يتوهم البعض أن العهد العثماني لمصر، كان كله تدهور وتخلف وضعف في الجانب العلمي، وأن الدولة العثمانية حين امتد حكمها إلى مصر، سعت للتقليل من مكانة الأزهر في العالم الإسلامي، وحولته من المركز إلى الهامش، فصار تابعًا بعد أن كان متبوعًا.
هذه الاتهامات لا تقف عند هذا الحد، فالبعض يُشيع بأن الدولة العثمانية اخترعت منصب “شيخ الأزهر” بهدف القضاء على المدارس الفقهية الأخرى المخالفة لمذهب الدولة الرسمي، والكثيرون يتصورن أن مصر حاليًا يغلب عليها المذهب الحنفي بسبب فرضه من الدولة العثمانية!
لماذا ابتكر العثمانيون منصب “شيخ الأزهر”؟
في الواقع، اعتمدت الدولة العثمانية في سياستها على اللامركزية، ورعت ظروف كل فئة في المجتمع، لذا امتاز العصر العثماني بأنه “عصر الجماعات”، فكل فئة في المجتمع كان من حقها المحافظة على أوضاعها وعاداتها في حرية ودون تدخل من الدولة، بل ويكون لها رئيس منتخب يمثلها ويدافع عن حقوقها أمام السلطة، لتشكل الدولة العثمانية بذلك توازنًا رائعًا بين العناصر المجتمعية والإدارة الحاكمة.
وخلال السنوات الأولى من الحكم العثماني، اندمجت طوائف المجتمع المصري في بنيان الدولة العثمانية، ونمت الحرف والمؤسسات التعليمية بأشكالها المختلفة، وظهر لكل طائفة شيخ يمثل مصالحها أمام السلطة، وبالتالي فإن ظهور منصب شيخ الأزهر جاء متصلًا بالتغيرات التي كانت مصر تشهدها خلال النصف الأول من القرن السادس عشر، مثلما يوضح الدكتور حسام عبد المعطي، في دراسته “شيخ الجامع الأزهر في العصر العثماني” المنشورة بمكتبة الإسكندرية.
في الحقيقية، ابتكار العثمانيين لمنصب شيخ الأزهر جاء بهدف أن يكون حلقة وصل بين السلطة واحتياجات ومطالب العلماء والطلبة في الأزهر، أي لسان حال أهل الأزهر في الأروقة السياسية، وهذا يدل على أن نظرة الدولة العثمانية للأزهر كانت نظرة تقدير للعلم وأهله، مع الأخذ في الاعتبار أن الأزهر في بداية العهد العثماني لم يكن المؤسسة العلمية والدينية الأولى في القاهرة.
ويعتقد الدكتور حسام عبد المعطي بناءً على اطلاعه على سجلات المحاكم الشرعية وسجلات الباب العالي، أن اختيار أول شيخ للأزهر كان في فترة السلطان سليمان القانوني، وأول من تقلد مشيخة الأزهر هو الشيخ الشافعي أحمد عبد الحق السنباطي في أوائل القرن السادس عشر، وهذا بعكس الرأي الشائع بأن الشيخ عبد الله الخرشي المالكي المذهب هو أول من تولى هذا المنصب عام 1679.
من الذي كان يختار شيخ الأزهر؟
كما ذكرنا، فقد تفهمت الإدارة العثمانية أحوال كل طائفة اجتماعية، لذلك لم تتدخل السلطة في اختيار شيخ الأزهر، دون أن يعني هذا وجود استثناءات قليلة جدًا لهذه القاعدة، فكان اختيار شيخ الأزهر يعتمد بالأساس على انتخاب وتأييد العدد الأكبر من كبار المدرسين والطلبة وشيوخ الأروقة التي كانت بمثابة الكليات.
ولم تكن سعة العلم فقط أو كبر سن العالم وتركه مؤلفات كبيرة سببًا لاختياره شيخًا للأزهر، فلا بد أن يكون شخصية قوية على قدر من الوقار والإجلال ورجاحة العقل وحجة الإقناع، وقادرًا على تمثيل الأزهر في الأروقة السياسية، بجانب قوته في الحق ودفاعه عن حقوق المدرسين والطلبة، وقدرته أيضًا على الفصل في المنازعات، والأهم أن يحظى بقبول كبار العلماء وبحب واحترام الجميع.
هذا الجو من الحرية والاستقلال، ولّد حالة من التنافس بين العلماء من كل المذاهب الفقهية لتولي مشيخة الأزهر، خصوصًا العلماء الذين لم يخفوا طموحهم إلى منصب المشيخة، حيث يروي لنا الجبرتي أن الشيخ العريشي “حدثته نفسه بمشيخة الأزهر إذ هي أعظم مناصب العلماء”، ويروي أيضًا قصة الصراع الذي جرى على منصب المشيخة بين أنصار الشيخ أحمد النفراوي وأنصار الشيخ عبد الباقي القليني عام 1709.
محمد علي رفض اختيار العلماء والطلاب، ولأول مرة في تاريخ منصب شيخ الأزهر، قرر أن يتدخل في شؤونه ويحاصره ويحرم علماءه من امتيازاتهم
وهناك بعض الشيوخ عزلوا أو تركوا المشيخة، ومنهم من ظل في منصب المشيخة حتى الممات، وقد ظل منصب شيخ الأزهر يختاره العلماء والطلاب منذ تأسيس المنصب حتى العام 1812، حين وجه محمد علي باشا ضربةً قاسمةً للأزهر عندما ألغى انتخاب شيخه، وكان الأزهريون قد انتخبوا الشيخ محمد المهدي عام 1812 ليكون شيخًا للأزهر خلفًا للشيخ عبد الله الشرقاوي.
لكن محمد علي رفض اختيار العلماء والطلاب، ولأول مرة في تاريخ منصب شيخ الأزهر، قرر أن يتدخل في شؤونه ويحاصره ويحرم علماءه من امتيازاتهم، ويعين شيخًا يكون معبرًا عن مصالح السلطة الحاكمة أكثر من مصالح الأزهر والجماهير، ومنذ ذلك الوقت أصبح الحاكم هو من يعين شيخ الأزهر.
وبحسب الدكتور حسام عبد المعطي، “كانت حادثة عزل محمد علي للشيخ المهدي الذي اختاره الأزهريون، وتعيين الشيخ الشنواني بدلًا منه، بداية تراجع دور الأزهر المجتمعي بشكل كبير، فمنذ الآن فصاعدًا حُجم دور النخبة الأزهرية وأصبح الأزهر مؤسسة تعليمية من ضمن مؤسسات الدولة الأكثر ولاءً للسلطة، ولم يعد ملجأ للجماهير الغاضبة أو الثائرة ضد السلطة كما كان”.
وخصوصًا بعد أن وجه الباشا ضربته الثانية للموارد المالية للأزهر، وضم الجزء الأكبر من أوقافه إلى خزينة الدولة، وجعل الدولة من تتولى دفع مرتبات مشايخ الأزهر، ما أفقده الاستقلال الذي كان يتمتع به، وبذلك أصبح العلماء أداة طيعة في يد السلطة.
وقد لاحظ المستشرق إدوارد وليام لاين عندما جاء إلى القاهرة في أوائل القرن التاسع عشر أثر سياسية محمد علي وحرمانه الأزهر من أوقافه، فقال: “منذ أن نُزعت ملكية الأراضي التي كانت مملوكة للأزهر، قل عدد الطلبة الذين ينتمون إلى الأروقة بشكل ظاهر”.
ما دور شيخ الأزهر؟
لا بد أولًا من التفريق بين منصب “ناظر الأزهر” و”شيخ الأزهر”، فالأول يتولى الشؤون المالية والإدارية فقط، ولا يشترط فيه أن يكون عالمًا، أما شيخ الأزهر فكان يشرف على كل الشؤون التعليمية في الأزهر ويفصل في المنازعات بين الطلبة والمدرسين، وشيخ الأزهر أيًا كان مذهبه يكون المفتي الأكبر لمذهبه.
كما جاء على رأس مهام شيخ الأزهر، إشرافه على الأوقاف التي اشترط أصحابها أن يشرف عليها والنظر في احتياجات العلماء ورعاية الطلاب الوافدين إلى الأزهر والمجاورين له من الفقراء، ويوضح ذلك كلام شيخ الأزهر الشيخ الشبراوي عندما قال: “نحن لسنا أعظم علمائها، وإنما المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام”.
لذلك كان منصب شيخ الأزهر شاقًا، يأخذ معظم يوم الشيخ، فقد كان يتوجب عليه الذهاب إلى الأزهر من الفجر ثم يظل موجودًا فيه حتى صلاة العشاء، لذا كان عدد كبير من مشايخ الأزهر يشترون منازل قريبة من الجامع الأزهر في أثناء توليهم المشيخة.
المتأمل للثورات التي حدثت في العهد العثماني ضد المماليك أو الوالي العثماني، يجد أن شيوخ الأزهر وقفوا في صفها الأول
كذلك لم يكن شيخ الأزهر مسؤولًا فقط عن شؤون الأزهر الداخلية، بل كانت لديه أدوار سياسية عدة، فكان يُستفتى في الشأن السياسي، ومع الوقت تزايد نفوذه السياسي بشكل كبير ووصل إلى أقصاه في القرن الثامن عشر، لذلك يقول الجبرتي عن شيخ الأزهر الحفناوي: “وقد كان رحمه الله قطب رحى الديار المصرية، ولا يتم أمر من أمور الدولة وغيرها إلا باطلاعه وإذنه”.
أيضًا كان شيخ الأزهر يتدخل لحل مشاكل وهموم الناس، خصوصًا مشاكلهم مع السلطة، وكان يصل لحد أن يملي شروطه على الولاة والمماليك، وأن يشترط عليهم عدم فرض أي ضريبة جديدة على القاهرة إلا بعد أن يقررها العلماء والأعيان.
ويتدخل أيضًا للفصل بين الأمراء بعضهم البعض، وفي أحيان عديدة يتوسط لدى الوالي العثماني للعفو عن المماليك، وكان أيضًا صاحب نفوذ قوي في منظومة الحكم، حيث كان عضوًا في الديوان الكبير بالقاهرة، الذي يعقد برئاسة الباشا العثماني أو نائبه في كل أسبوع لمناقشة التطورات السياسية والاقتصادية في البلد.
وقد لعب العديد من مشايخ الأزهر دورًا كبيرًا في الوقوف ضد ظلم السلطة ومعارضة الضرائب الباهظة والأساليب المتبعة في جبايتها، وكثيرًا ما كانوا يكتبون شكواهم ضد المماليك أو الوالي ويرسلونها مباشرة إلى الإدارة المركزية بإسطنبول.
ومن المبهر أن السلطنة العثمانية كانت تستجيب لمطالب شيوخ الأزهر في معظم الأحيان، والمتأمل للثورات التي حدثت في العهد العثماني ضد المماليك أو الوالي العثماني، يجد أن شيوخ الأزهر وقفوا في صفها الأول، ولا تخمد الثورة إلا بأخذ الوعود من المماليك أو الوالي بالكف عن ظلم الرعية وإلغاء الضرائب الزائدة، وقد لاحظ الرحالة أوليا جلبي الدور السياسي لمشايخ الأزهر، فقال: “ولا يحدث اضطراب في مصر إلا وخرج علماء الأزهر ثائرين”.
كيف كانت مكانة الأزهر وشيخه في العهد العثماني؟
لم يعرف الأزهر اهتمامًا من المماليك باستثناء السلطان قايتباي، ومن الجدير بالإشارة أن غالبية الشواهد التاريخية تؤكد على أن التطور الأكبر للأزهر وارتفاع مكانته تنامت وترسخت أيام العثمانيين، حيث تشير الدلائل إلى أن الأزهر عند نهاية العصر المملوكي لم يكن له دور تعليمي رائد، فلم يكن أهم مؤسسة تعليمية في مصر، فكانت هناك العديد من المدارس التي تعلوه قامة وقيمة مثل المدارس الصالحية وصرغتمش والطبرسية والأقبغاوية.
في حقيقة الأمر، ساهم العثمانيون في جعل الأزهر أهم مؤسسة تعليمية ودينية في العالم الإسلامي، واكسبوه طابع العالمية، نذكر على سبيل المثال من صور الدعم العثماني: زيادة الأوقاف والمخصصات المالية، حيث كان الأزهر المؤسسة العلمية والدينية الأولى في مصر التي لاقت دعمًا سخيًا من السلاطين العثمانيين خصوصًا السلطان سليمان القانوني، بجانب الولاة والأمراء.
الأمر الذي جعل الأزهر أعلى سلطة دينية في مصر وطغى تدريجيًا على المدارس الأخرى التي أصبحت تابعة له، وقد تميزت هذه الأوقاف بالاستمرارية المتزايدة طوال العصر العثماني، لذا يصف الرحالة أوليا جلبي أوقاف الأزهر بأنها “أكبر أوقاف القطر المصري”.
كذلك دأب العثمانيون على ترميم وتوسعة الأزهر، ومما يدل على اهتمامهم بالحياة العلمية وبأدق تفاصيل الحياة اليومية للطالب، ما قام به الوالي محمد باشا من ترميم الأزهر وإنشاء مطبخ لتوفير وجبات الطعام اليومية للشيوخ والطلاب، ويبدو أن هذا الأمر ترك أثرًا إيجابيًا عند الأزهريين، ويحكي الراحلة أوليا جلبي عند زيارته لمطبخ الأزهر، فيقول: “لجميع الفقراء من طلبة الأزهر رزق مقرر من مطبخ الله صباحًا ومساءً، وهو صحن من حساء الأرز والعدس ورغيف خبز، وفي كل ليلة جمعة يقدم إليهم الأرز واللحم”.
حظي شيخ الأزهر باحترام فائق ومكانة عالية تُشير إليها صيغ المخاطبة التي كان يُخطب بها من العثمانيين، ومنها “ساداتنا العلماء – مفتي السادة – قاضي محكمة الباب العالي – شيخ الجامع الأزهر”
وفي الواقع، كان لتجديد الأزهر وتوسعته دور في انتعاشه، لذلك يروي لنا الرحالة التركي أوليا جلبي الذي بقي في مصر مدة ثماني سنوات خلال القرن السابع عشر، أن الأزهر هو أعظم جوامع مصر، فيقول:
“ليس في مصر جامع له ما للأزهر من جماعة، إذ هو واقعٌ في عَين فعل مصر، فهو مزدحم بالناس ليلًا ونهارًا، فلا تجد فيه موضعًا للسجدة، يجتمع فيه اثنا عشر ألف طالب ليل نهار، وتطِنُ أصواتهم كأصوات النحل مما يدهش الإنسان، وقد انهمكوا في مباحثات علمية”.
وجاء الإصلاح الأكبر في عمارة الأزهر على يد الأميرين عثمان كتخدا ومن بعده عبد الرحمن كتخدا، الأول رمم رواق الأتراك والسليمانية، وزاد في رواق الشوام، والثاني ضاعف مساحة الأزهر وأجرى فيه توسعات عظيمة، فاق فيها كل من سبقوه، ومن شدة حبه للأزهر، أوصى بأن يدفن فيه.
ومن أهم ما قام به عبد الرحمن كتخدا في الأزهر، إعادة إعماره بالكامل، وتشييد محراب ومنبر ورواقين، رواق الهنود ورواق الدكارنة تعلو أحدهما مدرسة ويعلو الآخر مئذنة، كما زود الأزهر بالمكتبات وقاعات المطالعة والمطابخ، وأماكن سكنية للعلماء والطلاب، ووقف الأموال اللازمة للإنفاق على الطلبة.
في الواقع، عبد الرحمن كتخدا هو أهم المصلحين في مصر خلال العهد العثماني، ويذكر المؤرخ الجبرتي أنه كان مغرمًا بأعمال الخير، لذا أنفق أمواله الضخمة على إنشاء العديد من الأسبلة والكتاتيب والمدارس والمساجد بالقاهرة، ويبدو أنه ورث هذا الأمر عن أبيه الذي بنى مدرسة للعميان في الأزهر.
لذلك عنما مات عبد الرحمن كتخدا عام 1776 سار في جنازته العلماء والطلاب والفقراء وجم غفير من مختلف طبقات الشعب المصري، وصلوا على جثمانه ودفنوه في الأزهر، ولم تجر من بعده توسعات مهمة في الأزهر، ويقول الجبرتي وهو يعدد منشآت عبد الرحمن كتخدا بالقاهرة “ولو لم يكن له من المآثر إلا ما أنشأ بالجامع الأزهر من الزيادة والعمارة التي تَقصُرُ عنها همم الملوك لكفاه ذلك”.
أما شيخ الأزهر، فقد حظي باحترام فائق ومكانة عالية تُشير إليها صيغ المخاطبة التي كان يُخطب بها من العثمانيين، ومنها “ساداتنا العلماء – مفتي السادة – قاضي محكمة الباب العالي – شيخ الجامع الأزهر”.
وبعد أن يتم انتخاب شيخ الأزهر، كان الوالي يقيم حفلة كبيرة للاحتفال به في حضور كبار رجال الدولة، ويُلبس الوالي شيخ الأزهر الرداء الرسمي الذي يسمى “فروة سمور”، هذا الإجراء بمثابة إقرار من السلطة بتوقير شيخ الأزهر والموافقة على ما اختاره العلماء والطلبة شيخًا للأزهر.
الإدارة العثمانية لم تحاول كسر شوكة شيوخ الأزهر، ولم تمانع أصلًا ممارسة هؤلاء الشيوخ للسياسة وتحريك الرأي العام، وتدخلهم المستمر في الشؤون العامة والسياسية، وقيادتهم للثوار والمظلومين
ومن المهم الإشارة إلى أن الإدارة العثمانية كانت دئمًا تتبنى سياسة التفاهم مع مشايخ الأزهر، حتي إن حدثت خلافات بين الوالي وشيخ الأزهر، فقد كانت الإدارة المركزية تميل في الأغلب إلى جانب شيخ الأزهر
فعلى سبيل المثال، يروي الشيخ أحمد بن سعد الدين العثماني في كتابه الشعري “ذخيرة الأحلام بتواريخ الخلفاء والعلماء وأمراء مصر الحكام وقضاة قضائها في الأحكام” أن خلافًا حدث في بداية الحكم العثماني لمصر بين شيخ الأزهر السنباطي والوالي العثماني داود باشا الذي كان مملوكًا للسلطان، وكان الخلاف بسبب رأي الشيخ السنباطي في أن أحكام الوالي باطلة لأنه لم يحصل على عتقه وحريته، فاستشاط الباشا غضبًا من الشيخ، وأرسل إلى السلطان سليمان القانوني نبأ هذه الواقعة.
فما كان من السلطان إلا أن أعتق الوالي، وطلب منه أن يبلغ شكره للشيخ السنباطي، فذهب إليه الوالي وحاول أن يقدم إليه هدية وبعض المال، فلم يقبل الشيخ منه شيئًا، لكن الباشا منذ ذلك الحين أصبح لا يرد للشيخ السنباطي رأيًا ولا يرفض له شفاعة.
وأيضًا عندما أراد مشايخ الأزهر أكثر من مرة تعيين محمد علي واليًا على مصر، رغم أن السلطة المركزية لم تكن راغبة في هذا التعيين، فإنها نزلت على رغبة وإلحاح مشايخ الأزهر، وهذا في الواقع يدلنا على المكانة الكبيرة التي وصل لها مشايخ الأزهر في العهد العثماني، وأن علماءه لم يخفت دورهم ولم يكونوا أدوات بيد السلطة.
بل من اللافت والمثير للإعجاب أن الإدارة العثمانية لم تحاول كسر شوكة شيوخ الأزهر، ولم تمانع أصلًا ممارسة هؤلاء الشيوخ للسياسة وتحريك الرأي العام، وتدخلهم المستمر في الشؤون العامة والسياسية، وقيادتهم للثوار والمظلومين من أجل الدفاع عن حقوقهم والضغط على السلطة في أوقات انحرافها.
لذا فإن المتأمل في تاريخ الأزهر خلال العهد العثماني، يخرج بنتيجة قاطعة بأن هذا العهد كان أزهى الفترات في تاريخ المؤسسة الأزهرية، واللافت حقيقة أن شيوخ الأزهر لم يكونوا يومًا في حالة خصام مطلق ضد الإدارة العثمانية، حتى خلال أوقات الأزمات السياسية والاقتصادية، ما يدل على إدراك كل طرف لطبيعة دور الآخر.
هل فرضت الدولة العثمانية المذهب الحنفي على الأزهر؟
في حقيقة الأمر، نأت الدولة العثمانية عن التدخل في الشؤون الدينية الخاصة، واعتبرتها شأنًا داخليًا، ولم تحاول إعلاء مذهبها الرسمي على المذاهب الأخرى أو فرض مرشح من المذهب الحنفي على مشيخة الأزهر، بجانب أن القضاة داخل المحاكم العثمانية كانوا يستخدمون فقه المذاهب الأربع وليس المذهب الحنفي فقط.
ورغم أن المذهب الحنفي تزايدت أهميته خلال العهد العثماني، لكنه لم يطغ يومًا على المذاهب الأخرى، يؤكد ذلك أن غالبية من تولوا مشيخة الأزهر لم يكونوا من المذهب الحنفي، ومن الأمور اللافتة للنظر أن جميع من تولى منصب مشيخة الأزهر في العهد العثماني كانوا من أصل مصري، والعديد منهم ينحدر من الريف.
وبحسب دراسة الدكتور حسام عبد المعطى، فقد تولى مشيخة الأزهر في العصر العثماني من 1538 – 1812، 29 شيخًا، منهم 20 شيخًا على المذهب الشافعي و6 على المذهب المالكي و2 فقط من المذهب الحنفي وواحد من المذهب الحنبلي.