حاول أن تقوم بجولة في تونس – في المقاهي أو الأسواق أو الشوارع – واسأل عن أسماء الوزراء والمسؤولين الكبار في الدولة بعد 25 يوليو/تموز 2021، من الصعب أن تجد تونسيًا يعرف اسم وزير أو اثنين، نظرًا لضعف أدائهم، فضلًا عن كثرة التعيينات والإقالات.
لا يقتصر الأمر على الشارع، فالمسألة نفسها بالنسبة للسياسيين و”النخبة”، فما إن تحفظ اسم الوزير أو المسؤول حتى يسارع الرئيس قيس سعيد لإقالته دون توضيح أسباب القرار، رغم أنه من عينه في البداية.
هذا الأمر، دفع العديد من التونسيين للتساؤل عن سبب الإقالات المتكررة في صفوف الفريق الأول للرئيس سعيد، هل نتيجة عدم الكفاءة أم خشية من نجاحهم وسرقة الأضواء من الرئيس أم لعلّه خطأ في التقدير منذ البداية؟
إقالات متكررة
يوم 25 يوليو/تموز 2020، فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيد أغلب الأحزاب السياسية والمتابعين للشأن العام في البلاد، بتكليفه وزير الداخلية حينها هشام مشيشي بتشكيل حكومة جديدة، خلفًا لحكومة إلياس الفخفاخ، والمشيشي في ذلك الوقت كان من الدائرة المقربة للرئيس، إذ عمل سابقًا مستشارًا قانونيًا لسعيد.
لكن سرعان ما ساءت العلاقة بين الطرفين، وعمل سعيد جاهدًا لإقصاء المشيشي وهو ما تم بالفعل بعد سنة من التعيين، حيث تمت إقالته بطريقة مهينة، حتى إن بعض التقارير تحدثت عن تعرض المشيشي لاعتداءات جسدية في قصر قرطاج ليلة إقالته.
لم تكن هذه الإقالة الوحيدة في صفوف فريق سعيد، فقد استبعد العديد من الدبلوماسيين الذين عينهم بنفسه، دون أن يقدم الأسباب وراء ذلك، من بينهم سفير تونس في الأمم المتحدة الذي تم تغييره في عهد سعيد أكثر من مرة.
مست الإقالات وزراء حكومة نجلاء بودن، وآخر هذه الإقالات كانت من نصيب وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة نائلة نويرة القنجي، وشغلت هذه الأخيرة مهمة وزارة الصناعة منذ شهر سبتمبر/أيلول 2021، تاريخ تعيين حكومة نجلاء بودن.
تعدد الإقالات في صفوف أصدقاء الرئيس يعكس فشل سعيد في إدارة الحكم وحالة العزلة السياسية والمجتمعية التي يعيشها
قبل ذلك، أقال سعيد 6 وزراء خلال شهرين فقط، ففي 7 يناير/كانون الثاني الماضي، أعفى وزيرة التجارة وتنمية الصادرات فضيلة الرابحي من مهامها، وفي 30 من الشهر نفسه، أجرى سعيد، تعديلًا آخر على الحكومة بإقالة وزيري التعليم فتحي السلاوتي والزراعة محمود إلياس حمزة.
وفي 7 فبراير/شباط الماضي، أقال وزير الخارجية عثمان الجرندي، الذي كان يحتفظ بمنصبه منذ تعيينه في حكومة هشام المشيشي عام 2020، وفي 23 من الشهر نفسه، أقال وزير التشغيل والتكوين المهني نصر الدين النصيبي الذي كان يشغل أيضًا منصب الناطق باسم حكومة بودن.
ويوم 17 مارس/آذار، تم استبعاد وزير الداخلية توفيق شرف الدين العضد الأيمن لسعيد، وقبل الإقالة بساعات قليلة قال شرف الدين إنه استقال، لكن يبدو أنها كانت إقالة، فبيان الرئاسة لم يتحدث عن استقالة وإنما عن قرار تنحية من منصب.
فضلًا عن الوزراء تمت إقالة العديد من المحافظين بعد أشهر أو أيام قليلة من تعيينهم، على غرار محافظ صفاقس فاخر الفخفاخ الذي سبق أن دعا قيس سعيد إلى إغلاق الفيسبوك، إلى جانب العديد من المسؤولين في الهيئات والإدارات المركزية.
تخبط سعيد
الملاحظة الأبرز أن جميع هؤلاء المسؤولين عينهم الرئيس قيس سعيد شخصيًا في مناصبهم بناءً على تقييمات سابقة لسيرهم الذاتية وعلى أساس مواقفهم المؤيدة لانقلاب 25 يوليو/تموز 2021، ومع ذلك أقالهم.
إعلان الرئيس عن جملة من الإقالات في فريقه الحكومي، يؤكد التخبط الكبير لدى سعيد الذي لم يعرف عنه قبل وصوله إلى كرسي قصر قرطاج العمل في الشأن السياسي، إذ لا يوجد برنامج عمل واضح يعمل بناءً عليه.
كان هدف سعيد الإطاحة بالبرلمان والحكومة، وما إن تمكن من ذلك وأصبحت كل السلطات تحت أمره حتى عجز عن تسييرها، كان يظن أن الأمر سهلًا لكن الواقع عكس الكلام، فهذا التخبط ينم عن عدم درايته بأمور الحكم وتسيير الدولة.
إقالة وزيرة الصناعة تُذكّر بإطاحة وزراء آخرين في #تونس دون توضيح.. هل تُعاني حكومة #قيس_سعيد من أزمة تنسيق؟ pic.twitter.com/ywy2DDmBlq
— Tunigate – بوابة تونس (@Tunigate) May 8, 2023
ومنذ فرض سيطرته على مقاليد الحكم، عين قيس سعيد أصدقاءه في مناصب كبرى بالدولة دون أن يكون لهم أي تجربة سابقة في العمل، تجربتهم الوحيدة مشاركة الرئيس خلال حملته الانتخابية أو كتابة بعض التدوينات التي عبروا فيها صراحة عن دعمهم اللامشروط لسعيد.
تعدد الإقالات في صفوف أصدقاء الرئيس يعكس فشل سعيد في إدارة الحكم وحالة العزلة السياسية والمجتمعية التي يعيشها، فوضع تونس على حاله، بل إن الأزمات مست كل القطاعات وازدادت حدتها، ويمكن أن تنفجر البلاد في أي لحظة.
ذهاب سعيد نحو ترضية الحاشية وإرضاء الأنصار الأقربين قصد الحفاظ على الحاضنة الشعبية التي بدأت في الانفضاض والتفكك من حوله، لم تنفع ولم تقدم أي إضافة، فشعبية الرئيس في تراجع متواصل، وهو ما يفسر توالي الإقالات.
عدم ثقة في الجميع
فضلًا عن ذلك، تثبت هذه الإقالات المتواترة في صفوف فريق الرئيس، أنه لا يوجد صديق دائم لقيس سعيد، فانعدام الثقة هو سبيله في الحياة، فمجرد تقرير صادر عن جهات أمنية أو سياسية – لم يتأكد من صحته – له أن يتسبب في إقالة وزير أو محافظ.
وسبق أن قال محافظ صفاقس فاخر الفخفاخ إن قرار إقالته “يأتي عقب معلومات مغلوطة وصلت الرئيس عنه”، وهو ما يعني أن قيس سعيد ليست لديه ثقة في الأشخاص الذين يعينهم ويتحرك وفق التقارير الأمنية والسياسية كما كان عليه الوضع زمن بن علي.
المهم عند سعيد أن يكون الآمر الناهي والحاكم بأمره، الذي لا يُرفض له أي طلب مهما كان، حتى يُشبع غروره
نتيجة انعدام الثقة في الجميع، بقيت العشرات من المناصب العليا في تونس شاغرة، إذ مر مثلًا أكثر من سنة على إقالة مديرة الديوان الرئاسي نادية عكاشة، لكن إلى الآن لم يسد شغور هذا المنصب رغم أهميته.
الشغورات مسّت السلك الدبلوماسي أيضًا، إذ يُقدّر عدد المناصب الشاغرة في السلك الدبلوماسي بين سفراء وقناصل بنحو 33 منصبًا، ومس الشغور أيضًا السلطتين القضائية والتنفيذية، فبعض المحافظات تشهد منذ أشهر غيابًا لمنصب المحافظ بعد أن أنهى رئيس الجمهورية مهامهم.
يُذكر أن العديد من الوزراء والمسؤولين علموا بإقالتهم من خلال منصات التواصل الاجتماعي، ما يعني تعمد السلطة إذلالهم واستعدادها للتخلي عن المقربين منها لأي سبب دون مراعاة للقواعد المتعلقة بالإقالات.
#قيس_سعيّد : “لا أحد فوق الدولة ويجب محاسبة كل من أجرم في حق الشعب التونسي”
وهل أبقيت دولة يا قيس؟!
لا مجلس نواب منتخب، ولا مجلس وزراء حقيقي، إقالاتٌ للمسؤولين بالجملة، وتخوينٌ لكل معارضيك!
أنت أكثر من أجرم في حق شعب تونس، والأولى بالمحاسبة.
— فهد (@fahadlghofaili) January 6, 2022
يؤكد هذا الأمر، كما قلنا في البداية، فشل وتخبط وعجز سعيد عن مواجهة الأزمات التي خلقها الانقلاب، وفشله أيضًا في تسيير الدولة رغم سيطرته على كل السلطات، ما من شأنه أن يعمق الأزمة التي تعيشها تونس في أغلب المجالات.