يواصل الأتراك المقيمون في الخارج والموجودون في المعابر الحدودية والمطارات، التصويت في الانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية) خلال فترة 27 أبريل/ نيسان حتى 9 مايو/ أيار 2023، قبل بدء الاقتراع داخل تركيا يوم 14 مايو/ أيار المقبل.
يأتي هذا فيما لا يمكن الجزم، حتى الآن، بتحقيق أحد المرشحين لرئاسة الجمهورية الفوز بأغلبية مريحة، ومن ثم تظهر أهمية الحملات الانتخابية (الدعائية) وكيف يتم توظيفها حاليًّا في مدّ الجسور مع الكتل والشرائح التصويتية، خاصة بعدما أعلنت لجنة الانتخابات أن التلفزيون الحكومي سيبث الدعاية لمرشحي الرئاسة بعد سحب القرعة يومَي 7 و13 من الشهر الجاري.
وتراهن الأحزاب والتحالفات السياسية التركية على تأمين أصوات الناخبين التقليدية، والعمل خلال الفترة المتبقية قبل موعد التصويت على استمالة شرائح أخرى من الناخبين، لا سيما كتلة الشباب والطبقة الوسطى في المدن، والأكراد (المنقسمون داخليًّا بحسب الانتماءات السياسية)، وكتلة تصويتية مستجدة ممثلة في ذوي ضحايا الزلزال التي ضرب الجنوب التركي (أسفر عن مصرع حوالي 50 ألف شخص، وأكثر من 108 آلاف مصاب).
حيث يتعهّد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بتنفيذ خطط سريعة لإعادة إعمار المناطق المتضررة في غضون عام واحد، بينما يحاول خصومه السياسيون تحميله جانبًا من المسؤولية، بزعم التهاون في تطبيق قوانين البناء وعدم سرعة الاستجابة في جهود الإنقاذ.
النطاق الجغرافي للدعاية الانتخابية
رغم أن الحملات الدعائية لمرشحي رئاسة الجمهورية (ومقاعد البرلمان) تنشط في عموم تركيا، حيث تغرق صور المرشحين ولافتاتهم الميادين العامة والشوارع الرئيسية والفرعية، وعلى المباني والأبراج العالية، إلا أن طبيعة التوجهات الفكرية والسياسية والبرامج الانتخابية تحدّد النطاق الجغرافي للحملات الدعائية في مخاطبة الكتل التصويتية.
وفي هذا الشأن تزداد شعبية أردوغان وحزب العدالة والتنمية في مناطق تمركز الطبقات المتوسطة والمحافظة والقرى الصغيرة والمدن الداخلية (شرق وجنوب، وجنوب شرق الأناضول، وبحر مرمرة)، ومن ثم تحاول إدارة الحملة الانتخابية (على المستوى المركزي وفي الولايات) تعزيز التواجد في المدن الحضرية (خاصة الساحلية) لمخاطبة شرائح جديدة من الناخبين.
ويكثّف أردوغان تحركاته خلال الحملة الانتخابية، لدرجة أنه ظهر في 5 مدن خلال 48 ساعة فقط، ما تسبّب في إصابته بالوعكة الصحية الشهيرة مؤخرًا، ويمدّ حزب العدالة والتنمية (من واقع حملة طرق الأبواب) الجسور مع الكتل التصويتية المحسوبة على المنافسين، حيث أعلنت حملة الحزب في إسطنبول تحقيق رقم قياسي عبر زيارة مليون منزل خلال يومَين فقط، ومواصلة العمل على الأرض في المدن الكبرى وضواحيها، لدورها المهم في ترجيح كفّة المرشحين.
كما يحرص الحزب الحاكم على تحقيق نتيجة تفوق النتائج التي تحققت خلال الممارسات السياسية التي شارك فيها الحزب خلال السنوات الأخيرة (الاستفتاء على التعديلات الدستورية عام 2017، والانتخابات الرئاسية والتشريعية عام 2018، والانتخابات البلدية في ربيع عام 2019).
من جانبه، يكثّف أكبر أحزاب المعارضة التركية (الشعب الجمهوري) حملته الدعائية وسط ناخبي المدن الكبرى والمناطق الساحلية الجنوبية والغربية، حيث تقع معاقل الحزب في نطاق منطقة بحر إيجة (خاصة ولاية إزمير)، إضافة إلى منطقة شمال غرب بحر مرمرة (تراقيا التركية وأدرنة)، مع تعزيز وجوده بين الطبقتَين الوسطى والعليا بهدف الحصول على أصوات الضباط المتقاعدين والبيروقراطيين والأكاديميين، إضافة إلى النقابات العمالية وطلاب الجامعات.
يشكّل إينجه خطورة سياسية على كليجدار أوغلو، خاصة وسط شريحة مهمة من أنصار حزب الشعب الجمهوري، تؤمن بخطابه الراغب في إعادة الاعتبار لتجربة وأفكار أتاتورك
وفي سياق النطاق الجغرافي للحملات الانتخابية، يعمل تحالف الأمة (بقيادة حزب الشعب الجمهوري) على التقارب مع الأكراد (ينتشرون في مناطق الشرق والجنوب الشرقي للبلاد، وتعيش شريحة منهم في الخارج خاصة في ألمانيا)، فيما أعلن تحالف العمل والحرية بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) دعمه الصريح لمرشح رئاسة الجمهورية كليجدار أوغلو، الذي سيحظى بأصوات كيانات كردية أخرى بحكم نشأته في ولاية تونجلي (شرق الأناضول، ومعظم قاطنيها من الكرد العلويين، وتعدّ مركزًا قويًّا لما يسمّى بالحركة القومية الكردية).
أما حزب الوطن (بقيادة المرشح لرئاسة الجمهورية محرم إينجه) فيركز دعايته الانتخابية في المدن الكبرى، وأثبت إينجه أنه قادر على جمع الحشود الضخمة في المدن، خاصة المناطق ذات الطابع الأوروبي (نيشانتاشي، بيشكطاش وأورتاكوي) بإسطنبول، نظرًا إلى المستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي للمناطق المذكورة، على عكس الدعاية الانتخابية المحدودة لإينجه بمناطق أخرى كالفاتح وأسنيورت.
ويشكّل إينجه خطورة سياسية على كليجدار أوغلو، خاصة وسط شريحة مهمة من أنصار حزب الشعب الجمهوري، تؤمن بخطاب إينجه (أحد قيادات الحزب البارزين قبل انشقاقه وتشكيل حزب الوطن) الراغب في إعادة الاعتبار لتجربة وأفكار مؤسّس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، كما قد تنحاز شريحة أخرى من ناخبي حزب الشعب الجمهوري لإينجه اعتراضًا على تقارب كليجدار أوغلو من الأكراد.
وفي المقابل، يمثل المرشح لرئاسة الجمهورية سنان أوغان (بخطابه القومي المتشدد، والتقرب للفقراء والتجمعات العمالية، لا سيما أصحاب المخابز والمحلات والطبقة المتوسطة، رغم ضعف إمكاناته مقارنة بالتكتلات والأحزاب الأخرى) خطورة على الكتلة التصويتية لحزب الحركة القومية (حليف أردوغان في الانتخابات)، وقد يحصل على “أصوات قومية” أخرى تابعة لأحزاب الجيد، الشعب الجمهوري، والوطن.
جغرافيًّا، تسعى الحملة الدعائية لحزب الشعوب الديمقراطي (الذي خسر بلدتَين مهمتَين: شرناق وبيتليس، أمام الحزب الحاكم في الانتخابات البلدية) إلى إعادة تقديم نفسه في الجنوب التركي، حيث لم يعد يحظى بالتأييد الكامل من الناخبين الأكراد، بعدما انخفضت كتلته التصويتية من حوالي 5.86 ملايين بين العامَين 2018 (الانتخابات البرلمانية) و2019 (انتخابات المحليات) إلى مليوني صوت، خاصة في معاقله التقليدية في الجنوب الشرقي، رغم استمرار هيمنة الحزب على 3 مدن كبرى (ديار بكر، وان وماردين).
أردوغان
منذ أطلق أردوغان حملته الانتخابية (31 مارس/ آذار 2023) من مدينة غازي عنتاب (القريبة من الحدود مع سوريا) التي تعرضت للتدمير الجزئي بسبب الزلزال، ارتبط الخطاب الإعلامي للرئيس التركي بطبيعة الكارثة التي تمرُّ بها الولايات الجنوبية عمومًا: “جئنا لخدمتكم، وليس لقيادتكم”.
وعندما دشّن حزب العدالة والتنمية حملته الانتخابية (17 أبريل/ نيسان 2023) في أحد ملاعب أنقرة (تحت شعار: تابع التقدم وفق الخطوات الصحيحة)، كان خطاب أردوغان متسقًا مع الجماهير التي تستمع إليه في العاصمة، حيث تعهّد بخفض التضخم ودعم النمو الاقتصادي عبر الاستثمار والتوظيف والإنتاج والصادرات والفائض الحالي، وتحسين الاستثمار بشكل أكبر، وتعزيز النظام الصحي مع عائدات السياحة العلاجية حتى تصل إلى 10 مليارات دولار، والاستثمارات السياحية لاستقبال 90 مليون سائح بإيرادات ستصل إلى 100 مليار دولار سنويًّا.
وزفَّ أردوغان أكثر من “بشرى جديدة” ممثلة في اكتشاف نفطي (بقدرة إنتاجية تصل إلى 100 ألف برميل يوميًّا) في ولاية شرناق جنوب شرقي البلاد، وقال في كلمة ألقاها خلال افتتاح مشاريع بولاية قونية وسط تركيا إن “تركيا بعد هذا الاكتشاف والاكتشافات السابقة في البحر ومحطات الطاقة النووية التي تعزم على إنشائها، ستصبح دولة مصدرة للطاقة، وقررنا إطلاق اسم المدرّسة آيبوكه يالجين على البئر النفطي المكتشف في جبل غابار”، بعد اتهام مقاتلي حزب العمال الكردستاني بقتلها.
يحفّز أردوغان الناخبين في كل لقاءاته الجماهير، بقوله: “هل أنتم مستعدون لـ 14 مايو/ أيار؟ هل أنتم مستعدون لجعل أقلام الاقتراع تفيض بالمقترعين؟
وفي مجال مكافحة الإرهاب، أعلن أردوغان القضاء على زعيم تنظيم “داعش” في عملية للاستخبارات التركية بسوريا: “استخباراتنا كانت تتعقب المدعو أبو الحسين القرشي، زعيم “داعش”، وتمَّ تحييده في عملية نوعية بسوريا”.
ويعتمد أردوغان (وحزبه) خلال الحملة الانتخابية على التسويق للإنجازات التي حققها الحزب على مدار 21 عامًا، والتبشير بالإنجازات الجديدة في مجال التصنيع وخلافه (كما في مهرجان تكنوفيست الأكبر عالميًّا، والمختص بالصناعات الدفاعية والطيران والفضاء)، وهو أمر له علاقة (وفق مخططي الحملة) بطبيعة الجمهور، حيث أكّد أردوغان في أنقرة أن العاصمة باتت بيئة حاضنة للاستثمارات المهمة، وأنها ستتحوّل إلى مركز لخطوط القطارات السريعة، ومشاريع أخرى يجري استكمالها حاليًّا.
ويحفّز أردوغان الناخبين في كل لقاءاته الجماهير، بقوله: “هل أنتم مستعدون لـ 14 مايو/ أيار؟ هل أنتم مستعدون لجعل أقلام الاقتراع تفيض بالمقترعين؟”، كما يوظف الخطاب القومي-الإسلامي في الحملة الإعلامية، عبر التعهُّد بالتصدي للفساد، والوساطة في الدواوين الحكومية، ومواجهة “كل من يحاول إعاقة تقدم تركيا”، متهمًا خصومه السياسيين بـ”الفشل السياسي، والخيانة الوطنية، ودعم الإرهاب”.
وبدا مصطلح “الطاولة السباعية” يأخذ طريقه للرأي العام التركي (في إشارة إلى التحالف غير الرسمي بين أحزاب الطاولة السداسية وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي)، كما يربط أردوغان في خطابه الإعلامي بين منافسه كليجدار أوغلو و”التبعية” للغرب (الأوروبي- الأمريكي)، وأن هذا التوجه لمنافسه يعدّ خصمًا من رصيد تركيا و”سيادتها الوطنية”.
وينتقد أردوغان “تقاعس” بعض البلديات التي تسيطر المعارضة على رئاستها (أنقرة، إسطنبول، إزمير ومدن تركية كبرى) في تقديم الخدمات الأساسية لسكان المناطق المذكورة، رغم أن المعارضة تدير هذه المدن الكبرى منذ سنوات.
وتعهّد بأن “الأمّة ستخرجهم إن شاء الله من الحياة السياسية”، بعد “التصريحات الفاضحة التي أدلوا بها في الأيام الأخيرة، التي تكشف عن كراهيتهم وحقدهم، لكن مهما كان ما يحاولون القيام به فلن يتمكنوا من تحقيق أي شيء، هم عملاء للغرب ومصمّمون على زعزعة تركيا”، وطالب أنصار حزبه بـ”تكثيف الفعاليات الانتخابية، وتحفيز كل من لم يحسم خياره الانتخابي -الأصوات المترددة- على التصويت”.
كليجدار أوغلو
زعيم المعارضة التركية، كمال كليجدار أوغلو (المرشح لرئاسة الجمهورية ورئيس حزب الشعب الجمهوري) يقدّم خلال الحملة الانتخابية خطابًا (إعلاميًّا وسياسيًّا) متعدد الرسائل، بحكم تعدد الخصوم والأعداء السياسيين لحزبه، وبحكم ممارساته طوال الـ 100 عام الماضية.
ومن ثم يحرص كليجدار أوغلو على تبنّي شخصيات دينية ونشطاء أكراد ونشطاء في مجال حقوق المرأة، ليثبت للمجتمع التركي أن حزب الشعب الجمهوري لم يعد كما كان، وقال خلال مهرجان جماهيري في إزمير، ثالث كبرى المدن التركية: “سنعيد النور. هذه الانتخابات ستعيد بناء ديمقراطيتنا، سنعيد السلام والأخوّة إلى تركيا”.
وتحت شعار “مرحبًا أنا كمال.. أنا آتٍ”، يظهر كليجدار أوغلو (74 عامًا) مبتسمًا على ملصقات حملته الانتخابية، مخاطبًا الناخبين (على تويتر) بالعديد من رسائل الفيديو الموجهة إلى كل شرائح المجتمع، وتحقق بعض فيديوهاته مشاهدات متوسطها 3.3 ملايين مشاهدة.
وقالت مجموعة أوراسيا (الاستشارية للمخاطر السياسية) إنه “منذ الإعلان عن ترشحه، واصل رئيس حزب الشعب الجمهوري توسيع قاعدته من 30 إلى 40% من النوايا للتصويت، وأن التحدي الرئيسي له يتمثل باستقطاب الناخبين المناهضين لأردوغان”.
تمَّ ترويج صورة لكليجدار أوغلو مع فتاة محجبة خلال الدعاية الانتخابية، وجلوس سيدة محجبة في الصف الأول خلال المؤتمرات الجماهيرية للتحالف
ويوظف كليجدار أوغلو ورقة الأقليات في العملية الانتخابية، حيث فاجأ الأتراك (علنًا وللمرة الأولى) بالانتماء إلى “الأقلية العلوية”، وهو ملف شائك سيؤثر سلبًا على شعبيته بين الناخبين السنّة المحافظين، لكنه قال (في مقطع فيديو عبر حسابه بتويتر): “حان الوقت لأناقش معكم موضوعًا خاصًّا وحساسًا جدًّا. أنا علوي، أنا مسلم مخلص”.
وتعهّد حال انتخابه رئيسًا للجمهورية بـ”وضع حد للتمييز والخلافات الطائفية التي تسبّب آلامًا”، فيما يتعهد تحالف الأمة (الذي يعدّ حزب كليجدار أوغلو أكبر مكوناته) بـ”إنهاء حالة الاستقطاب في تركيا وترسيخ استقلال القضاء وضمان ممارسة الحقوق الأساسية والحريات”.
ويتصدر الاقتصاد الحملة الانتخابية لتحالف الأمة الذي يعدُ بعلاج ملفات التضخم والبطالة، فيما بدأت مجموعات عمل أنشأها التحالف بإعداد برنامج مفصّل للملفات التي تفرض نفسها على المشهد العام التركي، مثل قضية اللاجئين والعقيدة الدينية والسياسة في البلاد، وفي الملف الأخير تحديدًا تعمّدت القيادات الرئيسية في تحالف الأمة دغدغة مشاعر الناخبين، وأنه “في حال فوز كليجدار أوغلو لن يتأثر الدين”.
ثم تمَّ ترويج صورة لكليجدار أوغلو مع فتاة محجبة خلال الدعاية الانتخابية، وجلوس سيدة محجبة في الصف الأول خلال المؤتمرات الجماهيرية للتحالف، مع تأكيدات رئيس حزب الجيد، ميرال أكشنار: “أنا أصلي منذ كنت في السابعة من عمري، ولم أشرب الخمر في حياتي”.
إينجه والمحور الثالث
تتعدد أهداف الحملة الدعائية-الانتخابية لمرشح الرئاسة التركية محرم إينجه (مدرّس الكيمياء والفيزياء السابق، وعضو البرلمان عن ولاية يالوفا في دورات 2002 و2007 و2011 و2015، الذي صوّت له 30% من الناخبين خلال انتخابات الرئاسة التركية عام 2018)، وما زال الأتراك يتذكرون كيف نجح محرم إينجه في جمع أكثر من مليون شخص بمنطقة مالتيبي بإسطنبول في مؤتمر انتخابي خلال انتخابات الرئاسة الماضية، والمسيرات واللقاءات التي تنظمها حملته الانتخابية حاليًّا.
حيث يركز الخطاب الإعلامي لإينجه على شعار “تجديد الدماء”، ويسعى للحصول على أصوات المعترضين على ترشح كليجدار أوغلو وأردوغان، فضلًا عن كتلته التصويتية التقليدية التي يراهن عليها، لكن بعض مناصري أردوغان يسخرون من إينجه بقولهم: “كيف سينجح في الوصول إلى مقعد رئاسة الجمهورية، رغم فشله في الوصول لمقعد رئاسة حزب الشعب الجمهوري سابقًا؟”.
استطلاعات الرأي حول الانتخابات تشير إلى أن إينجه لن يحصل على أكثر من 5% فقط من الأصوات
وخاض إينجه (النائب السابق لرئيس الكتلة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري) انتخابات رئاسة الحزب في مواجهة كليجدار أوغلو في عامَي 2014 و2018، لكن فشل في الفوز برئاسة الحزب فانشقَّ عنه، وأسّس حزب الوطن، لذلك يواصل توجيه سهام النقد لحزب الشعب الجمهوري وتحالف الأمة (السداسي)، وأنه “إذا فشل التحالف في الانتخابات، رغم أنه يحظى بدعم 17 حزبًا، وبلديات حضرية وصحف وتلفزيونات وتريليونات الليرات، وعدة منظمات، وهو حزب عمره 100 عام، فيجب أن يتحمل كليجدار أوغلو المسؤولية”.
وكان إينجه (الذي يرفض حتى الآن الانسحاب لصالح كليجدار أوغلو) يحسَب على القياديين الصقور في حزب الشعب الجمهوري، وهو يميل إلى التيار العلماني الوسطي، وبعد انشقاقه يقول إنه “المرشح الأكثر شعبية القادر على حسم الانتخابات”، مع أن ؤ، رغم أنه يمتاز بمهاراته الخطابية، ووقف ضد حظر “الحجاب” في تركيا، مشددًا على أن “الإيمان لا يجب توظيفه في أغراض سياسية”، ومن ثم له جمهور وسط شريحة من الناخبين المحافظين والإسلاميين الأتراك، والأهم قدرته على مخاطبة الشباب.
الرهان على الشباب
تتعدد رؤى الأحزاب والتكتلات في التأثير على الفئات المستهدفة، خاصة شريحة الشباب، من خلال وسائل الدعاية المناسبة، حيث يتم الاستفادة من المنصات الاجتماعية في مخاطبة الفئات الشبابية (ما يقرب من 6 ملايين شاب) بالطريقة التي يتبعها إينجه من خلال معركته الانتخابية.
ورغم أن إينجه يخوض المعركة من خارج التحالفات السياسية الرئيسية، فهو يحظى بحالة زخم بحكم قدرته على مخاطبة الشباب الموجودين في المناطق وفي الخيام بأسلوب بسيط يتوافق مع طموحات الكتلة الشبابية (70% من الناخبين أعمارهم تقلّ عن 34 عامًا)، كما أنه يمازح الشباب ويرقص معهم.
ولا يقتصر استهداف فئة الشاب على إينجه، حيث تركز أحزاب تحالف الشعب الحاكم (العدالة والتنمية، الحركة القومية، الوحدة الكبرى، وكيانات أخرى كالرفاه من جديد المحافظ وحزب هدى بار الكردي ذي التوجهات الإسلامية) وتحالف الأمة المعارض (الشعب الجمهوري، الجيد، السعادة، الديمقراطية والتقدم، المستقبل، الحزب الديمقراطي) على مدّ الجسور مع شريحة الشباب والمراهقين وفق رؤية مزدوجة، تعتمد على استقطاب أكبر عدد ممكن من الشباب والمراهقين، خاصة طلاب الجامعات، وضمان تأثير الشريحة المؤيدة داخل ذويهم (العائلات الكبيرة والأسر)، فضلًا عن الأصدقاء والمعارف، وضمان انضمامهم مستقبلًا لتعزيز الكتل التصويتية التقليدية.
خولة بن قياس: “يتضمن الخطاب الإعلامي الموجّه إلى الشباب مصطلحات: الحرية والتشغيل والدمج الاجتماعي، عبر محتوى بسيط وقصير وعاطفي”
وتشير المعطيات إلى أنه قد يكون محرم إينجه وسنان أوغان الأكثر استفادة من الكتلة التصويتية الشبابية في الانتخابات، وحرصًا على هذه الكتلة بادر كليجدار أوغلو بفتح حساب على منصة تيك توك لمخاطبة هذه الفئة.
فيما تركز الحملات الدعائية للمعارضة خلال خطابها الموجه للشباب، على تسويق مفهوم “التغيير” كشعار رئيسي للمرحلة، بحجّة أن “أردوغان -والحزب الحاكم- قدم كل ما لديه خلال العقدَين الماضيَين، وأنه يتحمل المسؤولية عن الإخفاقات التي تواجه البلاد حاليًّا”.
وتقول الإعلامية خولة بن قياس: “يتضمن الخطاب الإعلامي الموجّه إلى الشباب مصطلحات: الحرية والتشغيل والدمج الاجتماعي، عبر محتوى بسيط وقصير وعاطفي”، على عكس الإعلام التقليدي الموجّه إلى المتقاعدين وكبار السن، وخلاله “يحرص المرشحون على المظهر الرسمي، والخطاب العميق الذي يركز على قضايا الاقتصاد والأسعار وشؤون السياسة الخارجية، والأهم التصورات المرتقبة لزيادة المعاشات وتيسير القروض”.
المشاهير يعزّزون الحملات الدعائية
يشكّل ملف الدفع بالمشاهير والشخصيات البارزة في المجتمع التركي لخوض الانتخابات أحد أهم العوامل المساعدة لمخططي الحملات الدعائية في الأحزاب والتكتلات الانتخابية.
ورغم تمتع حزب العدالة والتنمية الحاكم بقاعدة شعبية كبيرة، لكنه يحرص على إقناع أكبر عدد ممكن من الناخبين الحائرين والجدد بأنه قادر على التعامل مع مشكلات تركيا، واهتمَّ الحزب مبكّرًا بالاستفادة بالمشاهير، وبما يسمّى “القيادات الطبيعية”، حيث دفع الحزب بلاعب كرة القدم مسعود أوزيل على قوائمه التشريعية في إسطنبول، ورشح الممثل الشهير بهادير يني شهيرلي أوغلو في مانيسا، والطالبة الجامعية نيسا ألبتكين (19 عامًا) التي تعدّ أصغر مرشح على قوائم الحزب في إزمير، وشرائح مجتمعية أخرى كذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم.
وللاستفادة من المشاهير، رشّح حزب العدالة والتنمية معظم وزراء الحكومة على قوائمه (وزير الداخلية سليمان صويلو، وزير الدفاع خلوصي أكار في قيصري، ووزير الطاقة والموارد الطبيعية فاتح دونماز في إسكشهير وفي إزمير، ووزير البيئة والتحول الحضري والتغير المناخي مراد كوروم في إسطنبول، ووزير العمل وداد بيلجين ونائب الرئيس فؤاد أوكطاي في أنقرة، ووزير الصناعة والموارد الطبيعية مصطفى فارانك في بورصة، ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو في أنطاليا، ووزير الشباب والرياضة محمد قصاب أوغلو، وفي عثمانية وزيرة الأسرة دريا يانيك، وفي أوردو وزير التربية والتعليم محمود أوزار، وفي شانلي أورفا وزير العدل بكير بوزداغ، وفي مرسين وزير الخزانة والمالية نور الدين نباتي، وفي كهرمان ماراش وزير الزراعة والغابات وحيد كريتشتجي، وفي سامسون وزير التجارة محمد موش، وفي طرابزون وزير النقل والاتصالات عادل كارا إسماعيل أوغلو).
وفي المقابل، حاول تحالف “الأمة” المعارض دغدغة مشاعر الناخبين عبر قوائمه الانتخابية، عبر ترشيح المحامية المحجبة سفغي كلج (27 عامًا) عن إسطنبول، ويوتيوبر شهير في أنطاليا.
تنوُّع الوسائل الدعاية الانتخابية
تلجأ الأحزاب والتحالفات السياسية لكل الوسائل في الترويج للانتخابات، سواء التقليدية (الإعلام والجولات والزيارات واللقاءات التعريفية في الساحات وفي الأسواق والأحياء، عبر مصافحة الناخبين وتبادل أحاديث قصيرة معهم، والخطاب الانتخابي حيث يقدم المرشح نفسه للناخبين بقصد كسب قلوبهم، ونقل أفكار المرشح وبرنامجه للمواطنين بهدف كسب عقول الناخبين) أو الوسائل الحديثة (منصات التواصل الاجتماعي وغيرها في ظل تعدد جمهورها)، في الحملات الدعائية-الانتخابية من قبل الأحزاب والتكتلات التي تخوض ماراثون رئاسة الجمهورية والجمعية الكبرى (البرلمان).
وبادر المرشحون بتوظيف كل الوسائل المسموح بها، قانونًا، في ترويج برامجهم الانتخابية، والتواصل المباشر والشخصي مع الناخبين (المؤتمرات، المسيرات، التجمعات الحزبية والجماهيرية، اللافتات والمنشورات التي تستهدف مناطق وقطاعات شعبية) وغير المباشر (وسائل الاتصال الجماهيري كالراديو والتلفزيون والصحف والمجلات، حيث تلعب وسائل الأعلام دورًا كبيرًا في تكوين الرأي العام)، وهي ليست محكومة بنطاق جغرافي كما أنها لا تركز على فئة بعينها.
يرفض أردوغان دعوة المعارضة التركية إلى إجراء المناظرات التلفزيونية قبل الانتخابات، مبررًا موقفه بـ”لا نريد أن يسجّل أحد نقاطًا على حسابنا. لكنّني مستعد للقاء المرشح المعارض في مقر حزبي”
وكنوع من التأثير، نشر حزب الشعب الجمهوري أول فيديو دعائي لتحالف الطاولة السداسية، حيث رسم سيناريوهًا خياليًّا يظهر فيه كمال كليجدار أوغلو بعدما أصبح رئيسًا لتركيا، قائلًا: “جئنا من رحلة طويلة جدًّا حاملين حقيبة مليئة بقصص أهل هذا البلد الجميل، جمعتها على طول الطريق”، بينما يظهر بجانبه أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، ومنصور يافاش رئيس بلدية أنقرة، بصفتهما نائبَين عنه في رئاسة الجمهورية.
وتضيف وسائل الإعلام الحديثة (الإنترنت، الهواتف المحمولة وشبكات التواصل الاجتماعي) حالة من الزخم للمعركة الانتخابية ليس في تركيا فقط، بل في معظم دول العالم، من خلال تعزيزها لعمليات التفاعل الجماهيري، وتقريب المسافات بين المرشحين والناخبين، من دون تكلفة كبيرة على الميزانيات المرصودة للدعاية.
كما أنها تكسر احتكار الإعلام التقليدي، فضلًا عن دورها الرقابي (ترسيخ الشفافية في الممارسات الديمقراطية، كالانتخابات وكشف تجاوزاتها عبر سرعة بث الفيديوهات، ونشر المعلومات الكاشفة لأي تلاعب)، خاصة من طرف الأحزاب التي تراهن على فئة الشباب والمراهقين في الانتخابات التركية.
ويرفض أردوغان (منذ سنوات) دعوة المعارضة التركية إلى إجراء المناظرات التلفزيونية قبل الانتخابات، مبررًا موقفه بـ”لا نريد أن يسجّل أحد نقاطًا على حسابنا. لكنّني مستعد للقاء المرشح المعارض في مقر حزبي”، لكن المرشح المعارض محرم إينجه يرحّب بإجراء مناظرات تلفزيونية بين المرشحين للرئاسة: “دعونا نتناظر على التلفزيون ودعونا نتحدث عن أحلامنا بشأن تركيا.. إن هذا من شأنه أن يجعل تركيا في نفس مستوى الدول المتقدمة بتقاليد مماثلة”.
جدل استطلاعات الرأي
يواجه الناخبون الأتراك مشهدًا سياسيًّا فوضويًّا، ومن واقع معظم استطلاعات الرأي لا يزال البعض يتردد في اختيار الأنسب من بين المرشحين في كلا الاستحقاقَين، نتيجة أجواء المنافسة الانتخابية المحتدمة، والاستقطاب السياسي والاجتماعي.
وخلال جميع الاستبيانات التي أُجريت في العامَين الماضيَين للمقارنة بين كليجدار أوغلو وأردوغان، كان أردوغان دائمًا متقدمًا بخطوة على عكس الاستطلاعات التي أُجريت منذ صيف العام الماضي.
وفي هذا الشأن يقول السياسي التركي البارز ياسين أقطاي (المستشار السابق لأردوغان): “استطلاعات الرأي وسيلة روتينية في الانتخابات، كما أنها تعدّ مؤشرًا مهمًّا في بيان ثقل كفة مرشح على آخر، وإذا أجريت بشكل صحيح، تقنيًّا، فإن نتائجها تكون حقيقية وبياناتها موثوقة حول الاتجاهات العامة في مدة زمنية معيّنة، على عكس الاستطلاعات الموجهة التي يتم إجراؤها حسب الطلب، لعرض نتائج معدّة سلفًا”.
ويشكك ياسين أقطاي في نتائج بعض الاستطلاعات المتعلقة بالانتخابات التركية، ضاربًا المثل باستطلاع وكالة “رويترز” ذات الاتجاه المعروف فيما يتعلق بالنظام السياسي في تركيا، وأنه “ليس من المفاجئ أن تلعب “رويترز” دورَ مفسّر أحلام حزب الشعب الجمهوري، خاصة أن تقنيات الاتصال الجديدة وأجهزة الكمبيوتر والهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي أدّت إلى تسريع أعمال الاستطلاع وتسهيلها، حيث تتيح إجراء أنواع الحيل والخدع، وحينما يكون مقصدها الاستجابة للتوجيهات دون مراعاة الحقائق تصير أدوات شيطانية تضلل المتابعين”.
إذ يجري توظيف استطلاعات الرأي لتحقيق أغراض سياسية، اعتمادًا على دراسات خارجية (كمؤشر حرية الصحافة التابع لمعهد “رويترز” للدراسات الصحفية بجامعة أوكسفورد، وغيره).
إذًا، ستواصل الأحزاب والتكتلات السياسية-الانتخابية معركة إقناع الناخبين حتى اللحظات الأخيرة لفترة “الصمت الانتخابي” (الـ 24 ساعة السابقة للإدلاء بالأصوات في انتخابات الداخل)، كون المعركة الانتخابية الحالية ليست سهلة على صعيد الملفات والقضايا، أو على صعيد الشخصيات المتنافسة، خاصة على رئاسة الجمهورية خلال الدورة الجديدة، التي ستتزامن مع بداية القرن الجديد من عمر الجمهورية التركية.