أكثر من نصف قرن من التنقيب الفرنسي عن معدن اليورانيوم في عاصمة مناجمه في أفريقيا، أصبحت فرنسا بفضله في مصافّ أكبر مصدري الطاقة الكهربائية، فيما تعيش النيجر في ظلام دامس واقتصاد هشّ جعلها واحدة من أفقر البلدان على وجه الأرض، إذ يعيش أكثر من 60% من سكانها البالغ عددهم 17 مليون نسمة على أقل من دولار واحد في اليوم.
أصبحت المستعمرة الفرنسية السابقة رابع أكبر منتج لخام اليورانيوم -الذي يُطلق عليه اسم “الكعكة الصفراء” للونه الأصفر- بعد كازاخستان وكندا وأستراليا، وفي عام 2021 زوّدت النيجر الاتحاد الأوروبي بما يقرب من 25% من إمدادات اليورانيوم، ما ساعد في إنتاج الكهرباء لملايين المنازل.
كان من المفترض أن يساعد تعدين اليورانيوم في محاربة الفقر، لكن ما حدث أصاب النيجريين بـ”لعنة اليورانيوم”، في الوقت نفسه نمت شركة التعدين الفرنسية العملاقة المملوكة للدولة “أورانو” (Orano) لتصبح واحدة من أكبر الشركات في العالم، بينما تعتمد فرنسا على المحطات النووية التي تعمل باليورانيوم في إنتاج ثلاثة أرباع احتياجاتها من الكهرباء، ما يجعلها أكثر اعتمادًا على اليورانيوم من أي بلد آخر.
الفصول الأولى من القصة.. رحلة البحث عن اليورانيوم
عندما بدأت فرنسا تعدين خام اليورانيوم في صحراء شمال النيجر في أوائل السبعينيات، كانت مدينة أرليت عبارة عن مكان مهمل تجوبه العواصف الرملية، ومجموعة من أكواخ عمال المناجم الذين تقطعت بهم السبل بين صخور الجبال ورمال الصحراء، ثم نمت لتصبح مستعمرة فرنسية مترامية الأطراف تضم أكثر من 100 ألف شخص، لكنها بالكاد تأثرت بالثروة المعدنية التي تشحنها إلى أوروبا كل عام.
غيّر الحظر النفطي الذي فرضته منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، كمحاولة لدعم مصر وسوريا في حرب 1973، ملامح المشهد، وتسبّب هذا القرار في ارتفاع أسعار الطاقة العالمية إلى مستويات قياسية، ولتحرير نفسها من الاعتماد على النفط الأجنبي في تشغيل معظم محطات الطاقة، احتضنت فرنسا الطاقة النووية باعتبارها البديل الأنسب للنفط والغاز في إنتاج الطاقة، وأصبحت هذه الزاوية النائية من أفريقيا بين عشية وضحاها فريسة لمصالحها الوطنية.
كان المستعمر القديم (فرنسا) يدرك أن النيجر هي أرض الكنز المجهول لما تحويه من ثروات في باطنها، من بينها معدن اليورانيوم الذي حرصت فرنسا على وضعه تحت تصرفها بشكل مطلق.
في الفترة بين عام 1974 وأواخر الثمانينيات، بدأت شركة كهرباء فرنسا تشغيل المفاعلات النووية بواقع 6 مفاعلات كل عام، حتى أصبحت تمتلك فرنسا اليوم حوالي 56 محطة نووية أُنشئ معظمها في فترة السبعينيات والثمانينيات، وتوفّر حوالي 75% من احتياجات فرنسا من الكهرباء.
اعتبارًا من يناير/ كانون الثاني 1988، كانت فرنسا تمتلك حوالي 62 ألف طن من الاحتياطات المؤكدة من اليورانيوم اللازم لتشغيل المفاعلات النووية، لكن حجم هذه الاحتياطات لم يكن كافيًا لتشغيل المفاعلات النووية، ففي عام 1982 كان الإنتاج الفرنسي من اليورانيوم يغطي حوالي 80% من احتياجات المفاعلات.
في عام 1990، لم يكن الإنتاج يغطي إلا ثلت الاحتياجات، بسبب تكلفة استخراج اليورانيوم المرتفعة حيث تصل إلى 130 دولارًا لكل كيلو، بالإضافة إلى تعالي الأصوات المعارضة للمخاطر البيئية والصحية على الفرنسيين، وانتهى الأمر بإغلاق المناجم التي وصل عددها إلى 230 منجمًا، كان آخرها عام 2001.
يشير الترتيب العالمي لحجم الثروات تحت الأرض إلى اتساع الفارق بين النيجر وفرنسا، حيث تأتي الأخيرة في المرتبة 143 عالميًّا في حين تحتل النيجر المرتبة 43 عالميًّا بحسب إحصاءات The Global Economy لعام 2015، وفي حين انتهت موارد اليورانيوم في فرنسا عام 2001، ما زالت النيجر تمتلك 276 ألفًا و400 طن، أي ما يعادل 4% من الاحتياطات العالمية، وتنتج حوالي 7.5% من اليورانيوم في العالم وفقًا للجمعية النووية العالمية.
كانت النيجر تأمل في أن تحقق هذه الاحتياطات من هذا المعدن الاستراتيجي مكاسب مالية تساهم في التنمية الاقتصادية، وتحسين مستوى معيشة النيجريين الذين عانوا كثيرًا خلال فترة الاستعمار الفرنسي في أفريقيا، وذلك من خلال بيع اليورانيوم بأعلى سعر وتحقيق أقصى استفادة من الدول المستوردة بما في ذلك فرنسا، لكن الأمر لم يخلُ من الابتزاز تارة والخداع تارة أخرى.
ومع نضوب احتياطات اليورانيوم، اتجهت فرنسا بالفعل إلى الدول الفقيرة التي تحوي كميات كبيرة من اليورانيوم، والتي تمتلك فيها بالفعل مشاريع لاستخراج اليورانيوم، ففي عام 1984 كانت شركات التعدين الفرنسية تشارك في مشاريع استكشاف واستخراج اليورانيوم في 18 دولة، وانحصرت أنشطة هذه الشركات بعد عامَين في 9 دول أفريقية (الكاميرون والغابون والكونغو ومالي والنيجر والسنغال ونيجيريا وزائير وزامبيا).
من بين هذه الدول الأفريقية كان المستعمر القديم (فرنسا) يدرك أن النيجر هي أرض الكنز المجهول لما تحويه من ثروات في باطنها، من بينها معدن اليورانيوم الذي حرصت فرنسا على وضعه تحت تصرفها بشكل مطلق حتى بعد استقلالها عام 1960.
لم تكن النيجر قد نالت استقلالها عندما بدأت فرنسا أبحاث اليورانيوم من خلال شركة “كوجيما” (Cogema)، العاملة في صناعة التعدين في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، والتي تمتلك الحكومة الفرنسية نحو 80% منها.
وفي أواخر الخمسينيات، اُكتشف اليورانيوم للمرة الأولى عندما عثرت هيئة الطاقة الذرية والبديلة الفرنسية ومكتب البحوث الجيولوجية والتعدين الفرنسي على رواسب من اليورانيوم في مدينة أرليت شمال النيجر، ثم بدأ التخصيب عبر “كوجيما” التي عُرفت لاحقًا بشركة “أريفا” (Areva) العملاقة، وصولًا إلى مسمّاها الحالي “أورانو”.
سرقة كعكة اليورانيوم الصفراء
رغم استقلال النيجر عن فرنسا، إلا أن الأخيرة كانت تتمتع بنفوذ سياسي وعسكري مكّنها من فرض سيطرتها، وفي ذلك الوقت لم تحقق النيجر أي ربح، لأن القوانين الوطنية الجديدة -مثل قانون المناجم- لم تقدم تقسيمًا جيدًا للحصص وحتى للاقتصاد في النيجر، وكان للفرنسيين متطلبات في كل مرة.
في حين تصل الكهرباء إلى كل مواطن فرنسي، يسود الظلام معظم أجزاء مدن النيجر، حيث لا يتجاوز الوصول إلى الكهرباء نسبة 19.3% من إجمالي السكان.
بموجب اتفاقيات وُقّعت بين الدولتَين عام 1961 و1968، بدأت الشركات الفرنسية أنشطة استكشاف واستخراج اليورانيوم بشروط وُصفت بـ”المخزية والظالمة” لأصحاب الأرض، من بينها الحصول على إعفاءات من ضرائب الدخول والرسوم الجمركية، بالإضافة إلى إعفاء من دخل الشركات الفرنسية العاملة في قطاع اليورانيوم من ضريبة الشركات.
ويشعر البعض في أرليت على وجه الخصوص بالغضب لأن المنجم لم يحقق الرخاء للمدينة، ففي حين يعيش حوالي 2000 موظف في شركات التعدين الفرنسية في عقارات أنيقة بها نادٍ ومطاعم، يعيش ما تبقى في فقر مدقع، مع شوارع غير معبّدة ومنازل متداعية من الطوب.
وغالبًا ما يشير المسؤولون والمنظمات غير الحكومية إلى مستويات عالية من الفساد كسبب لضعف تقديم الخدمات، حيث تحتلّ النيجر المرتبة 106 من بين 177 دولة في مؤشر مدركات الفساد السنوي لمنظمة الشفافية الدولية.
تشير الأرقام بوضوح إلى هذا النوع من الاستعمار الاقتصادي، فالناتج المحلي الإجمالي في فرنسا وصل في عام 2021 إلى 2.96 تريليون دولار، ووصل نصيب الفرد إلى 43 ألفًا و659 دولارًا، في حين وصل الناتج المحلي الإجمالي في النيجر إلى 14.92 مليار دولار ولم يتجاوز نصيب الفرد 590.6 دولارًا.
وفي حين تصل الكهرباء إلى كل مواطن فرنسي، يسود الظلام معظم أجزاء مدن النيجر، حيث لا يتجاوز الوصول إلى الكهرباء نسبة 19.3% من إجمالي السكان، ولا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة إلى المياه، حيث تزوّد محطة مياه “أريفا” مدينة أرليت، رغم أن السكان -الذين لا يحق لهم الحصول على الماء أو الكهرباء مجانًا بموجب شروط عقد “أريفا”- يدفعون لشركة المياه الحكومية.
كانت فرنسا ممثلة في شركتها “أريفا” تشتري اليورانيوم من النيجر بأسعار زهيدة مقارنة بأسعاره العالمية، في حين كانت الحكومة النيجرية تحصل على ضريبة أرباح من الشركة الفرنسية بقيمة 5.5%، لكن النيجر لم تكن تملك الكثير من الخيارات.
تعود بدايات الامتعاض النيجري من الاستنزاف الفرنسي لثروات البلاد إلى عهد الرئيس النيجري الأسبق حماني ديوري، عندما طالب -عقب قرار فرنسا الاعتماد على الطاقة النووية على خلفية أزمة النفط العالمية عام 1973- بزيادة حصة بلاده من عائدات اليورانيوم التي تستخرجها الشركات الفرنسية.
اكتسب ديوري ورقة مساومة جديدة، حيث دفعت أزمة النفط فرنسا إلى توسيع قدرتها على الطاقة النووية، ورأى في ذلك فرصة للإضراب، ودعا، إلى جانب رئيس الغابون علي بونغو، الذي ارتبط تعدين اليورانيوم في بلاده ارتباطًا وثيقًا بالنيجر نظرًا إلى دور لجنة الطاقة الذرية والبديلة الفرنسية وشركة “كوجيما” سابقًا؛ إلى اجتماع لإعادة التفاوض بشأن أسعار اليورانيوم، لكن لم تنجح المحادثات في البداية وتمَّ تعليقها.
بعد أسبوع واحد من الاجتماع، توفى خليفة الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، جورج بومبيدو، وفي طريقه إلى حفل التأبين حاول ديوري ترتيب لقاء مع رئيس الوزراء لاستئناف المفاوضات، وهو الموقف الذي ردّت عليه فرنسا بتدبير أول انقلاب عسكري في منتصف أبريل/ نيسان 1974، قاده الجنرال سيني كونتشي المقرب من الفرنسيين قبل 72 ساعة فقط من موعد الاجتماع المقرر بين الأطراف الثلاثة (فرنسا والنيجر والغابون).
منذ هذه اللحظة التي شهدت أول انقلاب عسكري في البلاد، سيطر الفرنسيون على اليورانيوم في النيجر التي كانت من بين أكبر منتجي هذا المعدن في العالم، وسخّرت فرنسا المناجم لصالح المفاعلات النووية، لدرجة أن يورانيوم النيجر كان في وقت من الأوقات مسؤولًا عن إضاءة ثلث الأنوار في فرنسا، في حين كانت النيجر واحدة من أفقر دول العالم.
ضريبة اليورانيوم.. استعمار اقتصادي جديد
بعد 3 عقود من نهب ثروات البلاد، وفي عام 2006، أقرت النيجر قانونًا جديدًا ينظّم أنشطة التعدين، بما في ذلك اليورانيوم، ورفعت الحكومة النيجرية بموجبه الضريبة المفروضة على أنشطة تعدين اليورانيوم من 5.5% إلى 12%، لكن هذا القانون لم يؤثر على الفرنسيين.
ففي 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، وقّعت “أريفا” اتفاقًا مع حكومة النيجر دخل حيّز التنفيذ في 1 يناير/ كانون الثاني 2004، وامتدَّ إلى مدة 10 سنوات، حيث هذا الاتفاق يمنع الحكومة عن إجبار “أريفا” على الالتزام بأي قوانين جديدة تعتمدها الحكومة خلال مدة العقد (2004-2014).
إلقاء نظرة على الفصول السابقة من القصة لا يعطي الكثير من الأمل في تحقيق نتيجة إيجابية في الفصول التالية.
لم يتم الإعلان عن اتفاقيات “أريفا” والنيجر التي انتهت صلاحيتها في عام 2014، لكن وكالة “رويترز” نشرت في هذا التوقيت تسريبًا عبر مقال تناول طبيعة التعاقدات بين الطرفَين، تظهر فيه حجم المزايا والإعفاءات الضريبية التي كان بعضها معياريًّا بموجب قانون التعدين لعام 1999 في النيجر، بالإضافة إلى الإعفاءات من الرسوم وبنود الحماية التي اشترطتها فرنسا لبسط سيطرتها على كنز اليورانيوم.
كشفت “رويترز” أن مناجم “أريفا” لا تدفع رسوم تصدير على اليورانيوم، بالإضافة إلى الإعفاء من ضريبة القيمة المضافة على المواد والمعدّات والآلات وقطع الغيار والمنتجات البترولية المستخدمة في عمليات التعدين، بما في ذلك المواد الكيميائية الأخرى المستخدمة في معالجة الخامات والمركبات وحتى الملابس الواقية، وعائدات تبلغ 5.5% فقط -أكبر مصدر دخل من المناجم- على اليورانيوم الذي تنتجه.
قبل انتهاء مدة الاتفاقية، دخل الطرفان في مفاوضات للاتفاق على صيغة جديدة بعد عام 2014، وطالبت حكومة النيجر باريس، وتحديدًا شركة “أريفا”، بصفقة أفضل لليورانيوم لأكثر من عام، وبدأ الجانبان المحادثات لكنهما أخفقا في إبرام اتفاق قبل انتهاء عقود “أريفا” للتعدين في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2013.
قبل شهر من هذا الموعد، استمرت المفاوضات بين حكومة النيجر وشركة “أريفا” بشأن زيادة عائدات اليورانيوم في مناجم “أريفا” من 5.5% إلى 12%، ما يجعلها أقرب إلى نسبة 13% التي فرضتها مقاطعة ساسكاتشوان الكندية المنتجة لليورانيوم على “أريفا” على مدى العقد الماضي، أعلى بنسبة 5% التي تفرضها معظم الولايات الأسترالية، ونسبة 18.5% التي تدفعها في كازاخستان.
ومع ذلك، فإن الشركة المملوكة لفرنسا، والتي أنتجت ما يقرب من خُمس اليورانيوم في العالم عام 2012، وحققت عائدات عالمية بلغت 9.3 مليارات يورو (12.56 مليار دولار) عام 2013، وهو ما يقرب من ضعف حجم اقتصاد النيجر بأكمله وفقًا لصندوق النقد الدولي؛ تصرّ على أن مثل هذا التغيير لن يجعل أعمالها في النيجر مربحة.
أوقفت “أريفا” أنشطة التعدين الخاصة بها في موقعَيها في النيجر في منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2013: منجم “سومير” (Somair) و”كوميناك” (Cmoinak) العملاقان في أرليت، وقالت الشركة إن الإغلاق كان بداعي “الصيانة”، لكن نقابة المناجم والمعادن والكيماويات (سينامين) وصفت ما حدث بأنه “تكتيك تفاوضي” يهدف إلى الضغط على المفاوضين النيجريين، واُستؤنف الإنتاج في بداية فبراير/ شباط 2014، لكن المحادثات استمرت مع تمسُّك النيجر بموقفها.
في مايو/ أيار 2014، وافقت “أريفا” على خفض الإعفاءات الضريبية وزيادة معدلات الضريبة في مناجم اليورانيوم في النيجر، لكنها قالت إن بدء الإنتاج في منجمها العملاق الجديد “إيمورارين” سيتأجّل حتى تسمح ظروف السوق بذلك.
بموجب شروط الصفقة التي طال انتظارها لتجديد اتفاقيات الإنتاج في النيجر، وافقت الشركة الفرنسية المملوكة للدولة أيضًا على دفع 90 مليون يورو (123 مليون دولار) لإعادة بناء الطريق المؤدي إلى مناجمها في أرليت، لاستثمار 17 مليون يورو في مشروع التنمية المحلية.
واستجابةً لضغوط حكومة الرئيس النيجري السابق محمدو يوسفو (2011–2021)، الذي وصف هذه الصفقات بمثابة عودة إلى حقبة ما بعد الاستعمار، عندما لعبت فرنسا دورًا مهيمنًا في اقتصادات أراضيها الأفريقية السابقة، تعهّدت “أريفا” ببناء مقر جديد لعمليات التعدين في العاصمة نيامي بتكلفة 10 ملايين يورو، كما التزمت بتسمية مواطني النيجر على رأس منجميها في البلاد -سومير وكوميناك- بحلول عام 2014 و2016 على التوالي.
قد تكون نتيجة المحادثات المتعثرة مهمة للغاية بالنسبة إلى النيجر، لكن هذه ليست المرة الأولى التي تجدُ الدولة الواقعة في غرب أفريقيا نفسها في هذا الموقف، في الواقع كانت هذه المفاوضات مجرد الفصل الأخير في تاريخ طويل من العلاقات بين فرنسا والنيجر، ولسوء الحظ إن إلقاء نظرة على الفصول السابقة من القصة لا يعطي الكثير من الأمل في تحقيق نتيجة إيجابية في الفصول التالية.
منذ دخول الاتفاق الجديد حيز التنفيذ، لم ترتفع إيرادات قطاع اليورانيوم التي حصلت عليها النيجر رغم أن حجم الإنتاج لم يتغير، على سبيل المثال دفعت “أريفا” للنيجر عام 2013 ضرائب بقيمة 15 مليون دولار عن إيراداتها من منجم “سومير”، أحد أكبر مناجم اليورانيوم، وفي عام 2015 -بعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ- دفعت الشركة ضرائب قيمتها 11 مليون دولار عن المنجم نفسه ومستويات الإنتاج نفسها.
تتمثل إحدى نقاط الخلاف الرئيسية في كيفية حساب السعر الرسمي لليورانيوم المستخدَم كأساس للحصول على العائدات والضرائب والأرباح، وفي حالة النيجر تُحسب نسبة الـ 12% التي فرضتها على أساس أرباح الشركة الفرنسية التي يحددها سعر بيع اليورانيوم، لكن الفرنسيين لجأوا إلى تخفيض السعر من 110 دولارات إلى أقل من 79 دولارًا للكيلوغرام، رغم أن دستور البلاد لعام 2010 ينصّ على أن الصناعات الاستخراجية يجب أن تكون شفافة وتخدم مصالح البلاد.
بالنظر إلى مدفوعات “أريفا” وإنتاجها من اليورانيوم عام 2015، نلاحظ أن 28% من إنتاج الشركة من اليورانيوم يأتي من النيجر، و37% من كازاخستان، لكن مدفوعات الضرائب لكلا البلدَين لا تتناسب مع الإنتاج، فقد دفع الفرنسيون للنيجر 7% من إجمالي الضرائب المدفوعة للدول صاحبة الأراضي التي تحتوي على مناجم اليورانيوم، ودفعوا لكازاخستان 74% من الأموال، وبالتالي أصبح الوضع كما هو عليه.
لا تقدّم “أريفا” توزيعًا لأرباح عملياتها في النيجر، لكنها تقول إن صفقتها الحالية مع النيجر “عادلة”، وتقول إنه على مدار الـ 50 عامًا الماضية تلقّت النيجر حوالي 80% من “الفوائد المباشرة” -الضرائب والأرباح- من منجمَي اليورانيوم التابعَين لها، بينما أخذت “أريفا” الباقي، وتقدّر أن مناجمها دفعت ما مجموعه 82 مليون يورو للنيجر في شكل أرباح وضرائب عام 2011، و123 مليون يورو عام 2012.
وتقول الشركة إنها تقوم بالكثير بشكل مباشر من خلال توفير الوظائف، وتنفق 6 ملايين يورو سنويًّا على مشاريع الصحة والتعليم والتنمية الاقتصادية في النيجر، والواقع أنه لا يوجد مستشفى عامّ، وهناك أحياء يضطر فيها التلاميذ إلى الجلوس على الأرض أو الدراسة في أكواخ من القشّ.
ومع ذلك، إن مبادرة الشفافية في مجال الصناعات الاستخراجية (EITI)، وهي تحالف عالمي من الحكومات، بما في ذلك النيجر، والشركات التي تسعى إلى تحسين المساءلة عن عائدات الموارد الطبيعية، تقدّر أن مناجم “أريفا” دفعت ما مجموعه 66.3 مليون يورو للنيجر عام 2011.
توضّح نظرة سريعة على ميزانية النيجر سبب أهمية هذه العائدات، حيث تشكّل المساعدات الغربية ما يقرب من 40% من ميزانية الدولة -ومعظمها للمفارقة من فرنسا، التي أقرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي مساعدة للنيجر بقيمة 15 مليون يورو- كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، وتعدّ الإيرادات الضريبية في النيجر هي الأدنى في غرب أفريقيا وفقًا لصندوق النقد الدولي.
حصاد الخطايا.. سنوات من الإشعاع
في طريق الخروج من مناطق التنقيب في أرليت، كانت المقبرة التي تمثل أكبر معالم المدينة تطرح في الأذهان الكثير من الأسئلة عمّن قضوا على يد شبح القتل البطيء، الذي غرزت فرنسا أقدامه فوق أحلام البسطاء والمهمشين.
في عام 2009 توفي سيرج فينيل، عامل منجم فرنسي عمل لصالح شركة “أريفا” في النيجر من عام 1978 إلى عام 1985، بسبب سرطان الرئة، وكان قد أثار في السابق مخاوف بشأن عدم وجود احتياطات صحية في المناجم، وبعد وفاته قال الأطباء إن عمله غير المؤمَّن في الصناعة النووية كان السبب.
وافقت المحاكم الفرنسية على ذلك، وطالبت “أريفا” عام 2012 بدفع 200 ألف يورو لأسرة فينيل، ومع ذلك تجلت قوة “أريفا” في المعارك القضائية حول سلامة المناجم، وفي عام 2013 ربحت الشركة الفرنسية الاستئناف، وجادلت الشركة بأن منجم “كوميناك” هو المسؤول وليس “أريفا”، رغم كونها المساهم الأكبر في المنجم.
ملاحقة عدد كبير من قضايا الفساد لشركة “أريفا” دفعتها إلى تغيير اسمها في يناير/ كانون الثاني 2017 إلى شركة “أورانو“، التي حلت وارثًا جديدًا لكنها لم تستطع فكّ الارتباط عن إرث “أريفا” الثقيل، فرغم ادّعاءات الشركة اتخاذ التدابير اللازمة والتزامها بالمعايير الصحية الدولية، إلا أن وقائع مرض العمال بسبب الجهد البدني المبذول وموت بعض المواطنين بسبب آثار الإشعاع القديمة لم تتوقف.
في يناير/ كانون الثاني 2023، عقدت إحدى لجان الجمعية الوطنية بفرنسا جلسة مساءلة للمدير التنفيذي لشركة “أورانو”، فيليب نوش، حول موت بعض عمّالها بالسرطان بسبب إشعاع مخلفات اليورانيوم عام 2009، وانتهاكات الشركة وأسلافها لحقوق الإنسان ببلدان تمتلك احتياطات من اليورانيوم للحصول على الكهرباء لتشغيل المراكز الفرنسية، كما تقول عضو البرلمان الفرنسي جولي لارنويس.
كانت إجابات مدير “أورانو” أبشع من الجريمة المرتكبة، وردَّ بقوله: “لا، نحن لا ننتهك حقوق الإنسان، وليس من المنطقي التعامل مع أي بلد كان بطريقة غير محترمة”، رغم أن النتائج التي توصلت إليها اللجنة المستقلة للبحوث والمعلومات حول النشاط الإشعاعي “كريراد”، ومقرّها فرنسا، تكشف أن مستوى النشاط الإشعاعي كان 450 ألف بيكريل (وحدة النشاط الإشعاعي) لكل كيلوغرام، وهو أعلى بكثير من مستويات الإشعاع الموصى بها دوليًّا.
ملاحقة عدد كبير من قضايا الفساد لشركة “أريفا” دفعتها إلى تغيير اسمها في يناير/ كانون الثاني 2017 إلى شركة “أورانو”، التي حلت وارثًا جديدًا لكنها لم تستطع فكّ الارتباط عن إرث “أريفا” الثقيل.
ادّعاءات نوش التي تنكر التلوث الذي لحق بمدينة أرليت وحاق بأهلها ثبت في وقت سابق أيضًا أنها “كاذبة”، ففي ديسمبر/ كانون الأول 2003 حاولت شركات التعدين منع باحثين من مختبرات “كريراد” من القيام بمهمة علمية في أرليت، وتبيّن تورط الحكومة الفرنسية في إصدار أوامر للشرطة النيجرية بمصادرة المعدّات العلمية بمطار نيامي.
لكن بمساعدة منظمة ONG المحلية، أثبت الباحثون مجموعة من مظاهر التلوث البيئي، من بينها وجود آثار لليورانيوم في الماء، حتى الماء الموزّع من شركات التعدين على سكان أرليت لم يخلُ من وجود نسبة تتعدى المعايير الصحية التي حددتها منظمة الصحة العالمية.
بخلاف ذلك، تستمر آثار مخلفات التنقيب لفترة زمنية طويلة، نظرًا إلى احتوائها على إشعاعات نووية تظل نشطة لمئات الآلاف من السنين، وتقلل شركة “كوميناك” التابعة لـ”أورانو” من هذه الآثار السلبية بقولها إنها ستغطّي النفايات المشعّة بطبقة من الطين والصخور بطول مترَين لاحتواء الإشعاع، ومع ذلك يتساءل البعض عمّا إذا كانت هذه الطبقة ستكون قوية بما يكفي لعزل الإشعاع لآلاف السنين.
وفي محاولة لذرّ الرماد في عيون الحقيقة عن الواقع الصحي في المدينة، أنشأت الشركات الفرنسية مراكز صحية لا تملك الحد الأدنى لكشف ظواهر الموت في أرليت، الأمر الذي يثير التساؤل حول قدرة هذه المشافي على القيام بدور واقعي جادّ، في مواجهة حصار الموت في النيجر التي تحتل المرتبة 147 عالميًّا في مؤشر الأمن الصحي العالمي، في حين تأتي فرنسا في المرتبة 14 عالميًّا.
في 31 مارس/ آذار 2021، قررت “أورانو” إيقاف أنشطة التعدين في منجم “كوميناك”، ومع ذلك تقول الشركة عبر موقعها الإلكتروني إن إعادة تطوير الموقع وأعمال المراقبة البيئية ستستمرّ لمدة 20 عامًا على الأقل، لكن هذا القرار أظهر جانبًا آخر من نمط العلاقة التي تصفها “أورانو” بـ”المنفعة المتبادلة” بين تلك الشركات وشعب النيجر.
قررت “كوميناك” الرحيل لكنها لم تترك خلفها شيئًا صالحًا، فقد عمدت إلى تدمير كل شيء حتى بيوت العمال حتى لا تسمح للنيجريين بالاستمرار في استخراج اليورانيوم، ومنحت العمال مكافآت نهاية خدمة غير مرضية، ولم يعد هناك حياة برية، أو أي نباتات على قيد الحياة، وتُركت البلدة غارقة في 20 مليون طن من النفايات المشعة، حسبما أفاد موقع “آر إف آي” الفرنسي.
بعد عام ونصف، بثت قناة “فرانس 24” تقريرًا مصورًا يرصد تدهور وضع العمال الصحي وظروف معيشتهم بعد إغلاق المناجم، ثم تتحدث الشركة عن التحلي بالصبر، وتعدُ الموظفين السابقين باتخاذ التدابير اللازمة التي تمكّنهم من امتلاك منازل.
هذه التجاوزات تمثل نقطة في بحر انتهاكات مستمرة لفرنسا في القارة السمراء، وضعت دولاً تُوصف بـ”أرض البركة” في بؤرة استعمار هيمن عليها سياسيًّا وعسكريًّا واستغلها اقتصاديًّا
يلوم عمال “كوميناك” السابقون الشركة لعدم توفير المتابعة الطبية اللازمة لهم، وتقدّمَ عدد منهم بشكاوى ضدها في فرنسا، واتهموها بالتسبُّب في القتل وإصابتهم بأمراض خطيرة نتيجة استخراج اليورانيوم، وهو ما تؤكده منظمة “السلام الأخضر” (Greenpeace) التي بحثت في المنطقة، وتوصلت إلى أن العديد من عمال الشركة يعانون من أمراض غير مبررة تؤثر على الجلد والكبد والكليتَين والرئتَين.
في الآونة الأخيرة، أثار فيلم وثائقي على قناة “الجزيرة” وتحقيقات أجرتها منظمة “السلام الأخضر” مخاوف بشأن الآثار الصحية حول المناجم في أرليت، وتدّعي المنظمة أن الإشعاع حول المناجم يزيد بمقدار 100 مرة عن مستويات السلامة التي تحددها منظمة الصحة العالمية.
بينما تؤكد المنظمات غير الحكومية، إلى جانب منظمات المجتمع المدني المحلية الفعالة، أن التربة والمياه المستخدمتَين في البلدات المحيطة بالمناجم قد تلوثت، 100 ألف شخص يعيشون في المنطقة لا يوجد لديهم بديل سوى الاستمرار في شرب تلك المياه، وتضخّ فتحات المناجم غازًا مشعًّا يعرَف باسم “الرادون”، وأطنانًا من النفايات النووية تُركت حول المنطقة، وتنشر الرياح القوية للصحراء غبارًا مشعًّا يستنشقه السكان المحيطون.
يمكن أن يؤدي التعرض لمثل هذه المستويات المرتفعة بشكل خطير من الإشعاع إلى حدوث تشوهات خلقية والسرطان وعدد من الاضطرابات الأخرى، حتى أن الفيلم الوثائقي لقناة “الجزيرة” أظهر اعتراف الأطباء العاملين في شركة “أريفا” بأن الإشعاع كان مسؤولًا عن وفاة السكان المحليين، مع غياب الرعاية الصحية التي كانت قاصرة على الفرنسيين دون غيرهم، ومع ذلك يبقى أن نرى كيف تستجيب “أريفا” وما إذا كانت ستتم محاسبتها.
في عام 2022، رسمت باريس ملامح رؤيتها الاستراتيجية حتى عام 2030، وفق ما نشرته المجلة الاستراتيجية الوطنية، كان من بينها مواصلة الجهود لتحديد مكوّن الردع النووي وتأمين الإمدادات والمخزونات ذات الأهمية الحاسمة والمخزون المتطابق وقدرة الإنتاج.
كما أعلنت “أورانو” في يناير/ كانون الثاني من العام ذاته نيتها تحويل مركز “بيكاستين” بجنوب فرنسا إلى أكبر مركز أوروبي لتخصيب اليورانيوم، وتلك علامات تشير إلى أن النيجر في بؤرة الاستغلال الفرنسي لتحقيق أهدافها المنتظرة.
مثل هذه التجاوزات تمثل نقطة في بحر انتهاكات مستمرة لفرنسا في القارة السمراء، وضعت دولاً تُوصف بـ”أرض البركة” في بؤرة استعمار هيمن عليها سياسيًّا وعسكريًّا واستغلها اقتصاديًّا، وتسعى حكوماتها وشعوبها جاهدة للانعتاق من براثن الماضي الكئيب واللحاق بأحلام التحرر التي تعيشها بوركينا فاسو، وسبقتها في تحقيقها مالي.
في نهاية المطاف، لا تزال العديد من الديناميكيات الموجودة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بارزة حتى اليوم، إذ يسعى المسؤولون النيجريون للحصول على صفقة أفضل لأسعار اليورانيوم مرة أخرى، وتستمر فرنسا في السيطرة على صناعة التعدين في البلاد، ولا تزال المنطقة غير مستقرة إلى حد ما، في حين تحافظ القوات الفرنسية على وجودها المكثف تحت مزاعم محاربة الإرهاب.