يأتي اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يوافق 3 مايو/آيار من كل عام وجراح الأسرة الصحفية المصرية لم تلتئم بعد، فالتنكيل لم يتوقف، وموجات الانتهاكات المتلاطمة من حجب وحبس وتكميم أفواه وتأميم تزداد وتيرتها بصورة حولت مصر إلى سجن كبير للحريات الصحفية رغم ريادتها السابقة كأحد أقدم البلدان معرفة وممارسة للصحافة.
ومع الساعات الأولى لهذا اليوم العالمي، وتزامنًا مع انطلاق جولة جديدة من الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ألقت قوات الأمن المصرية القبض على الصحفي حسن القباني، فجر اليوم الأربعاء، وفق ما ذكرت حسابات الصحفيين على منصات التواصل الاجتماعي (قيل إنه قد أفرج عنه لاحقا حسب مصادر) وذلك بعد أقل من 48 ساعة على اعتقال الصحفية نجوى خشبة، عضو حزب الكرامة، حين داهمتها في منزلها فجر الإثنين 1 مايو/آيار الحاليّ واقتادتها إلى مكان غير معلوم دون إبداء أسباب رسمية، فيما أرجع البعض الاعتقال إلى كتابتها على صفحتها الشخصية على “فيسبوك” منشور عن ارتفاع الأسعار ومعاناة الفقراء.
وتعاني الصحافة المصرية من أوضاع مزرية على المستويات كافة، وسط إصرار سلطوي ممنهج على كبتها وتضييق الخناق عليها، والعمل على تأميمها عبر حزم تشريعية وإجرائية معقدة، ما أدى إلى تراجعها المستمر بين دول العالم في مؤشر الحريات الصحفية، إذ تراجعت من المرتبة 166 عامي 2020 و2021 على التوالي إلى المرتبة 168 عام 2022، وسط توقعات بمزيد من الانهيار في ظل إستراتيجية الدولة في التعامل معها.
“لتتوقف التهديدات والاعتداءات.
وليتوقف احتجاز الصحفيين وسجنهم.
وليتوقف استهداف الحقيقة ورواة الحقيقة.
إن العالم يقف إلى جانب الصحفيين في سعيهم إلى الدفاع عن الحقيقة.”
–الأمين العام @antonioguterres في رسالة بمناسبة #اليوم_العالمي_لحرية_الصحافةhttps://t.co/1GYi0CrZXY pic.twitter.com/XNHdXvhfS2
— الأمم المتحدة (@UNarabic) May 3, 2023
محلك سر.. لم يتغير شيء
منذ إطلاق الرئيس المصري للوثيقة الحقوقية قبل عامين، ومن بعدها دعوته للحوار الوطني بين التيارات السياسية المصرية في أبريل/نيسان 2022 لم يتغير شيء فيما يتعلق بالشأن الحقوقي خاصة الحريات الصحفية، فلا تزال الانتهاكات تسير على قدم وساق، وبخطوات متسارعة بشكل ينسف الشعارات الرنانة التي ترفعها السلطات الحاليّة بشأن تخفيف القبضة الأمنية وإعطاء متنفس نسبي للصحفيين والعاملين في مجال الإعلام.
ما شهدته الساحة الصحفية المصرية خلال الساعات القليلة الماضية، التي تسبق ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة، حيث اعتقال صحفيين في أقل من 48 ساعة، يكشف بشكل كبير ما تعاني منه تلك المهنة التي حولتها الدولة إلى خصم لدود لها يستوجب مواجهته بشتى السبل.
ورغم العفو الرئاسي عن قرابة 1000 سجين رأي منذ بدء عمل لجنة العفو الرئاسي المشكلة قبل عام تقريبًا، فإن الأداء العام لها أحيط بالكثير من الشكوك والتساؤلات عن موضوعيتها ونزاهتها فيما يتعلق بأسماء وهويات المفرج عنهم، حيث الانتقائية الواضحة والتباطؤ الشديد وتدخل أجهزة الأمن الوطني بصورة كبيرة في اختيار الأسماء المرشحة للعفو، وهو ما يجعلها خطوات دعائية أكثر منها رغبة في تغيير جذري حقيقي، هكذا يرى البعض.
وقد استبشر الجميع خيرًا مع انطلاق الدعوات والتعهدات المتكررة من الرئيس والحكومة على مدار العامين الماضيين بشأن انفراجة في ملف الحريات والحقوق، لكن الواقع كان يسير في خطوط عكسية مع تلك الوعود، حيث استمرار الممارسات الإقصائية بصورة لافتة، وتشديد القبضة الأمنية الخانقة، واحتلال قضايا الرأي والنشر مكانة بارزة داخل ساحات القضاء المصري، ما يعكس بشكل أو بآخر الوضع المتدني للحريات الإعلامية في هذا البلد.
الحجب والحبس والتأميم
رصدت مؤسسة حرية الفكر والتعبير (مستقلة معنية بالحقوق والحريات) في تقريرها السنوي عن حالة حرية التعبير في مصر خلال 2022 والصادر في الأول من هذا الشهر، العديد من الانتهاكات التي تمارسها السلطة بحق الصحافة والإعلام بصفة عامة، فضلًا عن تضييق الخناق المتعمد على رواد مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة لتأميم الفضاء الإلكتروني بشتى أنواعه.
وأشارت المؤسسة إلى أن سلاح حجب المواقع والتطبيقات كان أحد الأسلحة المستخدمة من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام (حكومي) لمنع أي أصوات مغردة خارج السرب، وكانت المؤسسة في تقرير سابق لها كشفت عن حجب السلطات المصرية لأكثر من 500 موقع إلكتروني منذ عام 2017، كان آخرها قرار المجلس في 19 أبريل/نيسان 2022 بحجب 12 موقعًا وحسابًا على مواقع التواصل الاجتماعي، تنوعت ما بين حسابات على مواقع التواصل وصفحات وقنوات على اليوتيوب وتطبيقات إلكترونية، ورغم تراجع هذا الرقم (أكثر من 120 موقعًا محجوبًا حتى اليوم)، فإن إستراتيجية الحجب لا تزال قائمة وبشكل ممنهج، الأمر الذي يكشف النوايا الحقيقية بشأن فكرة الحريات والمرونة المزعومة.
وتزامنًا مع استمرار سياسة الحجب، تصر السلطات على تعزيز إستراتيجية التنكيل بالصحفيين عبر الحبس والاعتقال في قضايا النشر، فرغم الإفراج عن عدد من الصحفيين خلال الآونة الأخيرة، هناك العشرات من الصحفيين ما زالوا قيد الاعتقال والحبس (تقديرات تشير إلى وجود 40 صحفيًا داخل السجن) رغم المناشدات المحلية والإقليمية والدولية بالإفراج عنهم.
وقد رصد التقرير الذي أعدته مؤسسة حرية الفكر والتعبير ما لا يقل عن 63 انتهاكًا تعرَّضت له الأسرة الصحفية خلال 47 واقعة مختلفة، خلال العام الأخير، على رأسها القبض على الصحفيين (23 حالة على الأقل منها 9 حالات لأشخاص كتبت عنهم الصحافة) ثم إصدار واتخاذ إجراءات قضائية ضد الصحفيين (8 حالات، في اثنين منها تم الحكم على صحفيين بالسجن في قضايا تتعلق بالنشر) وذلك بما يتعارض مع المادة 71 من الدستور التي تمنع توقيع أي عقوبة سالبة للحرية في “الجرائم التي ترتكب بطريق النشر والعلانية”.
هذا فيما تم استدعاء السلطات القضائية لعدد من الصحفيين خلال الـ12 شهرًا الماضية، أبرزهم الصحفيات الأربعة لموقع “مدى مصر”: لينا عطالله وبيسان كساب ورنا ممدوح وسارة سيف الدين، للتحقيق في اتهامهن بقائمة مطولة من التهم منها “نشر أخبار كاذبة من شأنها تكدير السلم العام وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة وسب وقذف نواب حزب مستقبل وطن في البرلمان والإزعاج باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي”، وقد أفرج لاحقًا عنهن بكفالة.
وفي السياق ذاته أصدر القضاء المصري أحكامًا متنوعة على عدد من الصحفيين، منها حكم محكمة جنايات القاهرة في 28 يونيو/حزيران 2022 على الصحفية علياء نصر الدين حسن عواض بالسجن 15 عامًا، في اتهامها في القضية رقم 4459 لسنة 2014 جنايات حلوان والمقيدة برقم 321 لسنة 2014 كلي جنوب القاهرة، المعروفة إعلاميًا باسم “كتائب حلوان”، كذلك حكم محكمة جنايات أمن الدولة العليا طوارئ بحبس المذيع في قناة الجزيرة مباشر مصر، أحمد طه القاضي، غيابيًا، بالسجن المشدد 15 عامًا، في اتهامه بنشر وإذاعة أخبار وبيانات كاذبة من شأنها الإضرار بالمصالح القومية في القضية رقم 1059 لسنة 2021 جنايات أمن الدولة طوارئ التجمع الخامس بالقاهرة.
وشهدت السنوات الخمسة الأخيرة محاولات سلطوية حثيثة للهيمنة على المشهد الإعلامي برمته، صحافة وإذاعة وتليفزيون، ومنصات تواصل اجتماعي، حيث أصدرت الدولة حزمة من التشريعات واتخذت عددًا من الإجراءات والسياسات التي زادت بها من هيمنتها على الإعلام حيث الاحتكار شبه الكامل للخريطة الإعلامية والصحفية بكل تفاصيلها وثغراتها، خاصة بعد دخول بعض الشركات التابعة لأجهزتها السيادية كلاعب جديد على الساحة تهيمن على المواقع والصحف بجانب تدشين قنوات جديدة وشراء أخرى قديمة.
– النهاردة يبدأ الحوار الوطني بين السلطة وجزء من المعارضة المصرية وجزء من حركة حقوق الانسان وجزء من الشخصيات العامة
-النهاردة اليوم العالمي لحرية الصحافة
-النهاردة تم القبض فجرا على الصحفي حسن القباني ، طبقا لتيار الاشتراكيين الثوريين.
— Gamal Eid (@gamaleid) May 3, 2023
الفضاء الإلكتروني.. لم يسلم هو الآخر من التضييق
مصادرة الآراء والهيمنة عليها لم تقتصر على المواقع الصحفية والقنوات الفضائية فقط، بل تجاوزت ذلك إلى الفضاء الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي، المتنفس الوحيد المتبقي أمام المواطن للتعبير عما يجول بخاطره، حيث سقط هذا المتنفس هو الآخر في قبضة الهيمنة السلطوية الراغبة في سد كل المنافذ أو على الأقل السيطرة عليها ومراقبتها وفرض حالة من الترهيب على روادها.
وأقرت السلطات عددًا من التشريعات في هذا الاتجاه، هذا بخلاف اللوائح الداخلية الصادرة عن بعض المؤسسات كنوع من الاجتهاد الذاتي للوقاية من الوقوع تحت طاولة الاستهداف والملاحقات الأمنية والقضائية، منها قرار غرفة شركات ووكالات السفر والسياحة في مايو/آيار 2022 بمنع العاملين في قطاع السياحة من نشر أي وقائع سلبية تمس السائحين، بدعوى عدم المساس بقطاع السياسة وحتى لا تتم الإساءة إلى سمعة الدولة.
ورصدت المؤسسة في تقريرها 101 حالة انتهاك للحقوق الرقمية خلال العام الأخير، مقارنة بـ70 انتهاكًا عام 2021، بزدياة أكثر من 44%، ما يعكس الرغبة في فرض المزيد من القيود على حق الأفراد في التعبير واستخدام الفضاء الإلكتروني، وسط تحذيرات من مغبة تلك السياسات المتبعة على الحالة الحقوقية المصرية وصورة الدولة خارجيًا.
“الحقيقة ” تعني كل شئ وهى بدايةً كل شئ ؛ حرية الصحافة هى وسيلتنا لتحرى الحقيقة وهى الضامن لكل حقوقنا وحرياتنا . الدفاع عن حرية الصحافة فى كل مكان تعنى الدفاع عن الحق فى الكرامة الانسانية لكل انسان #اليوم_العالمي_لحرية_الصحافة
— Mohamed ElBaradei (@ElBaradei) May 3, 2023
واستمرارًا لحالة التعنت والتضييق قررت بعض الدوائر القضائية حظر النشر في بعض القضايا، التي في الغالب تأخذ سمت قضايا الرأي العام، بما يخالف الدستور وصحيح القانون، كما جاء في المادة 68 من الدستور التي نصت على أن “المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية”.
وقد شهد عام 2022 حظر النشر في 3 قضايا رأي عام، هي: قضية آثار شقة الزمالك التي يحاكم فيها المستشار السابق أحمد عبد الفتاح وزوجته لاتهامهما بالاتجار في الآثار، وقضية مقتل الإعلامية شيماء جمال، المتهم فيها كل من أيمن حجاج (قاضٍ بمجلس الدولة) وحسين الغرابلي، المنسوب إليهما فيها قتل الإعلامية عمدًا مع سبق الإصرار، بجانب قضية مقتل الطالبة نيرة أشرف أمام باب جامعة المنصورة.
وهكذا، يعاني قطار الحريات الصحفية في مصر من انهيارات حادة في الكثير من أجزائه، فبالكاد يتحرك محطة للأمام حتى يتقهقر محطتين للخلف، ورغم محاولات الترميم التي تجرى له بين الحين والآخر لتجميل صورته أمام المارة والمشاهدين في الداخل والخارج، تبقى جدرانه من الداخل ملطخة ببقع الانتهاكات السوداء التي تزداد رقعتها عامًا تلو الآخر.