لم تعد مهنة الصحافة والإعلام مرغوبة لدى الكثير من الشباب اليمنيين، بل حتى الصحفيين الذي قضوا عقودًا طويلة في هذه المهنة، إذ فضّل كثيرون تركها والعمل في مهن أخرى لكسب لقمة العيش.
فلم يعد من السهل على الصحفي أن يكون مستقلًّا ينقل الحقيقة وما يجري على الأرض من وجهة نظر الناس، عليه أن ينتمي إلى أحد أطراف الصراع في البلاد، حتى يأمن على حياته من جهة، ويجد عملًا في وسيلة إعلامية تابعة للطرف السياسي في المنطقة التي يقيم فيها حتى يقتات من خلالها من جهة ثانية.
الحرب التي تشهدها اليمن منذ 8 سنوات شقت الدولة ومؤسساتها إلى نصفَين، بين جماعة الحوثيين التي تسيطر على العاصمة صنعاء وجزء كبير من المناطق الشمالية اليمنية، والحكومة الشرعية المدعومة بالتحالف الذي تقوده الرياض، والتي اتخذت من مدينة عدن جنوب اليمن عاصمة مؤقتة لها.
فمثلًا قناة “اليمن الفضائية” ووكالة “سبأ” الرسمية انقسمتا بين الحوثيين والحكومة، بينما أغلقت الوسائل الإعلامية الموالية للقطاع الخاص أو الأحزاب السياسية التي غيّبتها الحرب، وحتى القنوات والوكالات العربية والدولية أغلقت غالبيتها مكاتبها في العاصمة صنعاء وسرّحت موظفيها، خاصة التي كانت محسوبة على الأطراف الأخرى.
وأدى الصراع بين الرياض وأبوظبي وأجنحتهما في اليمن إلى ولادة فصائل أخرى، أبرزها المجلس الانتقالي الجنوبي المشكّل إماراتيًّا عام 2016 والمُطالب بالانفصال عن الوحدة اليمنية، وأيضًا المقاومة الوطنية التي تشكّلت عام 2017 بقيادة طارق صالح نجل شقيق الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، الذي قضى نحبه خلال مواجهة مع الحوثيين عقب إعلانه الانتفاضة على الجماعة في 2 ديسمبر/ كانون الأول 2018.
مع تعدد الأقطاب السياسية والعسكرية المتصارعة على السلطة في اليمن، وتحول البلاد إلى مناطق نفوذ يغيب فيها صوت القانون، نكست الأقلام الصحفية وارتفع فقط صوت الرصاص، ولم يعد يحق للصحفي أن ينتقد أو يسأل أو يتقصّى أو يحقق في قضية ما، فحياته رخيصة، وسيكون مصنّفًا إما أنه تابع لجماعة الحوثيين وإما مرتزق وإما عنصر من عناصر القاعدة.
وحتى الخروج والعمل في الميدان مع الفوضى الأمنية وانتشار المسلحين في مختلف مناطق البلاد، بات أمرًا مقلقًا وتهديدًا على حياة الصحفي، فبات الخوف يتملك كل الصحفيين في اليمن.
نصف وسائل الإعلام توقفت عن العمل
المئات من الطلبة تخرجوا خلال السنوات الماضية من كليات الإعلام في صنعاء وفي عدن والمحافظات الأخرى، والمحظوظ منهم من وجد فرصة عمل مع وسيلة إعلامية في البلاد، بغضّ النظر عن سياستها وانتمائها، في ظل وجود مئات الصحفيين العاطلين عن العمل، والذين توقفت مرتباتهم منذ عام 2016.
فنصف وسائل الإعلام في اليمن توقفت بسبب الحرب المستمرة، وتأثيراتها السلبية على حرية الإعلام، وتصاعُد الاستقطابات السياسية، بحسب دراسة مسحية حديثة نفّذتها نقابة الصحفيين اليمنيين بالتعاون مع الاتحاد الدولي للصحفيين.
أكدت الدراسة أن 165 وسيلة إعلامية في اليمن، تنوعت بين قنوات تلفزيونية وإذاعات وصحف ومجلات ومواقع إلكترونية، توقفت عن العمل، ما نسبته 45.2% من إجمالي الوسائل الإعلامية التي كانت موجودة قبل اندلاع الحرب عام 2015، والبالغ عددها 365 وسيلة، الأمر الذي يؤكد “التأثير السلبي للحرب على وسائل الإعلام في جوانب مهنية عديدة، أبرزها الاستقلالية والتمويل وحقوق الصحفيين”.
وتعمل حاليًّا 200 وسيلة إعلامية، من بينها 137 أو ما نسبته 68.5% من إجمالي هذه الوسائل جديدة، وأسّسها أطراف الصراع في اليمن خلال فترة الحرب.
كانت الصحف والمجلات الأكثر تأثرًا بالحرب، إذ إن 119 من بين 132 صحيفة ومجلة، سواء يومية أو أسبوعية أو شهرية أو فصلية، تعرّضت للإغلاق بسبب الحرب وتبعاتها الأمنية والاقتصادية والسياسية، و”لا تزال تعمل سوى 13 صحيفة فقط”.
وأوردت الدراسة أنه من بين 26 قناة فضائية يمنية هناك 4 متوقفة عن العمل، بينما تعمل 22 قناة من بينها 12 قناة جديدة تأسّست خلال فترة الحرب وتتبع أطراف الصراع، كما أن 13 قناة منها تبثّ من خارج اليمن (السعودية ولبنان وتركيا ومصر)، فيما يبثّ العدد نفسه (13) من داخل البلاد (صنعاء، عدن والمكلا).
أما بالنسبة إلى الإذاعات، فقد أفادت الدراسة أن من بين 60 إذاعة (42 منها تتبع أطراف الصراع و18 مستقلة)، يوجد 6 منها متوقفة، فيما تعمل 54 إذاعة في مناطق مختلفة من اليمن، 36 منها تأسّست خلال فترة الحرب.
وفي السياق ذاته، فإن من 147 موقعًا إخباريًّا على الإنترنت يعمل 114 موقعًا (82 منها تأسّس في فترة الحرب)، فيما تعرّض 33 موقعًا للإيقاف، ناهيك عن حجب غالبية المواقع عن متابعيها داخل اليمن من قبل سلطة الحوثيين، كما أن “118 موقعًا منها تتبع أطراف الصراع، و29 مستقلًّا”.
ولم تعد الأولوية لدى الصحفيين اليمنيين رفع سقف حرية التعبير، ودعم حرية وسائل الإعلام وتعددها واستقلاليتها أو المطالبة بحقّ الحصول على المعلومات، بل إن المطلب الأهم الآن يتمثل في الحفاظ على حياتهم من الموت الذي يهددهم كل لحظة.
طالب مرصد الحريات الإعلامية ومنظمة مواطنة لحقوق الإنسان والمركز الأمريكي للعدالة، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يصادف 3 مايو/ أيار من كل عام؛ أطراف النزاع في اليمن وضع حدّ للانتهاكات ضد الصحافة والصحفيين
إذ أصبحت مهنة الصحافة أو الكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي تهمة تستحق الملاحقة والعقاب، فالحرب تسبّبت في وقوع مئات الانتهاكات ضد الصحفيين، والتي توزّعت ما بين اعتداء جسدي واعتقال والقتل أيضًا، والعديد من الأشكال الأخرى.
فالصحافة وحرية الرأي والتعبير في اليمن تمرّان بأسوأ حالاتهما في ظل تصاعد عدد الانتهاكات بشكل مستمر، إذ تجاوزت الانتهاكات 2461 انتهاكًا، منها مقتل 52 صحفيًّا وناشطًا إعلاميًّا، إلى جانب 479 حالة اعتقال، و154 انتهاكًا مورس ضد مؤسسات إعلامية خلال السنوات الماضية وفق منظمات حقوقية.
وفي بيانات منفصلة، طالب مرصد الحريات الإعلامية ومنظمة مواطنة لحقوق الإنسان والمركز الأمريكي للعدالة، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يصادف 3 مايو/ أيار من كل عام؛ أطراف النزاع في اليمن وضع حدّ للانتهاكات ضد الصحافة والصحفيين، والتوقف عن ملاحقتهم واضطهادهم وإلحاق العقوبات بهم على خلفية عملهم، والعمل على الإفراج الفوري وغير المشروط عن بقية الصحفيين المعتقلين.
وأشارت المنظمات إلى أن أغلب هذه الانتهاكات مارستها جماعة أنصار الله الحوثيين، عقب استيلائها على العاصمة صنعاء، إذ سيطرت على مؤسسات الإعلام الرسمية واستبدلت قيادييها والعاملين فيها بآخرين تابعين لها، ما حوّل أداء هذه المؤسسات إلى خدمة أجندة ومشروع الجماعة والتحريض على خصومها.
واتهمت البيانات الجماعة بإغلاق وسائل الإعلام المستقلة والحزبية بالقوة، وملاحقة ملّاكها ومسؤوليها والعاملين فيها واضطهادهم، “ما صعّب العمل الصحفي، ولم يعد بمقدور الكثير من الصحفيين والصحفيات في اليمن نقل الحقائق بعيدًا عن التأثير والاستقطاب والخوف من البطش، الأمر الذي أدّى إلى مزيد من تفاقم الصراع، وتعميق حالة الانقسام المجتمعي”.
ودعت المنظمات الثلاث المجتمع الدولي إلى التدخل لوقف الانتهاكات التي تطال حرية الصحافة والإعلام في اليمن، ودعم جهود إنهاء الحرب وصناعة السلام، والضغط على كافة الأطراف من أجل احترام التزاماتها وتوفير البيئة الآمنة للصحفيين لممارسة مهنتهم دون أي شروط أو قيود، وتحقيق العدالة للصحفيين وإنهاء حالة الإفلات من العقاب، ومحاسبة ومساءلة كافة الجهات والجماعات التي مارست انتهاكات لحرية الرأي والتعبير وارتكبت جرائم ضد الصحفيين في اليمن، خصوصًا تلك الجرائم المتعلقة بحق الحياة والسلامة الجسدية والحرية الشخصية.
نافذة أمل
شهد الوسط الصحفي اليمني فرحة كبيرة منتصف الشهر الماضي بكسر قيود السجن عن 4 صحفيين يمنيين، بعد 8 سنوات من الاعتقال في سجون الحوثيين، إذ أطلقت جماعة الحوثيين سراح الصحفيين عبد الخالق عمران وتوفيق المنصوري وحارث حُميد وأكرم الوليدي، ليعودوا إلى الحياة بعد أن كانت قد حكمت عليهم بالإعدام.
الصحفيين الأربعة المفرج عنهم ضمن صفقة تبادل مع الحكومة اليمنية، اتهموا الحوثيين بممارسة شتى أصناف التعذيب خلال فترة اعتقالهم، حيث اتهم الصحفي توفيق المنصوري رئيس ملف الأسرى في جماعة الحوثيين، عبد القادر المرتضى، شخصيًّا بممارسة التعذيب ضده، وهو ما نفاه المرتضى وأكّد أن “هذا الكلام عارٍ عن الصحة جملةً وتفصيلًا، وأنه محض افتراء”.
ولا يزال 10 صحفيين يمنيين يقبعون في الأسر، 8 منهم في سجون الحوثيين، بينما يقبع صحفي في سجون السلطات الأمنية بعدن، والآخر مخفى قسرًا من قبل تنظيم القاعدة منذ 7 سنوات وفق مرصد للحقوق والحريات، وفي السياق ذاته دعا الاتحاد الأوروبي إلى إطلاق جميع الصحفيين المحتجزين، وشدّد على التزامه بإعلام حرّ ومستقل في اليمن.
وحسب التصنيف العالمي لحرية الصحافة لمنظمة “مراسلون بلا حدود” للعام 2023، فإن منطقة المغرب العربي والشرق الأوسط تراوح مكانها في مؤخرة تصنيف المناطق الجغرافية الكبرى، باعتبارها المنطقة الأكثر خطورة على سلامة الصحفيين، حيث يعتبَر الوضع “خطيرًا للغاية في أكثر من نصف بلدان هذا الجزء من العالم”.
ويُعزى ذلك الترتيب المخزي لبعض بلدان المغرب العربي والشرق الأوسط، مثل سوريا (175) واليمن (168) والعراق (167)، إلى العدد الكبير للصحفيين المفقودين أو الرهائن بالأساس.
وبحسب “مراسلون بلا حدود”، فإن الصراع العسكري في اليمن له عواقب وخيمة للغاية على حرية الصحافة، مشيرة إلى الضغوط التي تواجهها الوسائل الإعلامية التي ليس لها خيار سوى الامتثال للسلطة القائمة، اعتمادًا على منطقة السيطرة التي تقع فيها تحت طائلة العقوبات.
انتهاكات كثيرة بحقّ الصحفيين اليمنيين شهدتها البلاد مؤخرًا، كان أبرزها مقتل الصحفي اليمني صابر الحيدري في انفجار عبوة ناسفة مجهولة المصدر وُضعت في سيارته
وأكدت المنظمة أنه من الصعب تقديم معلومات مستقلة حول اليمن، إذ تخضع الصحافة لسيطرة أطراف النزاع، أما بالنسبة إلى الصحفيين الأجانب، فإن قلة منهم يصلون إلى الميدان، بغضّ النظر عن المنطقة التي هم فيها، فإن المراسلين تحت المراقبة ويمكن اعتقالهم بسبب منشور بسيط على الشبكات الاجتماعية.
وحتى لا يواجه الصحفيون في اليمن أعمالًا انتقامية، يقرر البعض تغيير مهنتهم بشكل جذري، حتى لا يتعرضون للمقاضاة بسبب كتاباتهم وآرائهم القديمة.
ومن جانب آخر، لا يمكن للصحفيين في اليمن العمل بحرية واستقلالية، لعدم وجود مصادر دخل مستقلة، فغالبية الوسائل الإعلامية المموّلة تابعة إما للسلطات وإما لسياسيين ورجال أعمال وتعمل وفق توجهات الممولين، ما خلق سلطة إعلامية ليست صوتًا للمواطن إنما صوتًا للحاكم والتاجر، إذ استفاد رجال الأعمال والسياسيون من تدهور الوضع الاقتصادي والظروف المعيشية لشراء الصحفيين والألقاب الصحفية.
انتهاكات كثيرة بحقّ الصحفيين اليمنيين شهدتها البلاد مؤخرًا، كان أبرزها مقتل الصحفي اليمني صابر الحيدري في انفجار عبوة ناسفة مجهولة المصدر وُضعت في سيارته في مدينة عدن جنوب اليمن منتصف العام الماضي، والذي يعمل متعاونًا مع عدد من وسائل الإعلام الأجنبية.
هذا فضلًا عن اقتحام قوات موالية للمجلس مقرّ نقابة الصحفيين في 28 فبراير/ شباط 2023 بمدينة عدن، واعتقال الانتقالي الصحفي أحمد ماهر في 6 أغسطس/ آب 2022، وإجباره على الإدلاء باعترافات تحت التهديد.
التسريح من العمل
الحرب في اليمن قلبت عالي الحياة سافلها، ودفعت الظروف الناجمة عن الحرب، أبرزها انقطاع المرتبات منذ نحو 7 سنوات، الكثير من الصحفيين للعمل في مهن لم يفكروا فيها يومًا ولا حتى في كوابيسهم، إذ أُجبر الكثير من الصحفيين والإعلاميين على ممارسة مهن أخرى للتغلب على ظروف الحياة الصعبة والقاسية، ومنهم من صار يعمل في جمع قناني المياه الفارغة، ومنهم من يعمل في الأفران، فيما اضطر البعض الآخر إلى مغادرة البلاد لأنه يرى أنه لم يعد هناك مستقبل في اليمن.
الصحفي فيصل السراجي واحد من الصحفيين الذين سُرّحوا من أعمالهم عام 2014، بعد رحلة طويلة في العمل الصحفي مع عدة صحف ومجلات أهلية بدأها عام 1998، ولم يجد فرصة عمل أخرى، ومع اندلاع الحرب عام 2015 وجد أن العمل في هذا المجال لم يعد آمنًا، فاتّجه إلى بيع الثلج في أحد شوارع العاصمة صنعاء.
سمير المذحجي، مؤلف ومخرج إذاعي يعمل في إذاعة صنعاء الرسمية منذ ثمانينيات القرن الماضي، ألّف أكثر من 1500 حلقة إذاعية، وحصل على 4 جوائز عربية ودولية، اضطر لبيع بيته ويعمل كسائق دباب
أما الصحفي نبيل الشرعبي الذي كان عمله الصحفي كمسؤول عن قسم الاقتصاد بصحيفة “أخبار اليوم” المحلية، فقدَ عمله عام 2015، ورغم العروض الكثيرة التي انهالت عليه إلا أنه رفض أن يكون من “قتلة القلم”، وأن ينحاز إلى طرف من أطراف الصراع، ويزوّر الحقائق انتصارًا للطرف المالك للوسيلة الإعلامية.
عملَ الشرعبي في العديد من المهن الشاقة والدونية لكسب لقمة العيش، واتّجه إلى صيام معظم أيام الأسبوع لأنه لا يستطيع تأمين وجبة طعام واحدة في اليوم.
عمل نبيل في أعمال البناء وفي جمع المخلفات البلاستيكية وبيعها، رغم مردودها الزهيد والذي لا يتعدى دولارًا واحدًا لمواجهة الموت جوعًا على أرصفة العاصمة صنعاء.
لا يختلف حال سمير المذحجي عن فيصل ونبيل كثيرًا، سمير مؤلف ومخرج إذاعي يمني يعمل في إذاعة صنعاء الرسمية منذ ثمانينيات القرن الماضي، ألّف أكثر من 1500 حلقة إذاعية ودرامية لإذاعة صنعاء، وحصل على 4 جوائز عربية ودولية في التأليف والإخراج الإذاعي، بما فيها جائزة اليونسيف وجائزة الملكة علياء في الأردن وعدد من الجوائز المحلية.
ساءت أحوال سمير المادية ولم يجد مصدر دخل بعد أن فقد عمله في “إذاعة صنعاء” عام 2015، ما اضطره إلى بيع منزله الواقع في محافظة تعز حتى يتمكن من شراء دباب (عربة نقل صغيرة)، وتحول سمير إلى سائق دباب يبحث عن لقمة عيشه في الأزقة والحواري بالعاصمة صنعاء لإعالة أسرته، بعد أن كان صحفيًّا إذاعيًّا لا يشقّ له غبار.