أن تفهم حقيقة مفادها أن هذه الحرب لا رابح فيها داخليًا، فالجميع متضرر، الرابح فقط هي الجهات الخارجية التي تنفخ في النار وتريد من الحرب أن تتواصل لفترة أطول.