السودان: جيش مولع بالسلطة والاقتصاد وسلاح في أيدي المليشيات والقبائل

لم يُتح للجيش السوداني طوال فترة التاريخ الوطني ابتداءً من استقلال البلاد في يناير/كانون الثاني 1956، فرصة لبناء نفسه لتطبيق مقولة إن الجيوش تُبنى في السلم، فقد ظل لسنوات طويلة يحارب ما تصنفه السلطة القائمة تمردًا على الدولة، إضافة لانشغاله بالسلطة نفسها وامتيازاتها وإدارة الأعمال التجارية.

تعود أصول الجيش السوداني إلى العام 1898، عندما جندت بريطانيا سودانيين في أثناء حملة إعادة احتلال السودان، لكنه تشكل فعليًا بمسمى قوة دفاع السودان في 1925 كقوات جُندت بطريقة تمييزية لمساعدة الحكام البريطانيين في فرض سيطرتهم على البلاد، وعند الاستقلال جرى سودنة قادة هذه القوات إيذانًا بميلاد الجيش الوطني الذي كان قوة ذات كفاءة عالية، قبل أن تتغير لاحقًا بمزيد من الانخراط في الشأن السياسي.

تاريخ حافل من الانقلابات

نفذ ضباط الجيش المغامرون عددًا كبيرًا من الانقلابات العسكرية، نجحت منها ثلاث محاولات في تسلم السلطة لفترات زمنية طويلة بفضل وجود مساندة سياسية خاصة في حقبة جعفر نميري وعمر البشير، وجميعها انتهت بثورات شعبية أطاحت بهم.

فشلت أول محاولة بقيادة الضابط إسماعيل كبيدة في يونيو/حزيران 1957، ضد حكومة رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري، بعد عام ونصف فقط من استقلال السودان، ونجحت المحاولة الثانية التي قادها قائد الجيش نفسه إبراهيم عبود في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1958 ضد حكومة ائتلاف تتكون من رئيس مجلس السيادة إسماعيل الأزهري ورئيس الوزراء عبد الله خليل.

يعتقد البعض أن عبد الله خليل دعا إبراهيم عبود إلى تسلم السلطة، وسرعان ما لبى الأخير الدعوة بإعلان حكم عسكري بتعطيل العمل بالدستور وتفعيل قانون الطوارئ، واستمر عبود في الحكم 6 سنوات إلى أن أطاحت به ثورة شعبية في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1964.

نفذ تنظيم الضباط الأحرار بقيادة جعفر نميري، انقلابًا ناجحًا، في 25 مايو/أيار 1969، وجد تأييدًا فوريًا من الحزب الشيوعي، وسريعًا ما دبت الخلافات بينهما ووصلت إلى مرحلة تنظيم ضباط محسوبين على الحزب بقيادة هاشم العطا انقلابًا أطلقوا عليه الحركة التصحيحة في 19 يوليو/تموز 1971، حكم ثلاث أيام قبل أن يستطيع نميري إعادة فرض سيطرته على البلاد، بدعم خارجي. 

وبعد 4 سنوات من محاولة العطا، قاد الضابط حسن حسين في 5 سبتمبر/أيلول 1975 محاولة انقلابية فاشلة، وفي العام التالي وتحديدًا في يوليو/تموز، حاولت قوى سياسية الاستيلاء على السلطة بالقوة، عبر عناصر جرى تدريبها في ليبيا بقيادة الضابط محمد نور سعد، لكن نميري أحبطها بعد معارك عنيفة في شوارع الخرطوم. 

استمر نميري في الحكم 17 عامًا، متقلبًا من يساري صارخ إلى يميني متشدد، إلى أن سقط بثورة شعبية في 6 أبريل/نيسان 1985، عندما أجبر ضباط الرتب الوسيطة وزير الدفاع عبد الرحمن سوار الذهب على عزل نميري، ليُشكل الوزير مجلسًا عسكريًا أدار البلاد لمدة عام واحد في فترة انتقالية انتهت بتنظيم انتخابات. 

وفي 30 يونيو/حزيران 1989، نفذ عمر البشير انقلابًا ناجحًا بتخطيط من الحركة الإسلامية التي كان يتزعمها آنذاك حسن الترابي، وذلك قبل أن تحدث بينهما مفاصلة في 1999.

تعرض نظام البشير لأول محاولة انقلابية ضده، في 23 أبريل/نيسان 1990 نفذها تنظيم حركة الخلاص الوطني بقيادة عبد القادر الكدرو، وكانت المحاولة الفاشلة الثانية في مارس/آذار بقيادة أحمد خالد.

مكث البشير في السلطة 30 عامًا، إلى أن أطاحت به ثورة سلمية في 11 أبريل/نيسان 2019، عندما أعلن نائب البشير في رئاسة الجمهورية ووزير الدفاع عوض ابن عوف عزله وتشكيل مجلس عسكري بقيادته استمر حكمه يومًا واحدًا، ليُعين عبد الفتاح البرهان خلفًا له.

استمر البرهان في الحكم حتى 17 أغسطس/آب من ذات العام، ووقع اتفاقًا مع قوى إعلان الحرية والتغيير لتقاسم السلطة في فترة انتقال شهدت أول محاولة انقلاب عليها في 11 يوليو/تموز 2021 قادها رئيس أركان الجيش هاشم عبد المطلب، فيما كانت المحاولة الثانية بقيادة عبد الباقي بكراوي في 21 سبتمبر/أيلول 2021.

استغل البرهان انقلاب بكراوي، مفتعلًا أزمة سياسية مع ائتلاف الحرية والتغيير عطل فيها عمل مجلس السيادة الذي كان رئيسه واقتربت فترة تسليمه إلى المدنيين وفقًا لاتفاق تقاسم السلطة، لينفذ ونائبه الذي يقود قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” انقلابًا في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2021.

الملاحظ في هذا التاريخ الحافل من المحاولات العسكرية للاستيلاء على السلطة، أن نجاح أي انقلاب يتطلب دعمًا سياسيًا: فعبود سُلم السلطة ووجد مباركة من الزعيمين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني، إما نميري فقد وجد تأييدًا من الحزب الشيوعي، فيما خططت الحركة الإسلامية لانقلاب البشير.

إمبراطورية اقتصادية محكومة بالسرية

في أثناء المطالبات الشعبية بولاية وزارة المالية على المال العام وتسليم شركات الجيش والدعم السريع وجهاز المخابرات العامة وقوات الشرطة إلى الحكومة المدنية، صرح الجنرال ياسر العطا في 24 أغسطس/آب 2020، بأن شركات الجيش تعود إلى صندوق الضمان الاجتماعي للفرد العسكري الذي تأسس في 1972، حيث تستقطع أموالها من راتبه شهريًا.

أبدى قادة الجيش، آنذاك، ممانعة قوية لإدارة الحكومة المدنية لشركات الجيش التي يُفرض عليها جدار عالٍ من السرية، على الرغم من أن كثيرًا منها تعمل في مجالات مدنية حيوية مثل طحن القمح والأدوات الكهربائية والنقل وتشييد الطرق وتصدير المحاصيل الزراعية والحيوانات الحية واللحوم وتجميع السيارات، إضافة إلى شركات منظومة الصناعات الدفاعية.

وأعلنت حكومة الانتقال في 19 يونيو/حزيران 2020، عن نتائج مسح الشركات الحكومية، قالت إنها 650 شركة منها 200 شركة تابعة للقوات النظامية، ومن مجمل الـ650 شركة تساهم 12 شركة فقط في الإيرادات العامة لوزارة المالية.

لا يُعرف على نحو دقيق كم يمتلك الجيش من مجموع الـ200 شركة، لكن المعروف أن معظمها ناجح، وقد قدر وزير التجارة في حكومة الانتقال إبراهيم الشيخ رأس مال شركات الجيش بـ10 مليارات دولار.

التمرد وتشكيل ونفوذ المليشيات

قاد انشغال قادة الجيش بتنفيذ الانقلابات العسكرية وإدارة الإمبراطورية الاقتصادية التي شملت حتى البيع بالتجزئة وعدم قدرته على قمع التمرد، إلى الصمت عن صناعة السلطة للمليشيات وتسليحها من مخازنه لتحارب عنها الجماعات المتمردة.

بدأت أولى شرارات التمرد في السودان من حامية توريت العسكرية في الجنوب عام 1955، موقعًا اضطرابات توسعت لتشمل تصفيات على أسس عرقية، قبل أن تستطيع الحكومة إخماده، وقاد هذا التمرد إلى تشكيل عصابات باسم الأنيانيا 1، لكن البداية الفعلية للتمرد المنظم انطلقت من حركة الأنانيا 2 عام 1969، ما دفع الرئيس العسكري آنذاك جعفر نميري إلى توقيع اتفاق سلام في العام 1972، بموجبه منح الجنوب استقلالًا ذاتيًا.

وفي العام 1983، سن نميري قوانين سبتمبر التي يقول مناصروه إنها مستمدة من الشريعة الإسلامية، وذلك بعد تقاربه مع الحركة الإسلامية بقيادة حسن الترابي، وهذه القوانين، دفعت قوة تابعة للجيش في الجنوب بعصيان الأوامر العسكرية، فأرسل نميري الضابط جون قرنق لتأديبها، لكنه انضم إليها وقادها مؤسسًا الحركة الشعبية لتحرير السودان.

كان جون قرنق ذو عبقرية فذة، لم يكتف بقيادة تنظيم مسلح فقط، وإنما عمل على بناء منظومة سياسية تُساند العمل المسلح، فاستطاع عبرها كسب استعطاف العالم الغربي، خاصة بعد إعلان نظام البشير الجهاد في جنوب السودان عبر قوات الدفاع الشعبي التي انتظم آلاف المقاتلين الإسلاميين المتشددين.

وقع نظام البشير اتفاق سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في 2005، قاد لاحقًا إلى انفصال الجنوب في 2011، وفي ذات العام اندلعت حرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق بين جماعة تحمل فكر الحركة وبذات المسمى مع إضافة اسم شمال، لكن هذه الجماعة انقسم قادتها حيث وقع فصيل يقوده مالك عقار اتفاق سلام مع حكومة الانتقال في أكتوبر/تشرين الأول 2020، بينما يسيطر الفصيل الثاني الذي يتزعمه عبد العزيز الحلو على أجزاء من جنوب كردفان يُطلق عليها في أدبيات الحركة: الأراضي المحررة.

وقبل عامين من إخماد الحرب في الجنوب، اندلعت حرب شرسة في إقليم دارفور بدواعي التهميش، وعلى رغم من توقيع معظم الجماعات المسلحة في دارفور اتفاقيات سلام مع نظام البشير وحكومة الانتقال، فإن الإقليم لا يزال مضطربًا بسبب انتشار السلاح، كما تُسيطر حركة تحرير السودان برئاسة عبد الواحد محمد نور على أجزاء دارفور حتى الآن.

لم يستطع الجيش قمع هذه التمردات بصورة نهائية، لاعتماد الجماعات المسلحة على أسلوب العصابات والكر والفر، ما جعل الأنظمة الحاكمة بمختلف توجهاتها تضطر إلى إبرام اتفاقيات سلام مع هذه الجماعات.

يقول الباحث البريطاني إليكس دي وول إنه نادرًا ما انتصرت القوات المسلحة السودانية في النزاعات العسكرية الطويلة التي خاضتها، إذ سنحت لها فرص كثيرة لتثبت قوتها في حروب جنوب السودان ودارفور وجبال النوبة، لكنها فشلت في ذلك. 

ويُرجع ذلك إلى أن “سلك الضباط ينحدر في الغالب من النخبة الحاكمة في الدولة، فيما ينتمي الجنود المشاة إلى الطبقات الفقيرة والأطراف المهمشة المحلية منذ وقت طويل، وغالبًا ما يفتقر هؤلاء إلى حافز على القتال”.

تبدو ملاحظة إليكس صحيحة تمامًا، وصحتها دفعت نظام البشير إلى تأسيس مليشيات تحارب عنه بالوكالة، لكن بداية تأسيس المليشيات يعود إلى حكومة الصادق المهدي 1986 ــ 1989، حيث شرع وزير الدفاع الأسبق الذي يشغل منصب رئيس حزب الأمة مؤقتًا فضل الله برمة، في توزيع السلاح إلى القبائل العربية في مناطق كردفان ودارفور المتاخمة لجنوب السودان، فيما يُعرف شعبيًا بقوات المراحيل.

ومضت حكومة المهدي أبعد من ذلك، فقد سنت قانون الدفاع الشعبي الذي أُجيز في مجلس الوزراء، لكن تنفيذ البشير لانقلابه، حال دون إجازة هذا القانون بواسطة البرلمان. 

أسس نظام البشير قوات الدفاع الشعبي، وعمل على اختطاف الشباب من الشوارع والأسواق ثم تجنيدهم فيما عُرفت بالخدمة الإلزامية، ومن ثم الدفع بهم إلى جنوب السودان لقتال الحركة الشعبية، محولًا الحرب من أهلية إلى دينية، وبعد توقيع اتفاق السلام، احتفظ عناصر الدفاع الشعبي بأسلحتهم، ورغم المطالبات بحلها بعد إسقاط البشير، فإن البرهان تبعها رسميًا للجيش وأسماها قوات الاحتياط.

سلح نظام البشير بعض أفراد القبائل العربية، ليحاربوا عنه بالوكالة الجماعات المسلحة، وهؤلاء هم “الجنجويد”، ومنهم تأسست قوات الدعم السريع، جرى في البداية ضمها إلى قوة حرس الحدود التابعة للجيش، ولاحقًا أصبحت تابعة إلى جهاز المخابرات العامة.

وحصلت على نفوذ سياسي واسع بعد انتصارها في أبريل/نيسان 2015 بمعركة “قوز دنقو” على حركة العدل والمساواة التي كانت تُعد آنذاك من أكبر الحركات المسلحة في إقليم دارفور.

وبعد أن طالتها اتهامات بارتكاب انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان في دارفور، سن النظام السابق لها قانونًا في 17 يناير/كانون الثاني 2017، تبعها للجيش تحت إمرة القائد الأعلى له أي لرئيس الجمهورية مباشرة، وأضيفت إلى قوات الدعم السريع مهام أخرى غير محاربة حركات دارفور، شملت الحد من الهجرة غير الشرعية والانتشار على حدود السودان مع ليبيا وإفريقيا الوسطى وتشاد.

هذه المهام دفعت قوات الدعم السريع إلى تجنيد آلاف الأشخاص، ما مكنها من توسيع نفوذها الاقتصادي عبر التنقيب عن الذهب والشركات الاستثمارية، وهذا قاد لاحقًا إلى بناء شبكة علاقات خارجية مع الإمارات وروسيا.

وجعل نفوذ قوات الدعم السريع العسكري والإمبراطوية المالية، قائدها حميدتي يظهر ممانعته لقمع الاحتجاجات السلمية ضد نظام الرئيس المعزول عمر البشير، وتعاظم هذا النفوذ بعد أن مكنها من مؤسسات الدولة، خاصة بعد أن قرر في 10 يوليو/تموز 2019، إلغاء المادة 5 من قانون الدعم التي تتعلق بخضوعها للجيش، ما جعلها قوات شبه مستقلة.

وهذا النفوذ رفع طموح حميدتي إلى الاستئثار بالسلطة بمفرده، وذلك يتضارب مع رغبة قائد الجيش في تولي مقاليد الحكم، ما أشعل بينهما حربًا ضروس منذ 15 أبريل/نيسان المنصرم.

أسلحة نوعية.. لكن من يقاتل بها؟

بالنسبة إلى بلد فقير وعانى سنوات طويلة من الحروب والاقتتال الأهلي ويعيش في ظل أزمة اقتصادية مطولة، فإن الجيش يمتلك أسلحة نوعية يمكنها أن تؤمن انتصاره على الدعم السريع، لكن ذلك سيكون بعد فترة قد تطول إلى أشهر وربما سنوات.

يأتي ترتيب الجيش السوداني، وفقًا لتصنيف غلوبال فاير باور، في المركز الـ75 بين جيوش العالم، ويصل عدد عناصره إلى 205 آلاف عنصر، بينهم 100 ألف عنصر في الخدمة و55 ألف عنصر في الاحتياط و55 ألف عنصر من القوات شبه العسكرية.

وتقول تقارير صحفية إن جيش السودان يُنتج معظم احتياجاته العسكرية محليًا بواسطة هيئة التصنيع الدفاعي، بما في ذلك الذخائر بمختلف أحجامها، والمركبات المصفحة والراجمات والطائرات.

وتشير إلى أنه يمتلك راجمات صواريخ ودبابات روسية الصُنع من طراز T54 إلى T72، إضافة إلى مدرعات BTR من 50 إلى 60 ومدرعات أخرى، علاوة على صواريخ جو – جو من طرازات روسية، وآلاف قطع المدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ، وطائرات مقاتلة من طراز ميغ وسوخوي، وعدد من الطائرات السمتية وطائرات الهليكوبتر.

وتمتلك القوات الجوية 191 طائرة حربية: 45 طائرة مقاتلة و37 طائرة هجومية و25 طائرة شحن عسكري ثابتة الأجنحة و12 طائرة تدريب، أما قواته البرية فتتسلح بـ170 دبابة و6.967 مركبة عسكرية و20 مدفعًا ذاتي الحركة، فيما تمتلك قواته البحرية 18 وحدة بحرية.

هناك قول شائع يردده الضباط المتقاعدون مفاده: إن الجيش يخسر كل المعارك لكنه يكسب الحرب، وهذا صحيح بصورة كبيرة، نظرًا للدعم السياسي والشعبي المعقول الذي يجده باعتباره مؤسسة قومية بغض الطرف عن سلوك قادته الطامحين، لكنه لن يكون انتصارًا سهلًا وسريعًا.