تعد موسكو إحدى أكثر عواصم العالم تحصينا، إذ تحميها السلطات الروسية بتحصينات متعددة الطبقات، وتضرب لها طوقًا أرضًا وجوًا وبحرًا وحتى في العالم الافتراضي، لمنع تعرضها لأي هجوم، خاصة أن روسيا تخوض العديد من الحروب الخارجية، ما يعني أن مركز صنع القرار مهدد.
رغم هذه التحصينات، أعلنت الرئاسة الروسية إحباط هجوم بطائرتين مسيرتين على الكرملين وصفته بالإرهابي، مؤكدة أن الرئيس فلاديمير بوتين لم يصب بأذى، وأنه لم يكن موجودًا في الكرملين لحظة الهجوم، الذي عُدّ محاولة لاغتياله.
هذا الأمر، يطرح أكثر من سؤال عن ماهية التحصينات الروسية، وهل حقًا أوكرانيا هي المسؤولة عن هذه “العملية النوعية”، فضلًا عن ردة الفعل الروسية تجاه هذه العملية التي استهدفت رئيسها مباشرة، وفق تصريحات الكرملين.
تحصينات موسكو
منذ بداية الحرب في أوكرانيا فبراير/شباط 2022، كثفت موسكو تحصيناتها الدفاعية، خاصة داخل المناطق الحيوية وحولها، حتى إنها حوّلت البعض منها إلى ما يشبه الثكنة العسكرية التي لا يقترب منها أحد، وإن كان طائرًا صغيرًا.
تحظر السلطات الروسية تحليق الطائرات المسيرة بكل أنواعها في سماء موسكو، كما تعطل أنظمة الملاحة الجوية والأرضية وكل الاتصالات خلال تحركات الرئيس والصف الأول من القيادة، لتجنب أي هجمات مفاجئة يمكن أن تحدث.
كما تحيط السلطات الروسية عاصمتها ومركز قرارها الأول، بدرع صاروخية لاعتراض أي هجمات بصواريخ نووية أو إستراتيجية، وحول موسكو تتوزع منظومات دفاعية أبرزها منظومة “إس-400” (S-400)، التي تم نشرها مؤخرًا.
يُذكر أن إس-400 هو نظام صاروخي أرض – جو متحرك صممته روسيا، قادر على الاشتباك مع الطائرات والمسيرات وصواريخ كروز على بعد 400 كيلومتر والتصدي لـ80 هدفًا منها في وقت واحد عن طريق توجيه صاروخين أرض – جو لكل هدف، وهو شبيه بنظام باتريوت الأمريكي للدفاع الجوي الذي تمتلكه العديد من الدول الغربية.
يصعب تصديق الرواية الروسية، ذلك أن أوكرانيا لا تريد إعطاء الروس ذريعة هجوم أكبر على المدن الأوكرانية
فضلًا عن هذا النظام، توجد أيضًا منظومة “إس-300” (S-300)، وهي مصممة للتصدي للطائرات المهاجمة وللصواريخ الطويلة المدى مثل صواريخ “كروز”، ويمكنها اعتراض 24 طائرة أو 16 صاروخًا باليستيًا حتى مسافة 250 كيلومترًا في وقت واحد.
إلى جانب ذلك، يتم حماية موسكو بمنظومات دفاع قصيرة المدى كمنظومة “بانتسير-إس 1” (Pantsir-S1)، هذه المنظومة قادرة على رصد وتدمير الأهداف الجوية على مدى 20 كيلومترًا، وتمتلك “بانتسير” 12 صاروخًا وكذلك مدفعين أوتوماتيكيين يستخدمان ضد الذخائر النفاثة والصواريخ.
إلى جانب دفاعاتها الصاروخية، تتخذ روسيا إجراءات أخرى لحماية المقر الرسمي للرئيس – الكرملين – الذي يتميز بتحصيناته الضخمة، فهو يتكون من أكثر من 15 مبنى و20 برجًا، وأكثر من 2.5 كيلومتر من الجدران، التي يصل سمك بعضها إلى ستة أمتار.
?Clearest footage of the drone attack against the #Kremlin pic.twitter.com/4Gvztzq86r
— Michael A. Horowitz (@michaelh992) May 3, 2023
تتولى حماية الكرملين وحدة عسكرية خاصة تسمى “فوج الكرملين” وبعض الوحدات الأمنية الفيدرالية الأخرى، وكذلك شرطة موسكو، وتضع السلطات الروسية معايير صارمة لاختيار أفراد هذه الوحدة، إذ يخضعون لاختبارات بدنية صعبة ويجب أن يتمتعوا بحاسة سمع قوية للغاية، ويشارك في الحماية جهاز الأمن الرئاسي (SBP)، وهو وكالة حكومية اتحادية معنية بالمهام المتعلقة بحماية رئيس روسيا وأسرته، وكذلك الرؤساء السابقين وأسرهم.
ومؤخرًا، أعلنت السلطات الروسية عن مناورات عسكرية في موسكو تُحاكي هجومًا جويًا على المنشآت العسكرية والصناعية والإدارية المهمة في العاصمة، شارك فيها 150 جنديًا، من لواء الصواريخ المضادة للطائرات بالمنطقة العسكرية الغربية.
ضرب هيبة روسيا
رغم كل هذه التحصينات الدفاعية، تمكنت طائرتان مسيرتان من الوصول إلى الكرملين، صحيح أنه تم التصدي للهجوم وتعطيلهما، لكن وصولهما إلى أبرز الأماكن المحصنة في العاصمة موسكو يمثل ضربة موجعة للهيبة الروسية.
لطالما أكدت القيادة الروسية سيطرتها على الوضع داخل البلاد، وأنه لا أحد له أن يقوم بأي هجوم في الداخل الروسي، لكن هذه العملية أثبتت عكس ذلك، فبعد تعرض مدن حدودية لهجمات متكررة، ها هي العاصمة موسكو تشهد نفس السيناريو.
جاء هذا الهجوم قبل أيام قليلة من إجراء العرض العسكري في الساحة الحمراء بموسكو المقرر يوم 9 مايو/أيار الحاليّ، ما يزيد من مخاوف الروس، مع ذلك ليست هناك أي خطط لتعديل برنامج العرض، وفق القيادة الروسية.
من شأن هذا الهجوم أيضًا، أن يخدم الرواية الروسية للحرب ضد أوكرانيا وهي الدفاع عن مصالحها
يبين هذا الهجوم، ضعف التحصينات الروسية، ويظهر عيوب منظومة الدفاع الصاروخي الروسية، ما يؤكد تحليلات سابقة تحدثت عن عدم قدرة رادار المنظومة على تحديد مصدر الهجوم الجوي أو البحري بدقة، واعتماد أنظمة رادارات المنظومة الروسية على الأفق البري أكثر من الجوي، الأمر الذي يصعب مهمة تحديد مصادر الهجمات الجوية.
يذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها بوتين لمحاولة اغتيال، إذ سبق أن أكدت تقارير صحفية أن الرئيس الروسي نجا من 6 محاولات اغتيال، وأنه أصبح في الوقت الحاليّ قلقًا جدًا على حياته لدرجة أنه يحيط نفسه دائمًا بنخبة من أفضل القناصين.
هل هي حادثة مختلقة؟
لكن هناك سؤال آخر وجب التطرق إليه، ماذا لو كانت هذه الحادثة مختلقة ومن صنع السلطات الروسية، خاصة أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نفى خلال مؤتمر صحفي مشترك في هلسنكي مع نظرائه في دول شمال أوروبا أي دور في بلاده بهذه الحادثة، مؤكدًا أن بلاده تحارب على أراضيها ولا تهاجم بوتين أو موسكو.
حتى لو أرادت كييف ذلك، لن تقدم على الأمر إلا بعد موافقة حلفائها على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي أعلن وزير خارجيتها أنتوني بلينكن محاولتهم التحقق من صحة اتهام موسكو بأن أوكرانيا حاولت دون جدوى قتل بوتين، وأوضح بلينكن أنه ينظر بعين الريبة إلى كل ما يصدر عن الكرملين.
هناك نقطة مهمة أخرى تؤكد زيف الرواية الروسية وجب التطرق إليها، وهي عدم رغبة واشنطن في تصعيد الصراع بين الروس والأوكرانيين، فمحاولة اغتيال كييف لبوتين، إن حصلت بالفعل، تعتبر تحولًا كبيرًا في المعركة، وهو ما لا تحبذه القيادة الأمريكية.
يُذكر أن العديد من المؤسسات الإعلامية، حاولت التحقق من مصداقية فيديو الهجوم على الكرملين الذي بثه الإعلام الروسي حصرًا، لكن لم تُفلح في ذلك، خاصة أن كل المواد الإعلامية القادمة من روسيا تخضع لسيطرة القيادة العسكرية مباشرة.
?? Vladimir #Poutine est arrivé au #Kremlin vers 3 heures ce matin. pic.twitter.com/9cUjCYCLeF
— ⚔️Gaulois (@Gaulois_00) May 4, 2023
من الصعب جدًا أن تحاول أوكرانيا اغتيال الرئيس الروسي بوتين في الكرملين، أولًا ليقين كييف بصعوبة ذلك، أو لنقل استحالته، فمقر الحكم المركزي في موسكو كبير ومحصن ضد أي هجمات، كما أن بوتين عادة ما يعمل من منزله بعيدًا عن الكرملين.
أيضًا، يصعب تصديق الرواية الروسية، ذلك أن أوكرانيا لا تريد إعطاء الروس ذريعة هجوم أكبر على المدن الأوكرانية، فهجمة بهذا الحجم والهدف، تعطي الضوء الأخضر لموسكو لمواصلة انتهاك القانون الدولي.
من شأن هذا الهجوم أيضًا، أن يخدم الرواية الروسية للحرب ضد أوكرانيا وهي الدفاع عن مصالحها، فلطالما رددت موسكو أن سبب دخولها لهذه الحرب قبل نحو سنة و3 أشهر، هو الدفاع عن مصالحها أمام الغرب الذي يريد تدميرها.
في هذا الإطار، شنت القوات الروسية صباح اليوم الخميس هجومًا بالصواريخ والطائرات المسيرة على كييف ومقاطعات أوديسا وميكولايف وخيرسون وزاباروجيا، وقالت الإدارة العسكرية في كييف إنه تم تفعيل الدفاع الجوي.
لا يمكن ترجيح رواية على أخرى، فكل السيناريوهات واردة في الحرب، وكل طرف له أن يقوم بما يخدم مصالحه ورؤيته، مع ذلك فإن هذا الهجوم إن كان حقيقيًا أو مدبرًا فإنه يضرب هيبة الروس وموسكو المحصنة ضد أي هجمات.