أقام الرئيس التونسي قيس سعيّد خطابه، قبل انقلابه على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية في 25 يوليو/ تموز 2021، على “وحدة الدولة” وأنه “لا يوجد إلا رئيس واحد في تونس” وأن “هناك محاولة تفجير للدولة من الداخل”.
نتيجة ذلك، عمل خلال الدستور الذي صاغه بنفسه ووضعه مكان دستور 2014 -الذي أشاد به الداخل والخارج- على جمع كلّ السلطات في البلاد تحت تصرفه، وألغى السلطتَين التشريعية والقضائية ونصّ على أنهما وظائف داخل الدولة، وأفرغ البرلمان والحكومة من أغلب صلاحياتهما، حتى يكون هو الحاكم الأوحد للبلاد.
مع ذلك، عاد الخطاب نفسه مجدّدًا، وعدنا نسمع مرة أخرى مقولات من قبيل “الدولة التونسية واحدة” و”الرئيس الواحد”، وهي رسائل مبطنة لرئيس مجلس نواب الشعب إبراهيم بودربالة، الذي يبدو أن تحركاته الميدانية واستقباله لبعض السفراء لم يروقا لقيس سعيّد.
السؤال المطروح الآن هل يستغلّ سعيّد هذا الأمر لحلّ البرلمان الجديد وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة، خاصة أنه من البداية لم يرق له هذا البرلمان، فالتشكيلة التي أفرزتها الانتخابات التشريعية الماضية لم تستجب لتطلعات سعيّد.
إفراغ سعيّد البرلمان من كل صلاحياته حتى يكون صوريًّا
صلاحيات البرلمان السابق كانت أمرًا “مقلقًا” بالنسبة إلى الرئيس قيس سعيّد، إذ كان يرى أن مجلس نواب الشعب يزاحمه الحكم، رغم أن الصلاحيات كانت واضحة في الدستور، وسعيّد وصل إلى قصر قرطاج وهو يعلم “محدودية” صلاحيات الرئيس.
يعد هذا الأمر أحد أبرز الأسباب التي دفعت قيس سعيّد للانقلاب صيف 2021، إذ لم يكن الأستاذ المساعد في القانون الدستوري يرى إلا نفسه حاكمًا لتونس، فلا أحد له أن يحكم في وجوده وإن كان الدستور منحه ذلك ونصَّ عليه صراحة.
جُرّد البرلمان الجديد، وفق دستور سعيّد، من أغلب صلاحياته وأصبح وجوده شكليًّا، إذ لم يعد صاحب السلطة الأولى في تونس، ولم يعد بإمكانه الاعتراض على قوانين السلطة التنفيذية والتصدي لها وعزل رئيس الدولة وتوجيه لائحة لوم له.
يرفض قيس سعيّد تحركات إبراهيم بودربالة، وهو ما يمهّد لصراع قادم بينهما إن تمسّك عميد المحامين السابق بما يراه.
نصَّ الدستور على عدم قدرة البرلمان على مساءلة الحكومة أو توجيه اللوم إليها، فقد وضع سعيّد شروطًا تعجيزية لذلك، ما يجعل هذه المهمة حكرًا عليه، تماشيًا مع تصوره لنظام الحكم الرئاسوي، فالرئيس فيه يتحكم بكل شيء.
يمكن للبرلمان الجديد اقتراح مشاريع قوانين، لكن يجب أن تُقدّم من جانب 10 نواب على الأقل، مع إعطاء الأولوية للنصوص التي يقدّمها الرئيس، وهو ما يعدّ ضربًا لمهمة البرلمان التشريعية، إذ يصعب أن يتفق 10 نواب على قانون، خاصة أن سعيّد حرص أن يتشكّل البرلمان من فسيفساء لا رابط بينها، في ظل اعتماد عملية الاقتراع على الأفراد وإقصاء الأحزاب من المشهد السياسي في تونس.
هذا يعني أن المبادرة التشريعية أصبحت محتكرة تمامًا من قبل رئيس الجمهورية، الذي يحظى بأولوية التشريع والنظر، بينما البرلمان الجديد أصبحت مهمته التزكية والمصادقة الشكلية فقط، كما كان الوضع قبل ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011.
الصراع بين سعيّد وبودربالة
كلّ ذلك تمّ لإرضاء “غرور” قيس سعيّد، الذي لا يرى إلا نفسه، فهو الآمر الناهي ولا حاكم إلا هو في “مملكته”، مع ذلك يبدو أن الرئيس لم يرضَ بما وصل إليه، إذ يريد أن يركن كل مسؤول في مكتبه لا يتحرك إلا بأمره، وهو ما يفسّر صراعه مع رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة.
خلال استقباله رئيس الحكومة، نجلاء بودن، أمس الخميس بقصر قرطاج، أكّد سعيّد على “أن من لا يزال في ذهنه أنه يعمل في ظل الدستور السابق فهو مخطئ في التاريخ، ومن يريد الجلوس على مقعدين اثنين فخير له ألا يتحمّل أيّ مسؤولية”.
لم يذكر سعيّد الاسم كعادته، لكنه يقصد حتمًا صديقه بودربالة، الذي كثّف في الفترة الأخيرة من نشاطه داخل البرلمان وخارجه، الأمر الذي لم يرق للرئيس، فكما قلنا سابقًا سعيّد يرى في البرلمان مجرد وظيفة وليس سلطة، وما على رئيسه إلا أن “يتقيّد” بوظيفته.
يرى سعيد أن بودربالة تجاوز الخطوط المرسومة له، ويحاول أن يمارس نشاطه ضمن دستور 2014 الذي تمَّ تعليق العمل به، وهو أمر مرفوض في أدبيات قيس سعيّد ويستحق صاحبه العقاب، مهما كانت درجة الولاء والوفاء.
#تونس
انتخب هذا المساء إبراهيم بودربالة رئيسا لمجلس نواب الشعب.
بودربالة محسوب على الأخ الرئيس #قيس_سعيد pic.twitter.com/bTn8b3wXfJ
— حبيب??تونس (@HergliHabib) March 13, 2023
كثّف بودربالة منذ انتخابه على رأس البرلمان -يوم 13 مارس/ آذار الماضي- نشاطه، إذ استقبل عديد السفراء المعتمدين في تونس كما كان يفعل رئيس البرلمان السابق راشد الغنوشي وقبله محمد الناصر، منهم السفير السعودي عبد العزيز بن علي الصقر، الذي تحدث معه عن دعم المشاريع التنموية والاقتصادية والاجتماعية في تونس.
كما استقبل أيضًا السفير التركي والصيني والأرجنتيني والأرميني وعديد السفراء الأوروبيين، آخرهم السفير الألماني وسفير الاتحاد الأوروبي بتونس ماركوس كورنار، وهو ما لم يعجب الرئيس قيس سعيّد ورأى فيه تعدّيًا على رئاسته للبلاد.
فضلًا عن هذا، كثّف بودربالة -وهو عميد سابق لنقابة المحامين- تحركاته الداخلية، إذ استقبل ممثلين عن نقابة الصحفيين وعن اتحاد المرأة وأيضًا عن اتحاد الأعراف (الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية)، وزار مؤخرًا مركز التكوين الفلاحي للفتاة الريفية في محافظة بن عروس، وهناك أكّد “حرص المؤسسة التشريعية على الإسهام في تحسين الوضع في الجهات”، وفق قوله.
هل تكون حجّةً لحلّ البرلمان؟
لا نستغرب أن يستغل سعيّد هذا الأمر للتضييق على عمل البرلمان ولما لا حلّه في مرحلة أخرى، فعند سعيّد لا شيء مستبعَد وكلّ شيء متوقع، فالهمّ عنده أن “يُرضي غروره” وأن يُخيّل إليه أنه الحاكم الأول والوحيد للبلاد، وإن كان ذلك سببًا في خرابها.
يرفض قيس سعيّد تحركات إبراهيم بودربالة، وهو ما يمهّد لصراع قادم بينهما إن تمسّك عميد المحامين السابق بما يراه، هذا الأمر يمكن أن يفضي إلى حل مجلس نواب الشعب، خاصة أن سعيّد لم يرق له هذا البرلمان منذ البداية.
أعرب سفير جمهورية #ألمانيا الاتحاديّة بتونس، في لقاء جمعه بعد ظهر، الأربعاء، برئيس مجلس نواب الشعب إبراهيم بودربالة بقصر باردو، عن تقديره للخطوات الإيجابية التي تم قطعها في مجال البناء الديمقراطي وأهمية العمل على مزيد تعزيزه. pic.twitter.com/6FMQpcibvy
— عسلامة (@cristianuyeah) May 4, 2023
منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات، بدا واضحًا أن سعيّد لم يكن مرتاحًا أو سعيدًا لهذه النتائج، فأغلب أنصاره فشلوا في حشد الشارع خلف مسارهم السياسي، ولم يتمكنوا من الوصول إلى مقاعد البرلمان رغم التسهيلات الكبيرة التي مُنحت لهم.
فشل أصدقاء الرئيس والحاملون لفكره في الوصول إلى البرلمان، من بينهم أحمد شفتر المدافع عن فكرة “البناء القاعدي”، الذي لم يتجاوز عدد المصوتين له الـ 2000 شخص، رغم أنه دائمًا ما يقدم نفسه على أنه المفسّر الأول لبرنامج قيس سعيّد.
سقوط أغلب مرشحي الرئيس، وتأكيد العديد من المنتخبين في البرلمان الجديد نيتهم عدم الالتزام بما نصَّ عليه دستوره في خصوص عمل المجلس، وتوجههم للعمل وفق دستور 2014، يمثل مصدر قلق كبير للرئيس، فهو لم يكن يتمنى تشكُّل البرلمان بهذه الطريقة.
كلّها أسباب يمكن أن تكون دافعًا قويًّا لقيس سعيّد حتى يعرقل عمل البرلمان الحالي كما فعل مع البرلمان السابق، فهو يخشى أن ينافسه الحُكم، وأن يخرج النواب عن طوعه ولا ينفّذوا أوامره، فهذه التشكيلة البرلمانية لم يكن ينتظرها سعيّد.