تستقبل المدارس والجامعات التركية منذ 12 عامًا آلاف الطلاب السوريين، فالطفل الذي درس الصف الأول في تركيا عام 2011 أصبح اليوم طالبًا جامعيًّا، وربما يتحدث التركية بطلاقة أكثر من العربية.
أما حال تركيا اليوم فاختلف كثيرًا عن حالها قبل عقد من الزمان، إذ تسارعَ الاستثمار كثيرًا في قطاع التكنولوجيا، ونزلت أول سيارة محلية إلى الشوارع، وأصبحت تركيا رائدة في مجال المسيّرات والصناعات الدفاعية.
وفي عام 2018 انطلق مهرجان “تكنوفيست” بتنظيم فريق التكنولوجيا التركي “وقف تي 3” ووزارة الصناعة والتكنولوجيا التركية، وبات يعد منصة مهمة لاكتشاف مواهب الشباب وعرض ابتكاراتهم التكنولوجية، ويشار إلى أن “تكنوفيست” هو أكبر مهرجان حول العالم في مجال تكنولوجيا الطيران والفضاء، وزاره هذا العام نهاية أبريل/ نيسان الفائت حوالي مليونَي زائر.
هذا الاهتمام المتزايد بالقطاع التكنولوجي والابتكارات الشبابية شكّل فرصة ذهبية لآلاف الشباب السوريين، الذين وجدوا في تركيا ملاذًا آمنًا منذ 10 سنوات، واليوم يرون فيها آفاقًا واسعة لبناء مشاريعهم وتطوير أفكارهم ومواهبهم.
التقينا في “نون بوست” بـ عمر صبرة، وهو مسؤول القسم التصميمي والميكانيكي بفريق Braillers الذي فاز الأسبوع الماضي بالمركز الأول ضمن فئة تقنيات التعليم في مهرجان “تكنوفيست”، وهذه المشاركة الثانية للفريق في مهرجان تكنولوجيا الطيران والفضاء التركي بعد مشاركتهم بنسخة السنة المنصرمة وفوزه بالمركز الرابع فيها.
تحدثنا معهم حول فكرة مشروعهم وبناء الفريق والمشاركة في “تكنوفيست”، وسألناهم عن أهمية هذه المشاركات في تعزيز الانسجام المجتمعي السوري التركي.
الفريق والمشروع
أريد بالبداية أن أرحّب بك أستاذ عمر، وأشكرك على منحنا جزءًا من وقتك، ولعلّي أبدأ أسئلتي بأن أطلب منك تقديم نفسك وأعضاء فريقكم لجمهورنا
شكرًا لمنصة “نون بوست” على هذه الاستضافة، الداعي عمر صبرة أحد أعضاء الفريق الخمسة، طالب سنة ثالثة اختصاص هندسة الميكاترونكس في جامعة يلدز التقنية، أما بقية الأعضاء فهُم فريد الحافظ، عبادة الشحادة، بشر قلعة جي وحمزة رنة، وجميعهم طلاب سنة ثالثة أيضًا تخصص هندسة التحكم والأتمتة في جامعة يلدز التقنية.
يقوم كل شخص منّا بمهام وأدوار محددة: عبادة الشحادة قائد الفريق والمسؤول عن التقارير والقسم اللوجستي، فريد الحافظ مسؤول القسم البرمجي والخوارزميات، عمر صبرة مسؤول القسم التصميمي والميكانيكي، بشر قلعة جي مسؤول قسم الدارات الإلكترونية والتوصيلات الكهربائية، حمزة رنة مسؤول قسم التطوير والبحث.
متى أنشأتم الفريق؟ وهل كان الهدف المباشر منه المشاركة بـ”تكنوفيست”؟ ما قصة فريق Braillers؟
نعم، بداية كان الهدف الأساسي من الفريق هو المشاركة بـ”تكنوفيست” لعام 2022، وبعد النجاح الذي حققه الفريق بحصوله على المركز الرابع للعام 2022 ضمن فئة التقنيات التعليمية، توسّعت الفكرة بشكل أكبر وقررنا إعادة المشاركة في الفئة ذاتها للعام 2023، مع توسيع كبير وتطوير شامل لفكرة المشروع.
أما بالنسبة إلى اسم الفريق، فهو نابع من اسم الأبجدية الخاصة بالكفيفين، حيث يطلق عليها اسم أبجدية برايل (Braille)، وبما أن فكرة المشروع التي دخلنا فيها المجال بشكل رئيسي كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بهذه اللغة، فقد ارتأينا تسمية الفريق بهذا الاسم.
شاركتم في نسخة سابقة من “تكنوفيست” بمشروع طابعة، وفزتم بالمركز الرابع، قبل أن تحققوا المركز الأول بمشروعكم عن فئة تقنيات التعليم لهذا العام، حدّثنا عن فكرة النظام الذي قمتم بتصميمه، وما هي القيمة المضافة فيه؟
انبثقت الفكرة من النقص الذي لمسناه في دعم الجانب العلمي والثقافي لدى فئة الكفيفين، حيث كانت الفكرة للعام 2022 عبارة عن طابعة لأبجدية برايل تمكّن الكفيفين أو ذويهم من الحصول على حق من أبسط حقوقهم، وهو تحويل أفكارهم وآرائهم من الشكل المنطوق إلى الشكل المحسوس، عن طريق تسهيل طباعة النص بأبجدية برايل على الورق بشكل مباشر في المنزل، مثل أي طابعة حبر تجارية مهيَّأة للاستخدام الشخصي، على أن تكون بسعر في متناول اليد، وبحجم وفعالية مقبولَين.
بعد خوضنا للمسابقة وأخذنا للعديد من الآراء والملاحظات حول المشروع، أثار انتباهنا فقر الجانب التعليمي أيضًا لهذه الأبجدية، لذلك في العام 2023 قررنا إعادة المشاركة في الفئة ذاتها، مع توسيع فكرة المشروع من مجرد إعطاء حق الطباعة إلى إعطاء حق التعلم والتفاعل مع الأبجدية بشكل ممتع ومثير للاهتمام، ليغطي جميع الفئات العمرية.
وتعد عملية تعلم الأبجدية استثمارًا طويل الأجل بالنسبة إلى الكفيفين، وتستغرق العديد من السنوات لإتقانها، كما أنها عملية تفتقر إلى جانب تفاعلي وتنافسي بين الأفراد، إذ تعتمد بشكل شبه كامل على الجهد الشخصي للمتعلم.
لذلك عملنا عام 2023 على خلق نظام متكامل لتعلم اللغة، عن طريق توظيف فكرة الطابعة من العام 2022 مع جهاز جانبي سهل الاستخدام، إضافة إلى تطبيق حاسوبي بواجهة يمكن للكفيف استخدامها بشكل كامل، دون الحاجة إلى أي مساعدة.
لم يمنعنا توسيع الفكرة من تطوير الطابعة (السابقة) بشكل كبير جدًّا، لتصبح سرعتها قريبة من السرعة التجارية، لا سلكية، ومناسبة لأي حجم للمكتب، كما اعتمدنا في النظام التعليمي أيضًا على فكرة الألعاب التفاعلية لتدعم فئة صغار السن من الكفيفين، وتكون حافزًا لهم على الخوض في بحر العلم والمعرفة.
هل بدأتم بالتواصل مع الشركات والعمل على نسخة “تجارية” من المشروع؟
نأخذ بعين الاعتبار أن أي منتج قبل وصوله إلى رفوف المتاجر يجب أن يمرَّ بالعديد والعديد من مراحل التطوير والنمذجة، ليصل إلى شكله النهائي الذي يمكن للفئة المستهدفة الاستفادة منه بشكل فعلي وسهل، دون أي تعقيد أو مخاوف من مجهول قد لا تحمد عقباه، لذلك وفي الوقت الحالي نعمل على تطوير نسخة أفضل من المشروع، ونضع في اعتبارنا ردود الفعل والآراء من قبل مستخدمين كفيفين للنسخ التجريبية.
لذلك وبشكل مختصر، يمكنني القول إننا “نعمل” على نسخة تجارية، لكن العملية قد تستغرق أطول من المتوقع، نظرًا إلى كثرة المعايير التي يجب على المشروع تحقيقها قبل وصوله إلى يد المستخدمين.
“تكنوفيست” وكيفية المشاركة
انطلقت في 27 أبريل/ نيسان الفائت فعاليات مهرجان تكنولوجيا الطيران والفضاء بنسخته السابعة في مدينة إسطنبول، وعلى مدار 5 أيام استقبل خلالها حوالي مليونين ونصف زائر، والذي يهدف إلى اكتشاف مواهب الشباب في الابتكارات وزيادة الوعي المجتمعي بالإنتاج التكنولوجي.
كيف جاءت فكرة المشاركة بالمهرجان؟ وما هي خطوات التسجيل في المسابقات؟
نظرًا إلى تركيزنا الكبير كطلاب على الجانب النظري، شعرنا بحاجة ملحّة لإيجاد ميدان نحوّل فيه العلم النظري إلى علم تطبيقي، نكتسب به خبرة عملية تكون منطلقًا لمستقبلنا المهني، لذلك وبعد قليل من البحث والنظر كانت المشاركة في مهرجان “تكنوفيست” أفضل الخيارات التي تناسب متطلباتنا.
خطوات التسجيل كانت بسيطة وروتينية يمكن لأي شخص البدء فيها دون أي مشاكل وعبر الموقع الإلكتروني للمهرجان، أغلب المعلومات المطلوبة في التسجيل الأولي عامة ويمكن تعديلها فيما بعد، وبعد فترة تتراوح من شهر إلى 3 أشهر نأتي إلى خطوة تسليم التقرير الأول العام عن المشروع، ويكفي أن تكون فكرة المشروع متبلورة لدى أعضاء الفريق لتجاوز هذه المرحلة، وأخيرًا مرحلة تسليم التقرير الثاني التفصيلي للمشروع، وفي هذه المراحل تتم تصفية أغلب المشاريع لتصل إلى النهائيات وتعرض على أرض الواقع في المهرجان.
وفقًا للمصادر الصحفية، شارك أكثر من مليون متسابق ضمن 332 ألف فريق في 102 فئة مختلفة، ما هي انطباعاتكم عن المهرجان والمشاريع المشاركة؟
في الحقيقة، كان المهرجان مبهرًا في كل نسخه السابقة، ولم تكن هذه النسخة استثناء أبدًا، بدءًا من عروض الطيران التي تقام على مدار أيام المهرجان، مرورًا بالمنصات الخاصة بالشركات وعروض الاختراعات الحديثة، انتهاءً بالمنصات الخاصة بالمتسابقين من كل الفئات.
إضافة إلى أن حضور المهرجان كمتسابق ومشارك فعّال تجربة مختلفة جدًّا عن الحضور كزائر فقط، فكمّية العلاقات التي تربط المتسابقين على المستوى الشخصي والتنافسي تضفي روحًا لا تظهر على المشهد العام للمهرجان.
هل يقدم المهرجان أي دعم للفائزين بخصوص التجهيزات أو تطوير المشروع عدا الجائزة؟
كإجابة قصيرة.. نعم، لكن بما أن المسابقات تنقسم إلى 42 فئة، فالشروط وكمية الدعم تختلفان اختلافًا كبيرًا جدًّا، عدا عن كون بعض الفئات تقتصر على الجانب النظري كمسابقات أفكار أو محاكاة لسيناريوهات معينة، لذلك ميزانية المشاريع تكون صفرًا.
ما الآفاق التي تفتحها المشاركة في “تكنوفيست”؟ وما مزايا عرض المشروع على عدد كبير من الزوار والمهتمين؟ وكيف كان تفاعلهم مع مشروعكم؟
من أجمل التفاصيل التي عشناها كمتسابقين في المهرجان كانت عرض المشروع على العديد من الزوار، من كافة الطبقات والمجتمعات والخلفيات العلمية، إذ إن عرض المشروع على هذه التشكيلة من وجهات النظر زودنا بالعديد من الملاحظات القيّمة من زوايا رؤية متعددة وإبداعية عن المشروع، لم يكن ليتسنى لنا الوصول لها بشكل فردي، كما أن تجربة الاحتكاك بأفراد المجتمع التركي على هذا الصعيد كانت تجربة إيجابية بالمجمل.
أهمية مشاركة السوريين في النشاطات العلمية
هل يحمل أعضاء فريق Braillers الجنسية التركية؟ وهل يمكن للسوريين من حملة هوية الحماية المؤقتة أو الإقامات المشاركة في مسابقات “تكنوفيست”؟
من محاسن الصدف أن أعضاء الفريق الخمسة يشكّلون خليطًا من حاملي الجنسية التركية وحاملي هوية الحماية المؤقتة وحاملي الإقامات، ولم يواجه أي منا أي مشاكل مطلقًا من ناحية المعاملات المتعلقة بالاشتراك في المهرجان أو حضور فعالياته.
هل واجهتم تحديات تتعلق بالهوية؟ وكيف كان انطباع المسؤولين الذين عملوا معكم على دراسة المشروع أو تقييمه كونكم من أصول سورية؟
لم نواجه أي مشاكل متعلقة بتعامل مسؤولي ومنسقي المهرجان والمسابقات معنا، بل على العكس كان البعض منهم يُسرّ لدى معرفته أننا طلاب جامعيون سوريون، ويشجّعنا على المتابعة والاستمرار.
لكن لم يخلُ الأمر من المعاملة الجافة أو السيّئة من قبل بعض الأشخاص ذوي الخلفية المشوهة تجاه هويتنا، بيد أنهم لم يكونوا من المسؤولين وإنما كانت تصرفات فردية نابعة من متسابقين أو زائرين.
بشكل عام وبنسبة تفوق الـ 95% لن تواجه أي مشكلة متعلقة بهويتك مهما كانت.
يتخرج آلاف الطلاب السوريين من الجامعات التركية، وبينما نرى أسماء لامعة متفوقة كثيرة، لا يزال جزء كبير من هؤلاء الطلبة بعيدًا عن المشاركات العلمية لأسباب كثيرة، وربما يرى البعض أن تركيا لا تزال بعيدة عن دعم الشباب في المجال التكنولوجي والعلمي.
ما هي رسالتكم لليافعين والشباب السوريين والعرب في الجامعات والثانويات التركية؟
تركيا في الوقت الحالي حاضنة خصبة للمشاريع والأفكار، وليس هناك وقت أنسب من وقتنا هذا لدخول مجال الابتكارات والاكتشافات والخوض في غماره.
أعتقد أن سبب عزوف جزء من الطلاب السوريين عن المسابقات والمهرجانات كـ”تكنوفيست” وما شابهه، قد يكون الانفصال بين الجانب النظري والتطبيقي لديهم، وضعف الدافع للتجربة والمغامرة في المجالات العملية والعلمية، إضافة إلى الصور النمطية الشائعة عن السنوات الجامعية والمستقبل المهني الذي يتبعها.
لذلك أنا أرى من أهم الخطوات التي تشجّع على خوض تجارب علمية هي حضور هذه المهرجانات والفعاليات (كزائر) واستقاء الإلهام منها، ومن ثم يمكن للطالب أن يجد موطئ قدمه في المجال الذي شدَّ انتباهه، ليُقدم على التحدي وينشئ فريقًا مع أفراد فاعلين من المجتمع المحيط به.
فإن خطا هذه الخطوات ثم لم يصل المشروع إلى النهائيات أو لم يحصل على مراكز وجوائز، فكمية الخبرة التي اكتسبها الطالب لا تقدَّر بثمن، وبإمكانه المشاركة في الأعوام التي تليها بأفكار أوسع ومشاريع أكبر، وفي النهاية من زرع حصد.
ماذا تتوقعون أن يكون أثر تصدركم المركز الأول في فئتكم، خلال هذا الحدث الاستثنائي على المجتمع السوري هنا، وعلى الانسجام مع البيئة التركية الواسعة؟
وصل صدى هذا النجاح إلى شرائح متنوعة وكبيرة من الطلاب الجامعيين والأكاديميين، ونأمل أن يصل صداه إلى شرائح أخرى ليحدث فارقًا في نظرة السوريين المغتربين إلى أنفسهم، قبل أن يحدث فارقًا في نظرة غيرهم إليهم.
وإن كنا سنتكلم عن تركيبة المجتمع التركي فهي معقدة نسبيًّا، لذلك يصعب إطلاق حكم عامّ عليه (المجتمع)، لكن مما لا شكّ فيه أن النسبة المحبّة للوجود السوري ستفرح وترحّب بهذا الإنجاز وبما شابهه، أما النسبة المحايدة فقد يكون لهذا النجاح أثر إيجابي في تغيير التوجه العام لها نحو الحب بدل البغض.
اندهش كثير من زوار المهرجان عندما تعرّفوا إلى هويتنا السورية، وأغلب ردود الأفعال كانت إيجابية ولطيفة، لا سيما إحدى السيدات الزائرات التي قالت لنا: “رأيت الجانب الآخر من السوريين، سأحرص على نشر ما رأيت اليوم بين جميع معارفي”.
بالموجز، الأثر إيجابي إن شاء الله، ونأمل أن تتوالى النجاحات من المجتمع السوري المغترب ليكون قادرًا على إثبات كفاءته، رغم كل ما مرَّ به.