قبل عامين تمامًا – أو لنقل قبل داعش والتحالف، أو بعد جبهة ثوار سوريا – لم يكتف مقاتلو جبهة النصرة وأحرار الشام وبعض الفصائل المحلية بتحرير مدينة معرة النعمان ذات الـ 125 ألف نسمة، جنوب غرب إدلب، بل حملتهم فرحة التحرير ونشوة الانتصار والدم الذي لازال ساخنًا نحو معسكري وادي الضيف والحامدية، قرب المدينة، دون أن يكون ذلك كافيًا لاقتحام المعسكرين اللذين يشتملان معًا على ما يقارب الـ 15 حاجزًا عسكريًا، والكثير من العتاد والقطع التي يحتاجها الثوار.
ومن ذلك الحين، بدأت معارك التحرير والحصار (كان أبرزها معركة البنيان المرصوص في 4/2013، والجيش الواحد في 8-9/2014) قبل أن تنتهي صباح اليوم الإثنين بإعلان جبهة النصرة والأحرار وبعض الفصائل المحلية – مجددًا -، تحرير وادي الضيف والحامدية وانسحاب قوات النظام، في ظروف ازدادت تعقيدًا وصعوبة ووجعًا .. وقلت أملاً وتفاؤلاً.
الورقة الرابحة لوادي الضيف
ما يقارب 1000 جنديًا نظاميًا – الذين انسحبوا أو قتلو -، و44 دبابة T72، والكثير من القطع والعتاد، هي مكاسب تكتيكية في الحرب السورية، أمام المكسبين الإستراتيجيين الحقيقيين للوادي: مخزون الوقود، والموقع.
يحتوي معسكر وادي الضيف في مستودعات تحت الأرض على ما يقارب الـ 5 ملايين لتر من الوقود، وهي كمية يحتاجها الثوار في حربهم طويلة الأمد، سواء للمعدات والآليات العسكرية من ناحية، أو الاستخدام المدني الذي يحتاجه السكان، خصوصًا مع بدء الشتاء، في ظل حصار النظام وانقطاع الكهرباء والوقود ومتطلبات الحياة الأخرى للمدنيين، الذين انتهى مسلسل معاناتهم أخيرًا من القصف العشوائي والإعدامات الميدانية والاعتقالات لحواجز الوادي، بتحريره.
القيمة الكبرى لوادي الضيف هي موقعه الإستراتيجي، كمعقل عسكري أخير للنظام السوري في الشمال – بعد تحرير خان شيخون -، بين أربعة محافظات رئيسية: إدلب، حلب، اللاذقية، وحماة؛ إذ يقع المعسكر في أقصى جنوب محافظة إدلب، على بعد 500 مترًا فقط من طريق حماة – حلب الذي كان يستخدم كطريق إمدادات رئيسي للنظام، خصوصًا في معركته جنوب حلب التي يحاول من خلالها حصار المدينة، قبل أن يحصره التحرير في طريق أخير ممكن له بين منتصف البلاد وشمالها عن طريق الساحل.
أما بالنسبة للثوار، فتسهل السيطرة عليه نقل الإمدادات والتحرك على طريق إدلب – تركيا الذي يستخدمه الثوار، ويحمي ظهورهم على أكثر من جهة، ويسهل عددًا من المعارك المفتوحة الآن في إدلب، التي بقي بها عدد من المناطق المحاصرة في الريف، وحماة، التي لم تهدأ خلال الفترة الأخيرة خصوصًا بعد تحرير مورك، وحلب، التي تعاني على أكثر من جبهة مع النظام وداعش.
ما الذي كشفته المعركة؟
خلال سنتين من حصار الوادي وعدد من محاولات التحرير، اتهم البعض “جمال معروف”، قائد جبهة ثوار سوريا، المدعوم سعوديًا وغربيًا، بتعطيله عملية التحرير، و”احتكاره” لكميات كبيرة من السلاح كانت تسمح بإنهاء المعركة منذ بدايتها من ناحية، ومن ناحية أخرى لحصار المعاقل العسكرية للنظام في إدلب، التي يتسع نفوذه وسيطرته بها، – كوادي الضيف ومطار أبو الضهور – على فصيله تحديدًا، مبررين ذلك برغبته بالحصول على أكبر قدر من الغنائم، ومن ثم الدعم.
قبل شهور قليلة، بدأت اشتباكات متقطعة بين جبهة النصرة وجبهة ثوار سوريا، امتدت إلى معارك كبيرة أدت لطرد جبهة ثوار سوريا من المنطقة، و”تمدد” الجبهة وتوسعها داخل إدلب والشمال، مع اتهامات أخرى للجولاني بمحاولته تشكيل “إمارة” على شاكلة “دولة” البغدادي القريبة.
كسر النصرة لاحتكار ثوار سوريا بدا واضحًا، فمن ناحية، أنهت النصرة معركة السنتين في ظرف يومين، ومن ناحية أخرى كسرت احتكار الأسلحة المتقدمة التي سيطرت عليها من مستودعات معروف، إذ نشرت حسابات جبهة النصرة على حسابها على تويتر، ولأول مرة، صورًا لصواريخ تاو الأمريكية مخترقة الدروع، قالت إنها استخدمتها في معركة التحرير، فيما سيغير معطيات اللعبة وظروفها، إذا حصلت النصرة بجانب حماستها واستعدادها للقتال وانغماسها على أسلحة متقدمة من هذا النوع.
كسر الاحتكار الذي قام به مقاتلو النصرة، رافقه خطاب إعلامي، يبدو أنه ممثل لتكتيك سياسي جديد، احتكر، بالمقابل، تحرير وادي الضيف – تحديدًا – على جبهة النصرة وحدها، في تطور يمكن أن يُستقرأ منه ما يشاع عن إستراتيجية النصرة الجديدة بالسيطرة والنفوذ في إدلب تحديدًا، خصوصًا مع خسارتها مناطق نفوذها إما لصالح داعش في دير الزور شرقًا أو حلب شمالاً، مع معركتها الطويلة والممتدة في حلب جنوبًا.
صواريخ التاو لم تكن حصرًا على النصرة، إذ نشر مقاتلو الفرقة 13 – المعتدلة، والمدعومة من الغرب – صورًا كذلك لمضادات الدروع، فيما قد يهدئ الأمور ويعيد غرف العمليات والمعارك المشتركة، أمام العدو المشترك، بين الثوار المعتدلين، وجبهة النصرة المحسوبة على القاعدة، مرورًا بأطياف الإسلاميين جميعها، من فيلق الشام (الإسلامي المعتدل القريب من الإخوان المسلمين) وأحرار الشام (الأقرب للسلفية) وجند الأقصى (المنشقة عن جبهة النصرة)، الذين شاركوا جميعًا في معركة تحرير وادي الضيف والحامدية.
مشاركة الفرقة مع النصرة يهددها بمقاطعة الدعم الأمريكي، إذ إن أكبر هواجس الغرب هي عدم وصول هذا السلاح إلى أيدي النصرة تحديدًا، أو – وهو الغالب – لعله ينبئ عن قطع حاصل منذ الآن لهذا الدعم، بعد الإستراتيجية الجديدة التي اتبعها الغرب والتحالف؛ مما يعيد تشكيل المعادلة السورية، لاغيًا طرفًا – كالغرب مثلاً – لحساب طرف آخر.
هذا التنسيق العسكري يعيد طرح السؤال بين المدني والسياسي والعسكري، إذ لم يكن التنسيق العسكري – مع أنه كان يشهد فشلاً أحيانًا، وتوقفًا في منتصف المعركة أحيانًا أخرى – بين الأطراف المعارضة على اختلاف انتماءاتها، من القاعدة إلى المحسوين على أمريكا، جديدًا عن الساحة السورية، لكنه في ذات الوقت لا يلغي السؤال طويل الأمد حول السيطرة والإدارة السياسية والمدنية والقضائية، ولعل ما جرى بين النصرة وثوار سوريا نموذج مصغر عن ذلك.
ليس هذا السؤال طويل الأمد الوحيد، وليست معركة وادي الضيف المعركة الأولى التي انتصر بها الثوار ثم خسروها لاحقًا – إما بسبب الغنائم في ظل الحاجة لكل رصاصة، أو الاختلافات الفكرية، أو السيطرة السياسية -، والمخاوف ألا تكون الأخيرة، وليس الحل هو هذا الإلصاق لهذه القطع الصغيرة المتشظية، أمام الجيش النظامي وحلفائه الذين يعملون في غرف عمليات أوسع وأكثر تنسيقًا، بل الحل هو التوحد الحقيقي والاندماج، لتخطيط أكثر إستراتيجية وأبعد نظرًا، خصوصًا مع كثرة الأعداء، وطول الطريق، وقلة الأصدقاء والزاد.
إذن، بكى الثوار فرحًا مرة ثانية، في وقت جفت به حلوقهم من ملوحة دمع الحزن، كادوا أن ينسوا به كيف يكون الفرح والنصر، معيدة الآمال وموقظة الهمم مجددًا، بأن أي معركة وإن طالت ستؤول إلى نصر، وأي رمز وإن استعصى سيؤول إلى كسر، في أيام يحتاجون فيها إلى كل إيمان وأمل في معركتهم القاسية التي وصلت في الأيام الأخيرة لأسوأ أحوالها منذ أربع سنوات تقريبا، وفي ظروف تحتاج منهم كذلك أن يكون “الجيش الواحد” و”البنيان المرصوص” أكثر من مجرد أسماء معارك، لكي لا تكون “الثورة” مجرد اسم يتداولونه بينهم، بل تغييرًا اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا حقيقيًا، كما أرادوا له أن يكون.