“الأرض مقابل الديون”.. هو عنوان زيارة أول رئيس إيراني منذ ما يزيد عن 12 عامًا إلى دمشق، في أجواء تسارعية شبه نهائية لتقاسم الكعكة السورية، لما تحمله هذه الزيارة من خطط تعاون استراتيجي طويل الأمد بين النظامين، إضافة إلى حملها جملة من الاتفاقيات التي ترسّخ الهيمنة الإيرانية على الجغرافيا السورية.
وكالة أنباء النظام الرسمية “سانا” نقلت عن الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، قوله، خلال حضوره منتدى رجال الأعمال في دمشق، إنه خلال الاجتماع الأخير مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، “تمَّ اتخاذ جملة من القرارات، وتمَّ توقيع 15 وثيقة بين طهران ودمشق، والاجتماعات المشتركة بين سوريا وإيران مفيدة لتنفيذ الاتفاقيات بين البلدَين، ومن المناسب تشكيل غرفة مشتركة بينهما”.
في حين أن زيارة رئيسي قد سبقتها مباحثات عديدة عالية المستوى بين وفود البلدَين الاقتصادية، أبرزها مباحثات اللجنة الاقتصادية السورية الإيرانية أواخر أبريل/ نيسان الفائت، برئاسة وزير الطرق الإيراني وممثلين عن الجانبَين في قطاعات النقل والتأمين والكهرباء والنقل والنفط والصناعة والإسكان والاقتصاد، تمخّضت هذه المباحثات عن تشكيل 8 لجان تخصصية:
– اللجنة الأولى مختصة بالمصارف والشؤون المالية والتأمين، تبحث سبل التبادل أو التحويل المباشر للأموال بين البلدَين لمواجهة العقوبات التي يواجهها البلدان وللخروج من الأزمة المصرفية.
– اللجنة الثانية مختصة بالشؤون الاستثمارية، تناقش المواضيع المتعلقة بالكهرباء والتركيز على الأولويات في الخط الائتماني الإيراني، كما سيتم التركيز على الطاقات الموجودة في مجال إنتاج الطاقة في إيران.
– اللجنة الثالثة وتختص في ملف النفط، تدرس مواضيع مختلفة كتصدير المواد البتروكيماوية والاستثمار في الحقول المختلفة.
– اللجنة الرابعة تناقش ملف النقل بكل أنواعه، تطرح موضوع الممر السِّككي وزيادة عدد الرحلات بين البلدَين، ومساعدة الأسطول السوري وتقديم القوى البشرية وتدشين ميناء الحميدية والخطوط البحرية المنظمة بين البلدَين.
– اللجنة الخامسة تختص بالشؤون التجارية والصناعية وبناء المدن الصناعية.
– اللجنة السادسة تتعلق بالشؤون الزراعية ما وراء الحدود، وإعطاء 5 آلاف هكتار من الأراضي الزراعية كي تتم زراعتها من الجانب الإيراني، ونقل التجارب والخبرات الإيرانية.
– اللجنة السابعة تتعلق بالشؤون السياحية ومنها السياحة الدينية، حيث وضع هدف لدخول 50 ألف زائر إيراني إلى سوريا، أي بمعدل ألف زائر أسبوعيًّا تقريبًا، ما سيؤدي إلى نشاط اقتصادي في سوريا، كذلك زيارة المعالم الأثرية في البلدَين واستخدام العملة الوطنية في الفنادق والمرافق الوطنية.
– اللجنة الأخيرة هي لجنة متابعة الديون والمستحقات لإجراء التحقيق الدقيق لحجم الديون، وكان هناك اتفاقات سابقة تخصّ إعطاء أراضٍ بدل هذه الديون.
موسم قطف الثمار
تمثّل الاتفاقيات التي فرضتها إيران على نظام الأسد ركيزة أساسية من ركائز الاستحواذ على ملف إعادة الإعمار، الذي تسعى إليه طهران عبر شركاتها، في محاولة منها لقطف ثمار دعم الأسد واستيفاء ديونها، بعد أن سخّرت كل إمكاناتها المادية والعسكرية لحماية رأس النظام منذ اندلاع الثورة السورية قبل 12 عامًا.
فيما قدّرت الأمم المتحدة متوسط الإنفاق الإيراني في سوريا بما يعادل 6 مليارات دولار سنويًّا، في حين أن الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، حشمت فلاحت بيشه، أكّد عقب زيارة رئيسي أن المستحقات الإيرانية على دمشق 30 مليار دولار.
ومع انخفاض وتيرة العمليات العسكرية في سوريا، بدأت إيران تدرك أن حربها في سوريا طويلة الأمد، فراحت تتغلغل ثقافيًّا واجتماعيًّا، إضافة إلى تدخلاتها بقطاع الاقتصاد والقطاعات السيادية الحسّاسة، وعلى رأسها الثروات الباطنية التي تعتمد عليها كليًّا في تمويل الجانب العسكري والثقافي والسكني في محاولة لشرعنة وجودها، ما يعني انتقالها إلى مرحلة التمكين والاستعمار بعد رسوخ سياساتها التمددية والدينية.
ولعلّ مرحلة التمكين تتلخّص في تحصيل أراضٍ في محافظات سورية متفرقة كبديل عن ديونها لدمشق، وبالتالي التملُّك وابتلاع الدولة ككل، لا سيما مع تزايد نشاطها في القطاع العقاري وشراء أراضٍ، وبنائها وحدات ومشاريع سكنية، استكمالًا لمخططات التغيير الديموغرافي في سوريا، فضلًا عن الاستثمار المالي، والحضور الديني الذي يتطلب اهتمامًا كبيرًا بمسار الطرق والنقل البرّي.
حقيقة عدم قدرة بشار الأسد على الخروج عن الفلك الإيراني غير دقيقة سياسيًّا، فنظام الأسد مشهور من الأب إلى الابن بالانقلاب على الاتفاقات والتحالفات عند الضغوط أو رؤية مصالح أكبر.
الباحث في الشأن الإيراني، عمار جلو، لفت في حديثه لـ”نون بوست” إلى “أن طهران تولي قطاع التطوير العقاري بأنواعه، التملك والإتجار والبناء، اهتمامًا متعدد الأهداف، فإلى جانب الأهداف الربحية للتطوير العقاري، يأتي التغيير الديموغرافي مع بناء جدار أمني متوازيًا مع الأهداف الربحية لهذا القطاع أو متقدمًا عليها”.
ولعلّ ذلك يظهر واضحًا في محيط مطار دمشق وجنوبها وفي أجزاء مهمة من غوطتها الشرقية، ومناطق السيدة زينب والمزة وحتى المدينة القديمة في دمشق، “إذ تظهر معالم إنشاء جدار ديموغرافي أمني شبيه بحالة الضاحية الجنوبية في بيروت، وهو أمر يثير استياء السوريين، لا سيما بعد التصريحات الرسمية عن تملُّك إيران 5 آلاف هكتار من الأراضي في سوريا بدلًا عن الديون”، حسب جلو.
وتعمّد رأس النظام السوري خلال اجتماعه مع رئيسي في دمشق توجيه رسالة “غير مباشرة” للدول العربية التي همّت في تطبيع العلاقات مع نظامه، مفادها أن “لا مزيد من تقديم التنازلات تحت عنوان الانحناء للعاصفة”، ما يعكس، بحسب الباحث، حجم التناغم بين النظامَين من جهة، وفشل مبادرات العرب المبدئية في إقناع دمشق بالتخلي عن حضن طهران إلى حدّ ما من جهة أخرى.
يرى الباحث في الشأن الإيراني أن زيارة رئيسي مرتبطة بالتغييرات الجديدة في الساحة الإقليمية، ومنها التحول العربي نحو نظام الأسد، لافتًا أن رأس النظام السوري يمكنه استخدام الورقة الإيرانية ضمن حدود معيّنة للاستثمار في بازار المخاوف العربية من وجودها في سوريا، ورفع سقف طلباته، ما يحقق فائدتَين لنظام الأسد: إدرار المكاسب السياسية والاقتصادية، وتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا ضمن إطار مقبول لنظام الأسد.
مضيفًا أن حقيقة عدم قدرة بشار الأسد على الخروج عن الفلك الإيراني غير دقيقة سياسيًّا، فنظام الأسد مشهور من الأب إلى الابن بالانقلاب على الاتفاقات والتحالفات عند الضغوط أو رؤية مصالح أكبر.
استثمارات ما بين القانون الدولي والدستور السوري
يمكن القول إن جميع استثمارات إيران هي غنائم حربها وتدخلها العسكري إلى جانب نظام الأسد منذ اندلاع الثورة السورية، وقد جاءت كمكاسب سياسية وترضية بشكل قانوني يعزز وجودها في سوريا، سواء سقط النظام أو تغيّر.
إذ إنها لا تجد ضرورة تنفيذ هذه الاستثمارات فعليًّا بقدر رغبتها في حجزها، ليكون لها يد في تحديد مستقبل سوريا حتى بعد سقوط النظام، لذا فإن حديث السوريين بشأن عدم الاعتراف باستثماراتها وعقودها فيما لو سقط النظام هو حديث شعبوي، كما يصفه كثير من المختصين، لأن عمليات البيع والتنازل عن أراضٍ لدولة أخرى متوافقة مع القانون الدولي.
وقد عمد نظام الأسد لسداد الديون المستحقة عليه للدول الداعمة كروسيا وإيران إلى أحد أكثر الطرق الاقتصادية شيوعًا، وهي “نظام مبادلة الديون” بين الدول، أي تحويل الديون إلى حقوق ملكية، فهذه الآلية هي أن تحصّل الدولة الدائنة أصول أو مشاريع قائمة تخص الدولة المَدينة، بدلًا من سداد الدين سدادًا نقديًّا ومباشرًا بالعملات الأجنبية.
النظام يسعى لبيع الأصول أو الخصخصة أو الاستحواذ أو مبادلة الديون بالاستثمارات مقابل ديون مستحقة السداد، وهذا مبدأ خطير يدمّر الاقتصاد الوطني
ويبدو أن نظام الأسد استطاع التمهيد لذلك وتسهيل هذه العملية، عبر إصداره عدة قوانين وتشريعات كالقانون رقم 5 لعام 2016، والقانون رقم 42 لعام 2022، والقانون رقم 2 لعام 2023.
من جهتها، نشرت رابطة المحامين السوريين الأحرار، وهي منظمة مجتمع مدني غير حكومية مقرها تركيا، مذكرة قانونية أشارت فيها إلى أن عملية تنازل الدولة عن أراضيها لصالح دولة أخرى تعد إحدى وسائل سداد الديون المستوجبة على الدولة الدائنة للدولة المُدينة لتحصيل ديونها بطريقة سهلة.
إلا أن الاتفاقيات الدولية والمعاهدات أدنى مرتبة من الدستور، لذلك يجب أن تكون هذه الاتفاقيات التي وقّع عليها النظام السوري المتضمنة بالتنازل عن أراضي الدولة السورية لصالح دولة إيران، متوافقة مع الدستور السوري الذي يتعارض بشكل قاطع مع عمليات بيع الأصول السورية.
وجاء في المذكرة أن النظام السوري يسعى لتطبيق سياسة تخصيص وتخارج الحكومة السورية من الشركات العامة، وبيع ممتلكات الدولة لسداد الديون الممتدة، وبيع الأصول أو الخصخصة أو الاستحواذ أو مبادلة الديون بالاستثمارات مقابل ديون مستحقة السداد، وهذا مبدأ خطير يدمّر الاقتصاد الوطني ويسلب القرار السيادي للدولة لصالح الدول المتحكمة في ثروات واقتصاد الدولة السورية.
ودعت المذكرة إلى استمرار وتشديد العقوبات المفروضة على النظام السوري لتقييد هذه الاتفاقيات والاستثمارات، وعدم تشجيع الدول الأخرى للاستثمار مع النظام السوري للحفاظ على ما تبقّى من ثروات في البلاد، ليستفيد منها الشعب السوري في إعادة الإعمار والنهوض بالاقتصاد السوري، بعد التوصل إلى تحقيق الانتقال السياسي وفق قرارات مجلس الأمن.
الربط السككي.. الأخطر بعد الاستملاك
لا تخفي ايران حماسها تجاه مشروعها الاستراتيجي القديم، خط سكة شلموجه-اللاذقية، والذي بدأ التخطيط له منذ عام 2010، ويتضمن ربط ميناء الخميني الواقع على الجانب الإيراني من مياه الخليج العربي في مدينة خرمشهر جنوب غرب إيران، مع ميناء اللاذقية السورية على المتوسط، بعد المرور بمدينة البصرة العراقية إلى البوكمال السورية التي تتمركز فيها عدة ميليشيات إيرانية، وصولًا إلى مياه المتوسط ومنه إلى أوروبا، الهدف الرئيسي لطهران.
فضلًا عن اعتباره تمهيدًا لاندماج سياسي إيراني عراقي سوري، ويعتبر الخط السككي الأرخص تكلفة والأكبر حجمًا لضخّ البضائع في الحديقة الخلفية لإيران (العراق وسوريا ولبنان)، وتعزيز موقع إيران الجغرافي في مشروع طريق الحرير الصيني الذي تروّج الصين له بقصد ربط أسواق العالم ببعضها، وأيضًا لدعم ميليشياتها في العراق وسوريا، وتأمين الزوار الإيرانيين بغرض السياحة الدينية.
المستشار الاقتصادي أسامة قاضي توقّع في حديثه لـ”نون بوست” إدراج كل الاتفاقيات ضمن ديون “خطوط الائتمان”، ما يعني زيادة السيطرة الإيرانية على سوريا وتبعية دمشق لها، لافتًا أن إيران تسعى لاستكمال الهلال الفارسي من أراضيها إلى العراق وصولًا إلى سوريا ولبنان، محاولة وضع اللمسات الأخيرة على هيمنتها.
ومن ضمن اللمسات هذه إنشاء طريق برّي سِككي لنقل البضائع المشروعة وغير المشروعة والأسلحة والميليشيات إلى العراق ولبنان وسوريا وبالعكس، ما يعني تمكين نفسها اقتصاديًّا في المنطقة، بحيث تصبح رقمًا صعبًا لاستثنائها من أي تسوية سياسية في تلك المنطقة.
اتفاقيات الإذعان هذه مع النظام تعني أن النظام لم يعد يملك أي أصول سيادية للسوريين، فكلها باتت بيد الروس وإيران
ويضيف القاضي: “سعى الإيرانيون لتوقيع اتفاقيات منذ العام 2015، سواء باستملاك الأراضي أو ببناء الوحدات السكنية، أو فيما يتعلق بالاستثمارات في قطاع الثروات الباطنية والكهربائية وحتى الثقافية، وقطاع النقل والطرقات والاستيلاء على الأصول السيادية السورية، ضمانًا لسداد ديونهم المزعومة”.
مشيرًا أن “الرئيس الإيراني أتى حتى يثبت كل الاتفاقيات التي تمَّ التفاهم عليها منذ عام 2015، ويتسلم المستحقات التي جاءت على شكل اتفاقيات دفع مباشر، فالإيرانيون يريدون رفع سقف المطالب من أجل القوة التفاوضية مع العرب، وإرسال رسالة أن أي تطبيع قادم لا يعني الاستغناء عن إيران التي يدين لها النظام بالكثير”.
وحسب القاضي، فإن اتفاقيات الإذعان هذه مع النظام تعني أن النظام لم يعد يملك أي أصول سيادية للسوريين، فكلها باتت بيد الروس وإيران، لافتًا إلى أن مسار أستانة ساهم بشرعنة وجود نظام الأسد وإلزام السوريين بكل العقود والديون المترتبة، والتي وضعها النظام على كاهلهم لعشرات السنين.
وبلغ عدد دفعات الخط الائتماني المعلن عنها بين سوريا وإيران 3 دفعات: الأولى في مطلع عام 2013 بلغت قيمتها حينها مليار دولار، والثانية في أغسطس/ آب 2013 بلغت قيمتها 3.6 مليارات دولار، والثالثة منتصف عام 2015 بقيمة مليار دولار، حسب تقرير نشره موقع “Iran Wire” في أغسطس/ آب 2020.
في الواقع، آتى التمدد الإيراني في سوريا أكله عبر سنوات الحرب السورية، فرغم ما تعانيه إيران من ضائقة اقتصادية دفعت مدير عام التأمين الاجتماعي بوزارة العمل الإيرانية، سجاد بادام، لإطلاق تصاريح حول نية إيران بيع جزر كيش وقشم وخوزستان لدفع رواتب المتقاعدين، إلا أنها تعمل بشكل حثيث لتثبيت موطئ قدم لها في الشام، مدفوعة بأهداف عديدة يأتي في مقدمتها الأهداف العقائدية ونشر التشيّع وتصدير ثورتها، وهو ما يمكن اختصاره في مشهد بكاء الرئيس الإيراني رئيسي أمام مرقد السيدة زينب جنوب العاصمة دمشق.