تمثل الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية، المزمع إقامتها في منتصف الشهر الجاري، أحد أبرز الأحداث السياسية التي تنشغل بها وسائل الإعلام اليوم، وذلك لما لها من تأثير كبير يمكن أن تفرزه نتائجها على مجمل الملفات المتعلقة بتركيا داخليًّا وخارجيًّا.
ويأتي هذا الاهتمام من حالة الاستقطاب السياسي الذي تعيشه تركيا اليوم، والتفاوت الكبير في المواقف السياسية بين تحالف الشعب بقيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتحالف الأمة المعارض بقيادة كمال كليجدار أوغلو، حيث من المتوقع أن يؤدي فوز أي من التحالفَين إلى إنتاج تحولات كبيرة في السياسات الداخلية والخارجية للجمهورية التركية في المرحلة المقبلة.
وبالحديث عن موقع العراق في هذه الانتخابات ونتائجها، يمكن القول إن العراق من أبرز الساحات التي ستشهد تأثرًا بهذه الانتخابات، نظرًا إلى طبيعة التعقيد الذي تشهده العلاقات العراقية التركية، وتعدد الملفات والقضايا التي تخصّ البلدَين، إذ ما زال البعض منها لم يجد طريقه للحل، فيما يشهد البعض الآخر محاولات لترجمتها على أرض الواقع.
ومع دخول متغير الانتخابات، يصبح الحديث عن مستقبل هذه الملفات من الأهمية بمكان، خصوصًا في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي الذي تمرُّ به تركيا اليوم، إذ من الممكن أن يؤدي أي تغيير في السياسة الخارجية التركية حيال العراق إلى ارتدادت سلبية على الساحة العراقية.
ملفات معقّدة وتغيرات محتملة
تؤطر العلاقات العراقية التركية العديد من الملفات التي ما زالت موقع خلاف بين البلدَين، والتي يأتي في مقدمتها ملف الوجود العسكري التركي في شمال العراق، وملف حزب العمال الكردستاني، وملف العلاقة مع أربيل، وملف القناة الجافة أو مشروع “طريق التنمية”، وملف المياه.
بالإضافة إلى ملف الحكم الذي أصدرته محكمة باريس مؤخرًا، والذي ألزمت به تركيا دفع تعويضات للعراق نتيجة تصدير تركيا للنفط المستورد من أربيل عبر ميناء جيهان التركي من دون موافقة وزارة النفط العراقية، إذ بلغت قيمة التعويضات 1.4 مليار دولار.
الفراغ الذي سينجم عن أي تغيير في وضع هذا الوجود، في حال ما إذا فاز تحالف الأمة بالانتخابات، ودون تنسيق مسبق مع الجانب العراقي، سيؤدي إلى تداعيات أكثر خطورة من مسألة التعامل مع تهديدات حزب العمال الكردستاني
ملف الوجود العسكري التركي في شمال العراق، دون غيره، سيكون أحد أكثر الملفات تأثرًا بنتائج هذه الانتخابات، وذلك عطفًا على المواقف السياسية التي صدرت من قبل قيادات تحالف الأمة.
إذ عبّرت هذه المواقف عن رغبة واضحة لإنهاء هذا الوجود، أو بدرجة أقل إيقاف العمليات العسكرية التركية خارج الحدود، ولعلّ أحد أبرز الأسباب في ذلك يأتي نتيجة تأييد حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، والذي يتهم بعلاقاته الوثيقة مع حزب العمال الكردستاني، لمرشح تحالف الأمة كليجدار أوغلو.
وليس هذا فحسب، بل إن هذا الملف هو بالأساس أحد البرامج الانتخابية الذي تلوح به أحزاب المعارضة، إذ عبّرت مرارًا عن أن العمليات العسكرية التي تشنّها تركيا في شمال العراق لم تؤدِّ حتى الآن إلى إنهاء تهديدات حزب العمال الكردستاني، وعادةً ما يتم توظيفها في خدمة الأجندة الداخلية لأردوغان.
وبغضّ النظر عن مدى صحة هذا الطرح أم لا، فإن الفراغ الذي سينجم عن أي تغيير في وضع هذا الوجود، في حال ما إذا فاز تحالف الأمة بالانتخابات، ودون تنسيق مسبق مع الجانب العراقي، سيؤدي إلى تداعيات أكثر خطورة من مسألة التعامل مع تهديدات حزب العمال الكردستاني، خصوصًا أن هناك طرفًا إقليميًّا يتحيّن الفرصة لملء أي فراغ في العراق، والحديث هنا عن إيران وحلفائها من الفصائل المسلحة، والتي تنظر إلى الوجود التركي على أنه أحد مصادر التهديد لنفوذها في شمال العراق.
أما الملف الآخر الذي من المتوقع أن يتأثر بهذه الانتخابات هو ملف القناة الجافة، ففي زيارته الأخيرة إلى أنقرة، اتفق رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، مع الرئيس أردوغان على إطلاق هذا المشروع، والذي يربط تركيا بمياه الخليج العربي عبر العراق.
ما بين استمرارية “تركيا الحاضرة” في عهد أردوغان أو “تركيا الغائبة” كما تلوّح قوى المعارضة، تُطرح العديد من التساؤلات حول المستقبل الذي سينتظر تركيا في العراق بعد الانتخابات
ورغم الجدوى الاقتصادية لهذا المشروع، فإن فوز تحالف الأمة بالانتخابات قد يجعل منه مجرد طموح لا أكثر، إذ إن نظرة بسيطة إلى البرنامج الانتخابي لهذا التحالف يعطينا تصورًا واضحًا أن الشأن المحلي يحظى باهتمام أكبر من الملفات الخارجية، ومن ثم المتوقع ألّا يتم التفاعل مع هذه المشروع أو حتى العمل على إنجازه.
وبالحديث عن الملفات الأخرى، كالمياه، من المتوقع ألّا تشهد تغييرًا كبيرًا، خصوصًا أن هذا الملف بلور رؤية تركية سارت عليه جميع الحكومات التركية، سواء الحكومات التي قادها حزب العدالة والتنمية أو أحزاب أخرى، إذ حرصت تركيا على إبقاء هذا الملف بعيدًا عن التغييرات السياسية التي تشهدها البلاد، وعدم القبول بأي تنازلات تقدَّم للعراق فيما يتعلق بالحصص المائية.
والأهم من ذلك كله عدم القبول بأي محاولات عراقية لتوقيع اتفاقية مائية مع تركيا توضّح حقوق والتزامات الطرفَين، لإدراك تركيا بأهمية الحفاظ على هذه الورقة، والتلويح بها كورقة ضغط حيال العراق في ظل الحاجة العراقية المتزايدة للمياه، بسبب حالة الإجهاد المائي التي يعيشها العراق، فضلًا عن كونه دولة حبيسة مائيًّا.
لا يختلف أحد على أن هذه الانتخابات ستعيد تشكيل الداخل التركي بدرجة كبيرة، كما أنها سترسم خطوطًا جديدة للسياسة الخارجية، والعراق كغيره من الدول المجاورة لتركيا ينظر باهتمام بالغ إلى هذه الانتخابات، إذ أنتجت الأدوار التركية في العراق خلال الفترة الماضية واقعًا أمنيًّا وسياسيًّا اتصف بالاستمرارية نوعًا ما.
ومن ثم أي تغيير قد يطرأ على هذه الأدوار قد يعيد بدوره إعادة تشكيل الصورة التركية في العراق، فما بين استمرارية “تركيا الحاضرة” في عهد أردوغان أو “تركيا الغائبة” كما تلوّح قوى المعارضة، تُطرح العديد من التساؤلات حول المستقبل الذي سينتظر تركيا في العراق بعد الانتخابات المقبلة.