تُفرز الأزمات والحروب – في الغالب – معادلات سياسية جديدة، وتفرض تموضعات مختلفة ترسم ملامح مغايرة كثيرة على خريطة التوجهات والتحالفات، تتأرجح في قوتها وشدتها وفق ارتدادات تلك الأزمات ورقعة تمدد تأثيرها، وكثيرًا ما سجلت صفحات التاريخ انهيارات بالجملة لعلاقات دولية راسخة، وفي المقابل نشأت أخرى ولو كانت على أسس مشتركة هشة.
وينطبق هذا المبدأ السياسي على الحالة المصرية في تعاطيها مع المشهد السوداني المأزوم منذ اندلاع شرارة حرب الجنرالات الأولى منتصف أبريل/نيسان 2023 والمستمرة حتى اليوم، التي لا يتوقع أحد متى سيُسدل الستار على نهايتها في ظل استمرار المغذيات والمحفزات القادمة من القوى الداعمة لطرفي الحرب، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).
ورغم حساسية الموقف المصري في مقارباته مع تلك الحرب التي تمثل تهديدًا مباشرًا لأمن الدولة القومي، فإن حلفاء القاهرة كان لهم رأي آخر، إذ تجاهلوا تمامًا مصالح حليفهم الإقليمي إزاء هذه الأزمة وما تحمله من مخاطر من الجانب الجنوبي والجنوبي الغربي والشريط الحدودي الغربي للدولة المصرية، وبات كل طرف يتحرك وفق أجندته الخاصة، سواء كانت توسيع دائرة النفوذ أم تعزيز الحضور الإقليمي.
في هذه الإطلالة نلقي الضوء على مأزق الحضور المصري في المشهد السوداني وارتدادته على خريطة التحالفات المصرية الإقليمية، خاصة مع الأطراف المتورطة في تعقيد الموقف الحالي، على رأسها الثلاثي الذي يتصدر قائمة العلاقات المصرية الدافئة في المنطقة: روسيا والسعودية والإمارات.
فاغنر.. روسيا طرف مباشر في تأجيج المشهد
رغم نفي موسكو ضلوعها في تلك الحرب، فإن كل الشواهد تكذب هذا النفي، في ظل التورط المباشر لمجموعة “فاغنر” الروسية في المشهد منذ بدايته، حتى قبل انطلاق شرارته الأولى منتصف الشهر الماضي، إذ “وصلت قوات فاغنر إلى السودان منذ أكثر من سبع سنوات، وكان نشاطها يقتصر على تدريب قوات الدعم السريع ثم تطور إلى الاستثمارات النوعية أو تحديث القوات والسلاح والمعدات، حاليًّا لا أتوقع أن يكون لها وجود فعلي سوى الارتباط بالاستثمار في مجال الذهب” وفق تصريحات رئيس تحرير صحيفة التيار السودانية عثمان ميرغني لـ“فرانس24”.
وتخضع عناصر فاغنر لسيطرة مشددة من حميدتي بحسب المؤرخ الفرنسي المتخصص في شرق إفريقيا، جيرار برونييه، الذي لفت إلى أنه كان يستخدمهم كحراس أمن في مناجم الذهب غير الشرعية، حيث كان يعتمد عليهم قائد الدعم السريع في عمليات نهب الذهب وتصديرها لروسيا والإمارات نظير الحصول على مبالغ مالية لتقوية نفوذه السياسي والعسكري.
وتحولت فاغنر من مجموعة لحراسة مناجم الذهب في السودان إلى ضلع عسكري أساسي في دعم حميدتي في حربه الأخيرة، بل كانوا أحد اللاعبين الأساسيين المتورطين في المجازر التي ارتكبها العسكر بحق المدنيين منذ ثورة ديسمبر/كانون الثاني 2018 وحتى اليوم، ومنها مجزرة فض اعتصام مقر القيادة العامة.
ويرتكز حميدتي في مواجهته تلك مع البرهان وجيشه على تلك الميليشيات الروسية التي تعد من العوامل الرئيسية وراء ثبات الدعم السريع حتى اليوم في مقابل الجيش السوداني الذي يتفوق عليها في العدد والعتاد، فيما ذهب البعض إلى أن موسكو تحاول – عبر ميليشيات فاغنر – توطيد نفوذها في الداخل السوداني ومحاولة البحث عن موطئ قدم لها في ميناء بورتسودان وإحياء الاتفاق القديم مع حكومة البشير والإنقاذ البالية، في إطار صراع النفوذ مع واشنطن على الهيمنة على مقدرات وثروات الممرات المائية اللوجستية في القارة الإفريقية.
وتتحرك موسكو في هذا الملف ببرغماتية مطلقة، غير مبالية بأي اعتبارات أخرى تتعلق بحليفها المصري، الذي تحيا العلاقات معه أوج قمتها طيلة السنوات الثمانية الأخيرة، وهو ما كان بمثابة الصدمة لكثير من المصريين الذين يرون في تلك التحركات المنفردة عبثًا بالأمن القومي المصري وتأجيجًا للوضع في الفناء الجنوبي لبلادهم.
الإمارات.. حاضنة حميدتي وداعمه الأول
يجمع الكثير من المراقبين والمحللين على توريط الإمارات بشكل مباشر وغير مباشر فيما وصل إليه الوضع السوداني الحاليّ، فمنذ عزل البشير في أبريل/نيسان 2019 وتلعب الدولة الخليجية أدوارًا متشعبة في تعقيد المشهد وزيادة درجة سخونته، من خلال اللعب على طرفي النزاع داخل المكون العسكري، البرهان وحميدتي.
وبحسب ما نشرته التقارير الإعلامية والاستخباراتية، داخل السودان وخارجه، فإن أبو ظبي هي الداعم الأبرز لقوات الدعم السريع منذ أن كانت تجمعات ميليشاوية (جنجويد)، وأن الأموال التي تمنحها لحميدتي سنويًا نظير كميات الذهب المهربة من بلاده هي عصب بناء تلك الميليشيات وتحويلها إلى ما يشبه الجيش النظامي في القوة والعتاد والقدرات التسليحية.
وتتمتع الدولة النفطية بعلاقات أمنية وعسكرية وسياسية قوية مع تاجر الإبل السوداني، الذي كان ذراعها البارزة لدعم حليفها الليبي خليفه حفتر بجيوش المرتزقة، كما كان ساعدها الأقوى لتنفيذ أجندتها التوسعية في القارة السمراء عبر بوابة السودان، بعد تلقيها ضربات موجعة في العديد من دول القرن الإفريقي.
وتتصدر الإمارات قائمة الدول الأكثر استفادة من تفتيت لحمة السودان، إن لم تكن المستفيد الأكبر، حيث ترى في ذلك البيئة الخصبة لتوسيع نفوذها الإفريقي في ظل المقاومة الشرسة والمنافسة حامية الوطيس التي تواجهها من القوى الأخرى وفي المقدمة منها السعودية والصينية والروسية.
وقبيل ساعات من اشتعال المواجهة بين حميدتي والبرهان كان رئيس الإمارات محمد بن زايد في زيارة عاجلة للقاهرة لم تستغرق أكثر من ساعات قليلة، يبدو أنها كانت بهدف تباحث الموقف في السودان مع الجانب المصري، لكنها فشلت، فبعد مغادرته للأراضي المصرية بقليل اندلعت شرارة الحرب بين الجيش وقوات الدعم.
ويجسد المفكر السوداني تاج السر عثمان واقع بلده المأزوم والدور الإماراتي في هذا التأزم بقوله: “الإمارات فقاسة ميليشيات، لا تدعم جيشًا برأس واحدة، بل فصائل متعددة قد تكون متضادة، وقد دعمت البرهان القريب من مصر وحميدتي القريب من إثيوبيا”، مضيفًا “إنها تفخخ البلدان بأمراء الحرب لتنفجر يومًا ما خدمة للصهيونية والإمبريالية العالمية”.
وكانت صحيفة التلغراف البريطانية قد نشرت قبل أسبوعين بعض الصور لصواريخ تابعة لقوات الدعم استولى عليها الجيش السوداني (صواريخ من عيار 120 ملم عليها علامات توضح أنها صنعت في صربيا عام 2020، وشُحنت لاحقًا إلى الإمارات)، سلمتها أبو ظبي لحميدتي لدعمه في تلك الحرب، فيما سربت وثيقة أخرى تشير إلى أن السيارات المدرعة التي تستخدمها قوات الدعم في تلك الحرب كانت قد اشترتها من الإمارات عام 2019 أي بعد اندلاع الثورة بأشهر قليلة.
السعودية.. البحث عن تعزيز النفوذ الإقليمي
تميز رد فعل الرياض بداية الحرب بشيء من الهدوء والتريث، حيث طالبت مع القاهرة بعقد اجتماع للجامعة العربية لمناقشة الأزمة، الخطوة التي فسرها مراقبون بداية الأمر بالتناغم المصري السعودي في التعاطي مع هذا الملف، وهو ما رفع منسوب التفاؤل لدى البعض بشأن مستقبل العلاقات المصرية السعودية التي شابها بعض التوتير مؤخرًا.
لكن سرعان ما عادت الأمور إلى ما كانت عليه، تغريد سعودي منفرد بعيدًا عن المسار المصري، حيث تبادل الاتصالات والمشاورات بين المملكة والولايات المتحدة وبريطانيا، وتبني مبادرات سياسية ودبلوماسية بمعزل عن القاهرة، الحليف الأبرز للمملكة خلال السنوات الأخيرة والدولة الأكثر تأثرًا بتداعيات المشهد السوداني الذي يهدد أمنها القومي.
وبدأ تسليط الضوء إعلاميًا وسياسيًا على الدور الذي تقوم به الرياض لحلحلة الأزمة السودانية، وسط احتفاء إقليمي ودولي بالجهد المبذول لإجلاء أكثر من 3000 شخص من بورتسودان، رعايا سعوديون ومواطنون من أكثر من 80 جنسية أخرى، وهو ما دفع السفير البريطاني السابق لدى السودان وليام باتي (عمل كذلك سفيرًا لبريطانيا لدى السعودية) إلى تمجيد تلك الخطوة التي وصفها بأنها بادرة جيدة على قدرة المملكة في استخدام نفوذها لإنهاء القتال في البلد الإفريقي بما يمهد الطريق نحو وساطة سعودية محتملة.
ويعتقد باتي في تصريحات صحفية له أن المملكة قادرة على أداء هذا الدور الدبلوماسي بين طرفي الحرب في السودان، مستندًا في ذلك إلى “الاتصالات الجيدة التي لدى السعوديين مع “قوات الدعم السريع” لأنها أشركت القوات في الحرب باليمن، ولديهم أيضًا اتصالات جيدة مع الجيش”، وهو ما يؤهلها لأن تلعب دورًا مهمًا كوسيط لأن الرياض تعاملت مع القوتين المتصارعتين وعلى صلة قوية بقادتهما بشكل مباشر.
وتستضيف جدة – بمعزل عن القاهرة – أول مباحثات ثنائية بين ممثلي الجيش والدعم السريع، وسط ترحيب أمريكي وتأييد من مجموعة دول الرباعية وجامعة الدول العربية والآلية الثلاثية، كما جاء في البيان السعودي الأمريكي المشترك صباح اليوم السبت 6 مايو/أيار 2023.
وتحاول المملكة تعزيز نفوذها الإقليمي والانخراط أكثر في قضايا القارة الإفريقية ذات الأهمية اللوجستية والاقتصادية والأمنية للسعودية، في ظل السياسة الجديدة التي بدأت الرياض تتبناها مؤخرًا، مغردة بشكل منفرد نحو تحقيقها بعيدًا عن حلفائها التقليديين، القاهرة وأبو ظبي على وجه التحديد، وهو ما يتناغم مع الأجواء المعكرة بين الطرفين خلال الفترة الأخيرة نتيجة تباين وجهات النظر إزاء بعض الملفات.
القاهرة.. هل تعيد النظر في خريطة التوجهات؟
يحرص النظام المصري الحاليّ في ضوء الوضعية الاقتصادية المأزومة التي تواجهها الدولة على الإبقاء على العلاقات الدافئة مع الشركاء والحلفاء، ورغم توتير الأجواء بين الحين والآخر، فإن القاهرة تمارس أقصى درجات الانضباط في ردود الفعل خشية تعرض جدار تلك العلاقات لشروخ تُفقدها موردًا مهمًا من موارد الدعم.
لكن كيف يكون الوضع مع تغريد الحلفاء خارج السرب بما يضر الأمن القومي المصري؟ سؤال بات ملحًا على ألسنة المصريين بعد التوجهات السياسية للحلفاء في الملف السوداني تحديدًا دون أي اعتبار لحساسية الموقف المصري، فحين تكون كل من موسكو وأبو ظبي طرف حرب مباشر وباعثًا قويًا على إشعال الموقف عبر دعم ميليشيات حميدتي، وتتجاهل الرياض القاهرة في تحركاتها الدبلوماسية، فإن الأمر بحاجة إلى رد فعل يحفظ لمصر أمنها من جانب وسيادتها وكرامتها من جانب آخر.
البعض قرأ الموقف السياسي لحلفاء القاهرة في ضوء التناغم مع الأجواء المتوترة في العلاقات، فيما قرأه آخرون على أنه محاولات مشروعة لتلك البلدان لتعزيز نفوذها وحضورها السياسي كما الوضعية السعودية، ولو كانت عبر معارك غير شريفة تستهدف تأجيج الوضع وإشعاله لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب كما هو حال الإمارات وروسيا.
لا يمكن تحميل حلفاء مصر وحدهم مسؤولية تأجيج المشهد في الجار الجنوبي، إذ ساعدتهم القاهرة على ذلك حين غاب أو تراجع دورها الفعال على المسرح السوداني، مكتفية بالتوجيهات والنصائح الدبلوماسية العامة وتجنب التخندق إلى أي من فصيلي المواجهة، تاركة الملعب خاويًا للقوى الدولية الأخرى، التقليدية أو صاحبة الطموح الإقليمي المتصاعد.
رويدًا رويدًا يزداد الوضع تأزمًا على المستوى المصري، فيومًا تلو الآخر تنخرط كل من السعودية والإمارات وروسيا في المشهد، الأول عبر تعزيز نفوذ الوساطة، والثاني والثالث عبر مزيد من الإشعال والتأجيج بدعم ميليشيات حميدتي، فيما تقبع القاهرة في انتظار ما ستسفر عنه تفاصيل هذا المشهد العبثي.
وفي الأخير، كشفت الحرب السودانية بشكل واضح الكثير من الأمور الغائبة، فيما يتعلق بالتوجهات السياسية للقوى الإقليمية، إذ تعد تلك الأزمة أحد أبرز الاختبارات الحقيقية لتماسك وقوة خريطة تحالفات القاهرة التي يبدو أنها ستتعرض لبعض التغيرات الجذرية خلال المرحلة المقبلة، حتى إن تأخرت بفعل ضغوط الاقتصاد، فما كان قبل معركة جنرالات السودان لن يكون كما بعده.