الثروة الطبيعية من أهم مقدرات أي دولة، وبالنسبة لمجموعة صغيرة من دول العالم هي السبب في تمتعهم بوفرة مادية، وسيولة في ميزانيتهم تجنبهم العجز المالي الذي تعاني منه العديد من الحكومات.
هي نعمة بالتأكيد، لكن في الفترة الأخيرة، وجد اقتصاديون احتمال تحولها إلى نقمة، فوجود مصدر سهل المنال كالموارد الطبيعية قد يُصعب أركانًا أخرى من الاقتصاد بسبب غياب التركيز عليها
كما أن حجم تصدير هذه الموارد بإمكانه تغيير قيمة العملة المحلية بشكل يحول دون قدرة قطاعات أخرى، فضلاً عن كون الموارد الطبيعية، وخاصة النفط والغاز الطبيعي، موارد غير متجددة ومصيرها التلاشي.
هل تساءلت يومًا عما سيحدث للدول النفطية عندما تنضب مواردها الطبيعية أو يقل الدخل منها في أوقات الأزمات الاقتصادية؟ وكيف يمكن استثمار الفوائض المالية في أوقات الازدهار لتأمين نفس مستوى الحياة للأجيال القادمة في المستقبل؟
كانت هذه الأسئلة الدافع وراء إنشاء ما يُسمى بـ”صناديق الثروة السيادية” التي تردد صداها في السنوات الأخيرة حتى أصبح العالم يمتلك منها اليوم حوالي 100 صندوق في 70 دولة، تدير ثروة تتجاوز قيمتها 10 تريليون دولار.
ماهية صناديق الثروة السيادية
من الحلول المبتكرة خلال العقدين الأخيرين إنشاء هذه الحكومات الصناديق التي جذبت اهتمامًا عامًا كبيرًا في الآونة الأخيرة، وعُرِّفت على نطاق واسع على أنها أدوات اقتصادية تنشئها الدول لاستثمار مواردها وتدوير عائداتها وفوائضها المالية في مختلف الأوعية الاستثمارية مثل الأسهم والسندات والعقارات والمعادن الثمينة والاستثمارات البديلة الأخرى أو أي أصول أخرى لضمان زيادة قيمتها المستقبلة.
هذه الفوائض المالية، قد يكون مصدرها ميزان المدفوعات أو الميزان التجاري أو عوائد خصخصة شركات حكومية، وليس له علاقة باحتياطات الدولة من العملات الأجنبية التي تكون تحت تصرف السلطات النقدية ممثلة في البنك المركزي الذي يستخدمها في إدارة السياسية النقدية للدولة.
أبسط شرح للصناديق السيادية أنها تشبه تمامًا الصناديق الاستثمارية المملوكة للدولة التي تستثمر في مشاريع وأسواق مالية وشركات، لتحقيق أكبر عائد مالي لعملائها، وتضم أصولاً حكومية مستمدة من فائض الاحتياطيات التي تملكها الدولة، وتعود بالنفع على اقتصادها ومواطنيها، لكنها تتميز عن غيرها من الصناديق الاستثمارية بقيمتها المالية الكبيرة، وبعض الدول لديها أكثر من صندوق سيادي.
هذا المصطلح جديد نسبيًا، فقد كان المسؤول التنفيذي السابق في شركة الخدمات المالية الأمريكية “ستيب ستريت” أندور روزانوف أول من قدم هذا المصطلح في ورقة بحثية نُشرت في 20 مايو/أيار 2005، لكن هذا لا يعني عدم وجود صناديق الثروة قبل هذا التاريخ، فقد كانت موجودة قبل ذلك بعشرات السنوات.
في الواقع، يعود تاريخ صناديق الثروة السيادية إلى عام 1953 على الأقل، عندما أُنشيء مجلس الاستثمار الكويتي (KIB) في العاصمة البريطانية لندن، بقرار من أمير الكويت وقتها عبدالله السالم الصباح بهدف استثمار فوائض صادرات النفط، وتوفير بديل لاحتياطات النفط التي من المحتمل أن تنضب خلال السنوات القادمة.
بعض الصناديق جديدة إلى حد ما، في حين أن البعض الآخر موجود منذ عقود، فقد سارت الكثير من الدول على هذا النهج، ولم يرتبط تأسيسها بدول النفط فقط، فقد أسست الدول غير النفطية، كالصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتركيا وأستراليا وتشيلي، صناديق ثروة سجلت تطورًا في العقود الأخيرة، من 3 صناديق في عام 1999 إلى 22 صندوقًا، وصولاً إلى حوالي 60 صندوقًا عام 2010، وحسب إحصائيات العام 2019، يُقدَّر عددها بنحو 95 صندوقًا.
وشجع نجاح الصناديق السيادية للدول الثرية دولاً أخرى على إنشاء صناديق سيادية مثل مصر صاحبة التجربة الأحدث، والتي أسست الصندوق السيادي المصري عام 2018 تحت اسم “صندوق مصر” رغم تحديات اقتصادية تواجهها، وهو حاليًا في المرتبة 48 عالميًا بأصول تقترب من 12 مليار دولار.
وعلى الرغم من الوضع السيء للاقتصاد المصري، إلا أن الحكومة بررت ذلك بـ”استغلال أفضل لأصول الدولة وخاصة الأصول غير المستغلة” وجذب الاستثمارات الخاصة لمصر وتشجيع الاستثمار المشترك في الأصول المملوكة للدولة لتعظيم قيمتها، لكنه ما زال يواجه شبهات استقلال إدارته وغياب الرقابة في التعامل مع أصول الدولة.
مصادر الثروة.. النفط أولاً
يرتبط الارتفاع الأخير في صناديق الثروة السيادية بشكل أساسي بتراكم احتياطيات كبيرة من العملات الأجنبية من قبل اقتصادات الأسواق الناشئة، إذ أنشأ عدد متزايد من هذه البلدان، على مدى السنوات القليلة الماضية، صناديق ثروة سيادية جديدة لتجميع الأصول الأجنبية وتحسين العائد على الأصول التقليدية.
وعادةً ما تكون صناديق الثروة السيادية نتاجًا ثانويًا لفوائض الميزانية الوطنية، التي تراكمت على مر السنين بسبب الاقتصاد الكلي المواتي، والصفقات التجارية والمالية، إلى جانب تخطيط الميزانية على المدى الطويل وضبط الإنفاق.
وتختلف موارد الصناديق السيادية من دولة لأخرى، فهناك دول تحصل على فوائض مالية من عوائد الموارد الطبيعية كالنفط والغاز، وتصل نسبة العوائد البترولية إلى حوالي 60%، فدول مثل السعودية والكويت والإمارات والنرويج تعتمد على النفط، في حين تعتمد قطر على الغاز الطبيعي، وتعتمد تشيلي على النحاس وبتسوانا على الألماس وكندا على الكهرباء وكيريباس (جمهورية كيريباتي) على الفوسفات.
أكثر الدول التي لديها فائض مالي هي الدول التي تصدر البترول والموارد الطبيعية خاصة الدول التي بها فائض كبير من البترول، لكن لا تعتمد كل دول العالم على الثروات الطبيعية كمصدر لرؤوس أموال صناديقها، فبعض الدول تعتمد على العوائد المالية من صادراتها من السلع الأخرى أو الأصول غير السلعية كالنقد الأجنبي، وتصل نسبة هذه المصادر إلى 40%، فدول مثل أوغندا يعتمد صندوقها السيادي “Poverty Action Fund” على المعونات والمساعدات من الدول الأجنبية.
المجموعة الرئيسية من البلدان التي أنشأت صناديق الثروة السيادية هي اقتصادات غنية بالفعل بالموارد تستفيد من ارتفاع أسعار المواد البترولية والطاقية والسلع الأساسية، على غرار دول الخليج والنرويج، فقد شكَّل تمويل إيرادات النفط في هذه الدول، في عام 2015، ما قيمته 4.29 تريليون دولار من إجمالي هذه الصناديق.
الأكبر عالميًا
اعتبارًا من يونيو/ حزيران 2022، تربع صندوق الثروة السيادي النرويجي على قمة الصناديق السيادية، وكان لافتًا تعاظم ثروته من نحو 23 مليار دولار عام 1998 لينمو بسرعة فائقة خلال أقل من 3 عقود، حتى وصلت قيمته إلى 1.371 تريليون دولار، وهو بذلك أنجح الصناديق السيادية على الإطلاق، وأول صندوق تتجاوز قيمته التريليون دولار.
تأسس أكبر صناديق الثروة في العالم عام 1990 باسم “صندوق النفط” لتحصين الاقتصاد ودعمه على المدى الطويل عندما تشح الإيرادات النفطية في النرويج، ثم في عام 2006، تغير اسمه ليصبح “صندوق معاشات التقاعد الحكومي النرويجي”، ويُموَّل من خلال صادر النفط.
وفي حين تمتلك معظم الدول حول العالم صندوقًا استثماريًا سياديًا واحدًا، تحرص الصين على عدم وضع البيض في سلة واحدة، لتقليل المخاطر الاستثمارية وتوفير فرص أكبر لتعظيم الفوائد على الثروات المستثمرة، فهي تمتلك 4 صناديق، من بينها صندوق الثروة الصيني المعروف باسم”مؤسسة الاستثمار الصينية”، الصندوق الرائد للصين، وتدير جزء من الاحتياطي النقدي الأجنبي الصيني، وتأسست بهدف تنويع استثمارات النقد الأجنبي، وتحقيق أعلى عائدات ممكنة للمساهمين، ولكن بحسب بعض الخبراء، فقد تأسست بعد خلاف بيروقراطي نشب بين وزارة المالية ومصرف الصين المركزي.
تبلغ أصول صندوق السيادة الصيني أكثر من تريليون دولار، وهي موزعة على قطاعات متنوعة وفي بلدان متعددة، وتراجع العام الماضي أمام صندوق التقاعد النرويجي، لكنه يقترب من انتزاع الصدارة مرة أخرى بعد أعوام من تربع من صندوق السيادة النرويجي على عرش الصناديق السيادية حسب بيانات معهد صناديق الثروة السيادية.
كما تمتلك سنغافورة اثنين من أكبر صناديق الثروة في العالم، ففي المركز السادس عالميًا، تأتي مؤسسة حكومة سنغافورة للاستثمار “سي آي جي”، أحد أقدم الصناديق الاستثمارية السياسية في العالم، إذ تأسست عام 1981، وتمتلك أصولاً تصل قيمتها إلى 690 مليار دولار، وقد تم جمع معظم هذه الأصول في السبعينات من القرن الماضي، كما يأتي صندوق”تماسك هولدينغز” السنغافوري (Temasek Holdings) في المركز التاسع عالميًا بأصول تصل إلى 496 مليار دولار.
تتوزع هذه الصناديق عالميًا بحيث تستحوذ قارة آسيا على النصيب الأكبر منها بنسبة تقترب من 40%، تليها منطقة الشرق الأوسط بنسبة 37%، و2.3% لصالح إفريقيا، و16.7% لصالح الدول الأوروبية.
صناديق دول النفط.. العرب على خط المنافسة
تتربع بعض الدول العربية أيضًا على عرش الصناديق السيادية، وبالتحديد الدول الخليجية التي أسست أغلب صناديقها في بدايات النصف الثاني للقرن العشرين، حتى باتت تحتل اليوم 4 مراكز متفاوتة في قائمة أكبر 10 صناديق ثروة سيادية في العالم، فالعاصمة الإماراتية تمتلك وحدها مجموعة من صناديق الثروة من بين الأكبر في العالم، وتتبع استراتيجية تكثيف الصناديق السيادية وتقسيم استثماراتها بحسب القطاعات الاقتصادية.
تعددت صناديق الثروة السيادية في الإمارات، ويأتي في المقدمة “جهاز أبوظبي للاستثمار” (أديا)، أقدم المؤسسات الاستثمارية الحكومية، بدأ نشاطه عام 1976، ويرأسه طحنون بن زايد منذ مارس/ آذار الماضي، كأكبر صندوق سيادي في الشرق الأوسط، والرابع عالميًا، بقيمة أصول تصل إلى 853 مليار دولار، وتتمثل مهمته الرئيسية في تحويل الفوائض المالية من إيرادات النفط الخمة إلى حيازة الأصول الأجنبية لتعزيز الرفاهية للدولة.
أمَّا “مبادلة للاستثمار” التابع لإمارة أبو ظبي، فيجمع بين الاستثمارات داخل الإمارات وخارجها (بقيمة مالية 892.5 مليار درهم)، فيما يركز “صندوق شركة القابضة”، أحدث صناديق أبوظبي، على الاستثمار داخل الإمارات (290.2 مليار درهم)، وهناك أيضًا “مؤسسة دبي للاستثمارات الحكومية”، وهي أيضًا من بين أكبر صناديق الثروة في الإمارات والعالم منذ تأسيسها في عام 2006 (1.11 مليار درهم)، إلى جانب “صندوق الحكومة الاتحادية” المعروف باسم “جهاز الإمارات للاستثمار” (56 مليار درهم)، وأيضًا “الشارقة لإدارة الأصول” (7 مليارات دولار)، بحسب احصائيات صادرة في الربع الأول من عام 2022.
ويصل إجمالي صناديق الثروة السيادية في الإمارات إلى 6 صناديق اقتربت قيمتها من 6 تريليون درهم (1.6 تريليون دولار) مع نهاية عام 2021، أي ما يناهز 15% من الإجمالي العالمي للأصول السيادية، مقارنة بـ5.4 تريليون درهم خلال عام 2020، وفقًا لبيانات معهد صناديق الثروة السيادية التي أظهرت أن صناديق الإمارات زادت بنحو 1.4 تريليون درهم، أي ما يقرب 284 مليار دولار خلال العام 2021، وبنمو وصل إلى 20.6% عن الأصول المجمعة للعام 2020.
في المركز الثاني عربيًا والرابع عالميًا، يأتي الصندوق الكويتي المعروف باسم “الهيئة العامة للاستثمار”، وتبوأ المراكز الأولى عالميًا على مدار عقود، وصولاً إلى مركزه الحالي بقيمة أصول تصل إلى 750 مليار دولار، ويدير صندوقي الاحتياطي العام الذي أنشئ عام 1960 استعدادًا للاستقلال عن المملكة المتحدة، وصندوق احتياطي الأجيال القادمة، الذي تأسس عام 1976، وقام على استراتيجية تتلخص في اقتطاع 10% من إيرادات الدولة سنويًا، وضمها للصندوق، واستثمارها لتأمين مستقبل البلاد.
في المركز الثالث عربيًا والسابع عالميًا، يأتي “صندوق الاستثمارات العامة السعودي” بقيمة أصول تصل إلى 650 مليار دولار، وهو أيضًا من أكبر صناديق الثروة السيادية في المنطقة العربية والعالم، وتأسس في العام 1971 بموجب مرسوم ملكي، ويتلقى تمويلاته الاستثمارية من شركة “أرامكو” العملاقة للنفط، ويرأسه حاليًا ولي العهد السعودي، الحاكم الفعلي للملكة، الأمير محمد بن سلمان.
وشهد الصندوق السيادي السعودي في السنوات الأخيرة نموًا سريعًا باعتباره يقوم بدور استراتيجي في دعم “رؤية 2030” للتنمية والإصلاح الاقتصادي، ويسعى صناع القرار إلى امتلاك أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم بحلول 2030، بقيمة تناهز تريليونَي دولار، لكن هذه الرؤية تبقى “الأشد ألماً” في تاريخ المملكة، والمحكوم عليها بالفشل” بحسب دراسة أجراها مركز كارنيغي للدراسات.
وفي المركز العاشر عالميًا والرابع عربيًا يأتي “جهاز قطر للاستثمار” الذي تأسس عام 2005، كوسيلة لاستثمار الفائض من عائدات قطاع النفط والغاز، إذ تعد قطر أحد أكبر مصدِّري الغاز الطبيعي المسال في العالم، والذي يوفر لها أرباحًا ضخمة لا يبدو أنها ستنضب قريبًا، ففي يونيو/ حزيران 2015، أعلن البنك الوطني القطري أن احتياطات الغاز كافية للاستثمار في إنتاج وتصدير الغاز بنفس الكمية لمدة 183 عامًا.
منذ مارس/ آذار 2023، ترأس ¬بندر بن محمد بن سعود آل الثاني مجلس إدارة الصندوق الذي ارتفعت أصوله خلال الربع الأول من العام الجاري بنحو 14 مليار دولار، وتصل قيمتها إلى 475 مليار دولار، لكن كثيرًا ما عدَّه مراقبون متماهيًا مع التوجهات السياسية والاقتصادية لصناع القرار في قطر.
قبل 10 سنوات تقريبًا، تغيرت قيمة الصناديق السيادية بل قيمة أصولها وترتيبها، ولم تكن أكبر 10 صناديق سيادية في العالم بهذا الترتيب، لكن الدول التي تملك هذه الصناديق بقيت كما هي ضمن قائمة الصناديق الأكبر عالميًا، ففي حين تربعت النرويج -كما هي اليوم- على رأس أكبر الصناديق، وتراجعت “شركة الصين للاستثمار” إلى المركز الرابع عالميًا، كانت الصناديق السيادية المملوكة لبعض الدول العربية في مراكز متقدمة بين أكبر الصناديق.
عربيًا، جاء “صندوق أبوظبي للاستثمار” في المركز الثاني عالميًا، تلاه “مؤسسة النقد العربي السعودي” (SAMA)، التي تغير اسمها منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 إلى “البنك المركزي السعودي”، وجاءت “الهيئة العامة للاستثمار” الكويتية في المركز السادس، وكانت قطر آخر الدول العربية في المركز التاسع عالميًا من خلال “هيئة قطر للاستثمار”.
ومع تحرك صناديق الثروة بشكل متسارع نتيجة استثماراتها المكثفة في السنوات الأخيرة، تشير التقديرات إلى امتلاك دول النفط الخليجية وحدها 18 صندوقًا سياديًا تدير ما يقرب من 3.7 تريليون دولار من رؤوس الأموال بحصة أكثر من 30% من إجمالي الثروة العالمية التي تصل أصولها إلى ضعفي هذا المبلغ تقريبًا، مرتفعة بـ3.4 تريليون دولار عن عام 2008.
اعتبارًا من مارس/ آذار 2015، كانت صناديق الثروة السيادية حول العالم تمتلك أصولًا بقيمة 7.1 تريليون دولار وفقًا لمعهد صندوق الثروة السيادية، وتمثل خمسة من أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم، والتي تعتمد على عائدات الطاقة، 45% من إجمالي أصول صناديق الثروة السيادية العالمية.
رغم أن عام 2022 شهد تقلبات حادة في سوق الأسهم والسندات، وأثرت بدورها على قيمة الأصول التي تمتلكها الصناديق السيادية على الصعيد العالمي، كان هناك تحركات إيجابية وزيادة في الأصول للصناديق الخليجية، واتجهت هذه الصناديق في استثماراتها بين الكلاسيكية والانفتاح.
كنوز المستقبل.. الإدخار للأيام المطيرة
تلعب هذه الصناديق دورًا أساسيًا في الاقتصاد العالمي من خلال تحريك أسواق الأسهم والسندات، ويمكن أن يؤدي التراكم المستدام للأصول الأجنبية إلى تحويل العديد من صناديق الثروة السيادية إلى لاعبين مهمين في السوق العالمي، إذ إن أصولهم المالية المدارة تتجاوز أصول أكبر مديري الأصول الخاصة وصناديق المعاشات التقاعدية.
وتتراوح قضايا السياسة الناشئة عن ظهور صناديق الثروة السيادية كجهات فاعلة مالية عالمية كبيرة بين المخاوف بشأن الافتقار إلى الشفافية وانعكاس عمليات الخصخصة إلى المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي العالمي، على سبيل المثال، يمكن أن تساهم صناديق الثروة السيادية في حل الأزمات العالمية من خلال التنويع في السندات الحكومية التي يتم استثمار الجزء الأكبر من الاحتياطيات التقليدية فيها.
ويتعلق شاغل آخر بمسألة ما إذا كانت هذه الأموال قد تشوِّه أسعار الأصول من خلال عمليات شراء أو بيع أوراق مالية ليست ذات دوافع تجارية، وهناك بالفعل نقص في الشفافية في غالبية الصناديق السيادية، ومن المقدر أن الصناديق السبعة الأقل شفافية تمثل ما يقرب من نصف جميع ممتلكات صناديق الثروة السيادية.
بصفتها كيانات تديرها الدولة، فإن تفاصيل ممتلكات صناديق الثروة السيادية غامضة في أحسن الأحوال، وبعض الصناديق أكثر شفافية من غيرها، وتظهر نظرة سريعة على المبادئ التوجيهية لعدد قليل من هذه الصناديق مدى تشابك صناديق الثروة السيادية في الأسواق العالمية.
بشكل عام، هذه الصناديق تؤسسها الحكومات بهدف عزل الميزانية أو الاقتصاد عن أي تقلبات قد تواجهها في الإيرادات، وتعظيم الموارد القومية، وبالأخص الدول التي تعتمد بشكل أساسي على مصدر واحد للدخل كالنفط مثل النرويج، ويتيح لها الصندوق السيادي تنويع مصادر دخلها للاستفادة منها عند نضوب احتياطاتها من النفط.
في صيف عام 2014، انخفض سعر النفط من أكثر من 110 دولارات للبرميل من خام برنت إلى 48 دولارًا للبرميل. استخدمت بعض البلدان، مثل النرويج، التدفقات النقدية من صادرات النفط لتخزين كميات هائلة من الثروة، بينما اعتمد آخرون بشدة على النفط لتحقيق التوازن في ميزانياتهم المالية.
وتواجه العديد من البلدان الآسيوية التي راكمت احتياطيات ضخمة من العملات الأجنبية – ربما ليس من قبيل الصدفة – بعض التحديات الصعبة للغاية والشكوك المقلقة، فاليابان مثلاً أسرع المجتمعات اتجاهًا نحو الشيخوخة في العالم، وتعيش في ظل تهديد مستمر بزلزال مدمر ولديها نظام غير مستقر وعدائي للغاية مع القدرات النووية المجاورة.
وتواجه كوريا الجنوبية نفس الجار المعادي والصعب، مع التعقيد الإضافي المتمثل في الاضطرار إلى الاستعداد لانهيار محتمل وكارثة إنسانية، وما يترتب على ذلك من مطلب عاجل لاستيعاب جارتها الشمالية، في حين يتعين على تايوان أن تعيش باستمرار في ظل الصين، التي تربطها بها علاقة متقلبة للغاية.
وتتصرف الصين بدورها بطموح عالمي شبيه بالقوة العظمى، بينما تعمل جاهدة لاستيعاب ما يقرب من 200 مليون عاطل عن العمل في المقاطعات، وهو مزيج محتمل الانفجار، وبالتالي يمثل صداعًا سياسيًا واجتماعيًا كبيرًا للحكومة.
كما تهدف الدول من خلال إنشاء هذه الصناديق إلى السيطرة على مستوى السيولة في السوق، على سبيل المثال، في النصف الأول من عام 2022، حققت الدول المصدرة للنفط أرباحًا إضافية بعد ارتفاع أسعار النفط، ضخت جزء كبير منها في صناديقها السيادية -وليس في الاقتصاد بشكل مباشر- لتجنب أي تأثير غير مرغوب فيه على مستوى السيولة في السوق.
لكن هذا ليس السبب الوحيد، فالأرباح التي يجلبها الصندوق السيادي تجنب هذه الدول، حتى وإن كانت غنية، أزمات اقتصادية، فالنفط الرخيص مفيد للمستهلك، لكنه يتسبب في مشاكل في الدول المنتجة للنفط، فإذا هبط سعره، توفر عائدات هذه الصناديق ربح تعتمد عليه في ميزانياتها فتحقق الاستقرار المالي.
يمكن أن تكون أسعار النفط المنخفضة مدمرة لبعض الدول، ففي فنزويلا على سبيل المثال، إذ يمثل النفط 95% من صادرات البلاد وأكثر من نصف ناتجها المحلي الإجمالي، وتعاني فنزويلا منذ سنوات من تضخم خانق، وتقف على حافة التخلف عن السداد، بينما كانت الدول الأخرى أكثر حكمة فيما يتعلق بأموالها ولديها احتياطيات في شكل صناديق الثروة السيادية.
كما أن الدول الثرية إن لم تستثمر أموالها خارج بلادها، وعمدت إلى ضخ الأموال داخل الدولة، ستتحول هذه الوفرة في الأموال النقدية إلى تضخم يؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
تتمثل الغاية من إنشاء الصناديق السيادية أيضًا في تنمية أموال الدول وتعزيز قيمتها من خلال الاستثمار لتوفير تمويل لأنشطة التنمية الاقتصادية في الدولة، على سبيل المثال، يتمتع الفرد في سنغافورة، ثاني أغنى دولة في العالم بعد لوكسمبورج، بواحد من أفضل مستويات المعيشة وأكثرها رفاهية، وقد حققت هذه الثروة بفضل صندوقي الثروة السيادية”سي آي جي” و”تماسك هولدينغز”.
يُضاف إلى الأهداف السابقة دعم الاقتصادات الوطنية في أوقات الأزمات والهزات الاقتصادية، على سبيل المثال، في مايو/ أيار 2020، عندما أحدث انتشار وباء كورونا حالة من الشلل الاقتصادي في دول العالم، تدخل صندوق الثروة السيادي الأيرلندي (ISIF)، ومنح الحكومة 2.4 مليار دولار لتمويل خطة الإغاثة الحكومية للأفراد والشركات التي تأثرت بالأزمة التي أعادت تصنيف وترتيب الكثير من الصناديق السيادية في العالم.
كما أسعف صندوق الثروة النرويجي الدولة في أزمة الخدمات الصحية التي صاحبت انتشار الجائحة، فسحبت منه 37 مليار دولار لمواجهة الأزمة التي تزامنت مع انخفاض حاد في أسعار النفط، وقد انتهت بخسارة الصندوق في النصف الأول من عام 2020 قرابة 21 مليار دولار، وخسارة قياسية أخرى بلغت 164 مليار دولار عام 2022، متأثرًا بالحرب الروسية الأوكرانية والتضخم المرتفع وارتفاع أسعار الفائدة.
قد يوضح أحد الأمثلة الأخرى هذه النقطة على أفضل وجه، فقد تمكنت الكويت من استعادة استقلالها وإعادة بناء البلاد بعد الغزو العراقي -الذي بلغت تكلفته 49 مليار دولار خلال 7 أشهر فقط- وبعده في بداية التسعينيات، بفضل الأصول الأجنبية التي تراكمت وتديرها الهيئة العامة للاستثمار، فقد وصلت تكلفة إعادة الإعمار حوالي 66.7 مليار دولار بنهاية السنة المالية 1994-1995، وترتب على ذلك انخفاض الاحتياطيات المالية الأجنبية من أكثر من 100 مليار دولار قبل الغزو إلى 46.7 مليارًا
ولم يغب عن مديري الثروات السيادية الآسيويين درس آخر تمثل في حفظ ثروات الأجيال القادمة في الثروات الحالية، وهذا ما فعلته بالفعل الكويت، ثم لحقتها دول أخرى خليجية وأجنبية، فقد وجدت الدول الخليجية أن عائدات بيع النفط وفَّر لها ثروة أرادت تنميتها للأخيال القادمة، خاصة أن الدول هذه التي تعتمد على مصدر غير متجدد.
وكانت النرويج، أكبر منتج للنفط في أوروبا الشمالية، من أنجح الدول التي قامت بذلك، فقد أسست صندوقها السيادي بعد اكتشافها النفط مباشرة، وحقق مكاسب بقيمة 176 مليار دولار في عام 2021، وعوائد تصل إلى 14.5% على استثماراته، بعد كل ما سبق، لكن يبقى الانتقاد الأساسي للصناديق السيادية هي تركيزها على الاستثمار في دول هي في الأساس غنية، خاصة في أوروبا وأمريكا