استضافت جدة السعودية، السبت 6 مايو/أيار 2023، أولى مباحثات طرفي الصراع في السودان، ممثلي القوات المسلحة وممثلي قوات الدعم السريع، منذ بدء الحرب منتصف أبريل/نيسان الماضي، وسط حالة من التفاؤل بأن تسفر مخرجات الجولة الأولى من المفاوضات بين الجانبين عن تخفيف التوتر المشتعل ووقف حالة الحرب المستعرة التي أسفرت عن مقتل وإصابة الآلاف وتشريد عشرات الآلاف إلى دول الجوار.
وحثت السعودية والولايات المتحدة في بيان مشترك لهما كلا الطرفين “على استشعار مسؤولياتهما تجاه الشعب السوداني، والانخراط الجاد في هذه المحادثات، ورسم خريطة طريق للمباحثات لوقف العمليات العسكرية، وتأكيد إنهاء الصراع، وتجنيب الشعب السوداني التعرض للمزيد من المعاناة، وضمان وصول المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة”.
وبحسب البيان الصادر عن الخارجية السعودية عقب انتهاء الجلسة الأولى من المباحثات فقد “أعرب الطرفان عن تحملهم لمسؤولية رفع المعاناة عن الشعب السوداني، بما يتضمن الوصول لاتفاق على الاجراءات الأمنية لتيسير وصول المساعدات الإنسانية العاجلة واستعادة الخدمات الضرورية لمن هم في حاجة لها، وقد شرع الطرفان في مراجعة إعلان الالتزام بحماية المدنيين وتيسير واحترام العمل الإنساني في السودان، وقد بدأ الطرفان أيضاً مناقشة الاجراءات الأمنية التي عليهما اتخاذها من أجل تسهيل وصول المساعدات الإنسانية العاجلة واستعادة الخدمات الضرورية بما يتفق وإعلان المبادئ”
وفي مطلع الشهر الحاليّ أعلن عضو مجلس السيادة السوداني شمس الدين الكباشي عن حضور “محادثات مباشرة” في مدينة جدة السعودية لبحث تنفيذ هدنة إنسانية في بلاده، بمشاركة ممثلين عن حميدتي، كاشفًا أنه “كان هناك حديث غير مباشر (بين الجيش والدعم السريع) من عدة أيام، وتم الاتفاق أن تنقل هذه المحادثات عبر مبادرة سعودية أمريكية إلى مباشرة في جدة، ولن نتحدث هناك إلا على نقطة واحدة، هي الهدنة والعمل الإنساني، وربما نطور ذلك”.
المباحثات لاقت ترحيبًا كبيرًا من الآليات الإقليمية والدولية المعنية بالملف السوداني، بجانب القوى المدنية السودانية الموقعة على الاتفاق الإطاري التي أعربت عن أملها في أن تقود تلك المفاوضات لوقف القتال والخروج من النفق المظلم الذي يحياه السودانيون منذ منتصف الشهر الماضي.. فهل تحرك جولة جدة المياه الراكدة في معركة الجنرالات؟
#وزارة_الخارجية : باستضافةٍ كريمة من المملكة .. بدأت يوم السبت 6 مايو في جدة محادثات تمهيدية بين ممثلي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.https://t.co/O5926ejq3X#واس_عام pic.twitter.com/4aFhDgg6Dv
— واس العام (@SPAregions) May 7, 2023
لقاءات على حدة
فُرض حالة من التعتيم على كواليس المباحثات ابتداءً، فلم تتطرق المملكة ولا غيرها من الدول الداعمة لتلك المباحثات لجدول أعمال هذه الجولة من المفاوضات التي تمت دون خريطة طريق محددة، فيما كانت اللقاءات مع ممثلي الطرفين المتصارعين على حدة، فمن المستبعد جلوسهما على مائدة واحدة في ظل تشبث كل طرف بموقفه الرافض لوقف القتال دون هزيمة الطرف الآخر.
من جانبه شدد مبعوث البرهان في تلك المفاوضات، السفير دفع الله الحاج، على رفضه أي مقترحات تتعلق بالمصالحة مع قوات الدعم السريع، لافتًا في مقابلة له مع قناة “العربية” إلى أن أولوية الجيش تكمن في حسم المعركة والإطاحة بحميدتي وقواته، مؤكدًا في الوقت ذاته على أن وفد الجيش لن يلتقي في جدة بشكل مباشر بوفد الدعم السريع.
وتبذل الرياض وواشنطن جهودًا دبلوماسيةً مكثفةً لتقريب وجهات النظر بين الطرفين، حيث تلقى وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، أول أمس الجمعة 5 مايو/أيار الحاليّ، اتصالًا هاتفيًا من نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن، أكدا خلاله أهمية وقف التصعيد، مستعرضين مستجدات المبادرة السعودية الأمريكية لتمهيد الأرضية اللازمة للحوار بما يضمن أمن واستقرار السودان وشعبه الشقيق، حسبما جاء في البيان الصادر عن الخارجية السعودية.
ترحيب محلي وإقليمي ودولي
المباحثات في ظل هذا الظرف الاستثنائي لاقت ترحيبًا من معظم الأطراف، حيث أشاد حميدتي في بيان له نشره على حسابه على تويتر بـ”الجهود الإقليمية والدولية المبذولة للوصول إلى وقف إطلاق نار يسهل فتح ممرات إنسانية تمكن المواطنين من الحصول على الخدمات الأساسية”، مضيفًا: “إننا متمسكون بموقفنا الثابت والمعلن بضرورة الوصول إلى حكومة انتقالية مدنية تؤسس إلى تحول ديمقراطي مستدام، يحقق تطلعات شعبنا في الأمن والاستقرار والتنمية”.
كما رحبت القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري بتلك المباحثات، بما يمهد الطريق لحل سلمي سياسي مستدام، معتبرة في بيان لها أنها “تشكل خطوةً أولى لوقف الانهيار المتسارع الذي شهده السودان منذ اندلاع الحرب منتصف أبريل/نيسان الماضي”، ومعربة عن أملها في أن تنتصر قيادتا الجيش والدعم لصوت الحكمة وتوقف القتال، وإنهاء المعاناة التي يعيشها الشعب جراء الحرب.
إقليميًا.. رحبت مصر ببدء المحادثات، مشيدة بجهود المملكة وكذلك الجهود الإقليمية والدولية التي أسهمت في تشجيع الأطراف السودانية على بدء الحوار، وقد أعربت الخارجية المصرية في بيان لها عن تطلعها بأن تسفر تلك الجولة “عن وقف شامل ودائم لإطلاق النار، يحفظ أرواح ومقدرات الشعب السوداني، وييسر وصول المساعدات الإنسانية والإغاثية للمتضررين”.
مباحثات الإنقاذ الإنساني
يعد هذا اللقاء هو الأول من نوعه بين الطرفين بعد العديد من الهدن التي تم الاتفاق عليها، لكنها منيت بالخرق من جانب الطرفين، في ظل تحميل كل طرف مسؤولية التجاوز للطرف الآخر، الأمر الذي دفع المجتمع الدولي وبعض القوى الإقليمية نحو الترتيب لمباحثات مشتركة تجمعهما على طاولة واحدة لإنقاذ الوضع الإنساني قبل تفاقمه.
الواضح أن الهدف الأبرز من تلك المفاوضات إيجاد حل عاجل للأزمة الإنسانية المتفاقمة جراء الحرب، كما ذهب السفير الأمريكي السابق في السودان تيموثي كارني الذي استبعد استهداف المباحثات الوصول لحل شامل للأزمة السودانية، موضحًا – في حديثه لبرنامج “ما وراء الخبر” (2023/5/6) المقدم على “الجزيرة” – أن هناك مرحلتين لهذه المباحثات، الأولى تلك التي بدأت السبت 6 مايو/أيار 2023 وتستهدف خلق ممرات إنسانية للتعامل مع الاحتياجات الإنسانية للشعب السوداني، وقد وصفها بأنها “مرحلة ما قبل المفاوضات”، منوهًا أن تلك الجولة لن تناقش الجوانب العسكرية والسياسية للنزاع، لكنها تمهد لمسار جديد من المفاوضات يمكن أن يتسع ليشمل جميع الأحزاب المدنية السودانية.
وبعيدًا عن انحصار تلك المفاوضات في الجانب الإنساني، يرى الدبلوماسي الأمريكي أن من إيجابيات تلك الخطوة أنها تستند إلى حديث مباشر بين الطرفين، بدلًا من الحديث المنفرد لكل طرف على منصات التواصل الاجتماعي وعبر وسائل الإعلام، لافتًا أن هذا يعد تطورًا في الموقف من الممكن أن يفتح مجالًا للاستمرار في المفاوضات الدبلوماسية، وصولًا إلى وقف شامل لإطلاق النار.
ويرى كارني ضرورة تشديد الضغوط على جنرالات السودان لوقف القتال، معربًا عن اتفاقه الكامل مع تهديدات واشنطن بفرض عقوبات على قادة عسكريين في السودان حال عدم استجابتهم للمبادرات السياسية المطروحة، مطالبًا المجتمع الدولي بمزيد من الضغوط لدفع الجميع نحو طاولة المباحثات وتغليب لغة الحوار على أصوات الرصاص التي تزهق يوميًا عشرات القتلى وتشرد الآلاف من أبناء السودان.
من جانبه أكد الفريق أول فتح الرحمن محيي الدين، قائد قوات البحرية السودانية سابقًا، أن ممثلي الجيش لم يذهبوا إلى جدة إلا من أجل تحسين حياة المواطن ومعالجة الأزمة الإنسانية، وعلى العكس تمامًا قال الكاتب السوداني حافظ كبير إن هذا ليس الهدف الوحيد، كما أنه لا يستحق الذهاب إلى جدة بوفود رسمية للتباحث، إذ كان يمكن الاتفاق على ذلك عبر وساطات دولية.
مؤكدًا في حديثه لبرنامج “ما وراء الخبر” أن الهدف الأساسي لتلك الجولة وما صاحبها من زخم كبير هو الوصول إلى اتفاق نهائي، يقود إلى معالجة أسباب الصراع الحاصل وليس تداعياته، منوهًا أن عدم معالجة الأسباب التي قادت إلى المشهد الحاليّ ستطيل أمد المعركة والنزاع حتى لو تم تبريده ببعض المسكنات الوقتية، في ظل أجواء عدم الثقة التي تخيّم على الجيش وقوات الدعم.
وتحذر الأمم المتحدة من مغبة الحرب على الوضع الإنساني السوداني، لافتة أن أكثر من 19 مليون شخص سيعانون من الجوع وسوء التغذية خلال الأشهر المقبلة إذا استمر المشهد بصورته الحاليّة، فيما يتوقع برنامج الأغذية العالمي أن يرتفع عدد الأشخاص الذين يعانون فقدانًا حادًا في الأمن الغذائي بالسودان ما بين مليونين و2.5 مليون شخص.
ويعاني قرابة 16.8 مليون من إجمالي عدد سكان السودان المقدر بـ45 مليون نسمة، من انعدام حاد في الأمن الغذائي، وفق تقرير البرنامج مطلع 2023، كما حذرت الأمم المتحدة من أن ولايات غرب دارفور وكردفان والنيل الأزرق وولاية البحر الأحمر وشمال دارفور قد تشهد مجاعات تودي بحياة الملايين إذا استمر شبح الحرب يخيم على الأجواء.
نذر مجاعة تحل بأهل #السودان في ظل النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع pic.twitter.com/azeJeeZcTG
— قناة الجزيرة (@AJArabic) May 7, 2023
التمهيد للحل الدبلوماسي
تحاول الرياض من خلال تلك المباحثات استعادة وتعزيز حضورها الإقليمي والدولي، معتبرة أن الأزمة السودانية ربما تكون الجسر الأكبر نحو تعميق النفوذ السعودي داخل القارة الإفريقية بعد سنوات من التراجع لحساب قوى إقليمية أخرى، ومن ثم فهي تسعى لإحداث اختراقات جذرية في جدار الحرب الصلب.
وتبارك واشنطن المساعي السعودية الدبلوماسية تلك في محاولة لإعادة التناغم بين البلدين وتلطيف الأجواء بعد أشهر من الجفاء بسبب تحفظ الرياض على توجهات الإدارة الأمريكية في التعامل مع المملكة في بعض الملفات، وهي التوجهات التي دفعت السعودية للتغريد بين الحين والآخر عكس الهوى الأمريكي خاصة في مجال الطاقة الذي يمثل أهمية كبرى في قائمة أولويات الأمريكان لا سيما بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي كان لها تداعياتها العكسية على سوق الطاقة العالمي.
وتحاول الرياض استغلال نفوذها، الاقتصادي والسياسي، لإحداث أي تقدم في هذا المسار، يعزز من حضورها الدبلوماسي الدولي، فبعد سلسلة مطولة من المبادرات الإقليمية والعربية والإفريقية لم يستجب لها طرفا الحرب في السودان، ها هما يستجيبان بشكل مباشر للمبادرة السعودية الأمريكية، وهو ما دفع وزير الخارجية السعودي للتفاؤل بشأن “أن يقود هذا الحوار إلى إنهاء الصراع وانطلاق العملية السياسية وعودة الأمن والاستقرار إلى جمهورية السودان”.
من المبكر لأوانه اختبار وتقييم تلك الجولة وقدرتها على الصمود في مواجهة الاختراقات الفجة للهدن السابقة، كما أن الأمر لا يتعلق فقط برغبة الرياض ولا استمالة واشنطن، فهناك قوى أخرى لها نفس الحظوظ داخل المعركة، ومن الصعب تجاهلها، وعليه فإن الرهان عليها في حلحلة الأزمة تفاؤل في غير محله، فالأمر قد لا يخرج عن تعهد ثنائي من الطرفين بالالتزام بأي هدنة يتم الاتفاق عليها لإنقاذ الوضع الإنساني المتفاقم.
أما فيما يتعلق بوقف القتال بشكل نهائي فكل المؤشرات تذهب إلى أن الحرب من الصعب أن تنتهي في الوقت الحاليّ، إلا عبر أدوات وإستراتيجيات من الصعب اللجوء إليها في الوقت الحاليّ تجنبًا لإشعال المنطقة برمتها.