إن عملية تحويل الأصوات الانتخابية إلى مقاعد برلمانية عنصر حاسم في أي نظام ديمقراطي، ويحدد تكوين الهيئة التشريعية، ويمكن أن يكون له آثار مهمة على كيفية حكم الدولة.
يهدف هذا المقال إلى تقديم شرح موجز للأنظمة المختلفة المستخدمة لترجمة الأصوات الانتخابية إلى مقاعد برلمانية، مع التركيز على النظام المستخدم في تركيا.
شارك في انتخابات الدورة الـ 27 لاختيار أعضاء الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا (البرلمان التركي)، التي أُجريت في 24 يونيو/ حزيران 2018، أكثر من 49 مليون ناخب من أصل أكثر من 56 مليون شخص يحقّ له التصويت، حيث وصلت نسبة المشاركة إلى 88.18%، وبلغت نسبة الأصوات الباطلة مليونًا و32 ألفًا و799 صوتًا، وهذا يعني أن هناك أكثر من 48 مليون صوت صحيح.
والمقصود بالأصوات الباطلة أو غير الصحيحة هي الأصوات التي لا يمكن احتسابها، نتيجة وضع علامة غير صحيحة على ورقة الاقتراع المستخدمة في الانتخابات، أو تركها فارغة أو وضع علامة على أكثر من مرشح.
لا تؤثر الأصوات غير الصالحة بشكل مباشر على نتائج الانتخابات، ولا يتم استخدامها لتحديد الفائز، إلا أن وجود هذا الرقم الكبير من الأصوات الباطلة في الانتخابات البرلمانية الماضية يشير إلى جهل في عملية التصويت لدى بعض الناخبين، أو تعمُّد الناخب عدم منح صوته لحزب أو مرشح معيّن.
هل التصويت إلزامي في تركيا؟
بموجب القانون التركي، فإن المشاركة بالانتخابات حق لكل مواطن بلغ الـ 18، إلا أن ممارسة هذا الحق إلزامية، ويفرض المجلس الأعلى للانتخابات (YSK) غرامة على المواطن الذي لا يشارك في التصويت.
في استفتاء عام 2017 حدد المجلس غرامة عدم التصويت بــ 22 ليرة تركية، لكن لم يتم الإعلان بعد عن مقدار عقوبة عدم التصويت في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر إجراؤها يوم الأحد 14 مايو/ أيار الجاري.
ومع ذلك، لا يبدو أن هذا يردع الكثير من الناس عن الامتناع عن التصويت، لكن بشكل عام نسبة مشاركة الناخبين الأتراك في الانتخابات عالية جدًّا، فقد تحولت تركيا خلال العقود الأخيرة إلى واحدة من الدول التي تشهد أعلى نسبة مشاركة في الانتخابات، إذ بلغ متوسط نسبة المشاركة 82.2% في 21 عملية انتخابية رئاسية وبرلمانية منذ عام 1950، وبالتالي تمتلك تركيا أحد أعلى معدلات المشاركة الانتخابية على مستوى العالم.
طُرُق ترجمة الأصوات إلى مقاعد
هناك نوعان رئيسيان لترجمة الأصوات الانتخابية إلى مقاعد برلمانية، الأول “الفائز يأخذ كل شيء”، والثاني “التمثيل النسبي”، أما نظام “الفائز يأخذ كل شيء”، المعروف أيضًا باسم نظام التعددية، هو نظام انتخابي يفوز فيه المرشح أو الحزب الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات بالتمثيل الكامل لمنطقة جغرافية معينة، مثل دائرة أو ولاية، وهذا يعني أن المرشح أو الحزب الذي يحصل على أغلبية بسيطة، أو أكبر عدد من الأصوات، يفوز في الانتخابات ويحصل على تمثيل في الهيئة التشريعية.
في أنظمة “الفائز يأخذ كل شيء”، لا يوجد تمثيل نسبي، والأحزاب الصغيرة أو المرشحون الذين لا يفوزون بأكبر عدد من الأصوات في منطقة أو ولاية لا يحصلون على أي تمثيل، حتى لو حصلوا على حصة كبيرة من إجمالي الأصوات، وهذا النظام شائع في عدد من الدول منها الولايات المتحدة وكندا.
على سبيل المثال، إذا حصل الحزب الجمهوري على 51% من الأصوات في ولاية آلاسكا في انتخابات مجلس النواب الأمريكي، في حين حصل الحزب الديمقراطي على 49% من الأصوات، فسوف يفوز الحزب الجمهوري بجميع المقاعد المخصصة لولاية آلاسكا ويكون الفائز فيها بموجب هذا النظام، بغضّ النظر عن حجم الأصوات التي حصل عليها الحزب الديمقراطي.
أما نظام التمثيل النسبي، فهو نظام انتخابي يتناسب فيه عدد المقاعد التي يحصل عليها الحزب بشكل مباشر مع عدد الأصوات التي يحصل عليها، وتهدف أنظمة التمثيل النسبي إلى ضمان تمثيل جميع المجموعات السياسية بما يتناسب مع دعمها بين الناخبين، ويمكن أن يؤدي هذا إلى انتخاب برلمان أكثر تنوعًا وتمثيلًا.
وهناك أنواع مختلفة من أنظمة التمثيل النسبي، مثل التمثيل النسبي لقائمة الحزب، والتمثيل النسبي المختلط، والتصويت الفردي القابل للتحويل، وتُستخدم أنظمة التمثيل النسبي في العديد من البلدان حول العالم، منها ألمانيا وهولندا.
طريقة هوندت في تركيا
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 14 مايو/ أيار، بدأت تُثار العديد من الأسئلة حول كيفية حساب عدد المقاعد التي سيحصل عليها كل حزب في الدوائر الانتخابية.
بمعنى آخر، كيف يتم تحويل الأصوات الصحيحة (عدد الأشخاص الذين يحق لهم المشاركة في الانتخابات المقبلة 64 مليون شخص)، إلى مقاعد البرلمان البالغة 600 مقعد؟ خاصة في ضوء قانون الانتخابات الجديد الذي تمَّ إقراره في 6 أبريل/ نيسان 2022.
يُعرَف النظام المستخدم في توزيع المقاعد البرلمانية في تركيا باسم “طريقة دي هوندت (D’Hondt sistemi)”، وهو نظام صمّمه الخبير القانوني وعالم الرياضيات البلجيكي فيكتور هوندت (1841-1901) عام 1878.
وطريقة هوندت هي نوع من التمثيل النسبي، ما يعني أن عدد المقاعد التي يحصل عليها كل حزب سياسي في البرلمان يتناسب طرديًّا مع عدد الأصوات التي يحصل عليها الحزب في الانتخابات.
يُطبّق نظام هوندت في جميع الانتخابات البرلمانية العامة والفرعية منذ عام 1961، باستثناء الانتخابات العامة للجمعية الوطنية لعام 1965 والانتخابات الفرعية للجمعية الوطنية لعام 1966، وهذا النظام لا يزال ساري المفعول في تركيا حتى اليوم.
وهناك العديد من الدول حول العالم تطبّق هذه الطريقة، مثل الأرجنتين، النمسا، بلجيكا، بلغاريا، التشيك، فنلندا، كرواتيا وجمهورية شمال قبرص وغيرها.
كيف يعمل نظام هوندت؟
لم يغير قانون الانتخابات الجديد في تركيا طريقة تحويل الأصوات إلى مقاعد، إذ حافظ على طريقة هوندت لتوزيع المقاعد بين الأحزاب والمرشحين، لكن بموجب هذا القانون تؤخذ الأصوات التي حصل عليها الحزب بدلًا من مجموع أصوات التحالف في الاعتبار، عند احتساب المقاعد البرلمانية المخصّصة لدائرة انتخابية ما.
لذلك اعتمدت بعض التحالفات على دمج مرشحي الأحزاب الصغيرة ضمن قوائم الأحزاب الكبيرة لتجنُّب ضياع الأصوات، لأن هذا النظام يصبّ في مصلحة الأحزاب الكبيرة التي تستحوذ على الحجم الأكبر من أصوات الناخبين.
على سبيل المثال، دُمجَ جميع مرشحي أحزاب المستقبل والديمقراطية والتقدم (ديفا) والسعادة ضمن قائمة حزب الشعب الجمهوري، وإذا ما أراد الناخب أن يصوّت لأحد هذه الأحزاب فعليه التصويت لحزب الشعب الجمهوري.
بموجب النظام الجديد، يتم تقسيم إجمالي الأصوات التي حصل عليها كل حزب في الدائرة الانتخابية على 1 و2 و3 و4 على التوالي، وتستمر هذه العملية حتى الوصول إلى عدد النواب الذين سيتم انتخابهم من قبل تلك الدائرة الانتخابية، ويمكن توضيح ذلك بالمثال الآتي:
لنفترض أنه في محافظة كيليس حصل حزب العدالة والتنمية على 36 ألف صوت، بينما حصل حزب الشعب الجمهوري على 17 ألف صوت، والحزب الجيد على 12 ألف صوت، وحزب البلد على 6 آلاف صوت. السؤال كيف سيتم توزيع المقاعد المخصصة لمحافظة كيليس البالغة مقعدَين بين هذه الأحزاب وفقًا للنتائج أعلاه؟
بموجب نظام هوندت سيتم منح المقعد الأول للحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد، أي حزب العدالة والتنمية، ولمنح المقعد الثاني يُنظر إلى أكبر عدد من الأصوات المتبقية. بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية سيتم تقسيم أصواته على 2، وهو رقم المقعد الثاني، فيصبح عدد أصواته 18 ألف صوت، هنا يُنظر أيضًا إلى أكبر عدد من الأصوات، وهذا يعني أن المقعد الثاني سيكون أيضًا من حصة حزب العدالة والتنمية.
في حين أن الأحزاب الأخرى لن تحصل على أي تمثيل في البرلمان، رغم حصولها على عدد كبير من الأصوات، أما في ظل النظام القديم -ما قبل تعديل قانون الانتخابات- الذي ينظر فيه إلى الأصوات التي يحصل عليها التحالف وليس الحزب، فإن المقعد الثاني سيذهب إلى تحالف الأمة بعد جمع أصوات حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد لتصبح 29 ألفًا (17 ألفًا + 12 ألفًا).
وإذا افترضنا أن محافظة كيليس تمتلك مقعدًا ثالثًا في البرلمان، فسيكون من حصة حزب الشعب الجمهوري، باعتبار الأصوات التي حصل عليها هي الأكبر (17 ألفًا)، وذلك بعد تقسيم أصوات حزب العدالة والتنمية على 3 فتصبح 10 آلاف صوت.
وفي حال وجود مقعد رابع سيذهب إلى الحزب الجيد، باعتباره أصبح يملك العدد الأكبر (12 ألف صوت)، وهكذا تستمر العملية حتى توزيع كامل المقاعد البرلمانية المخصصة للدائرة الانتخابية.
باختصار، يعد نظام هوندت صيغة رياضية تُستخدم لتخصيص المقاعد بشكل متناسب للأحزاب أو المرشحين، بناءً على حصص التصويت الخاصة بهم، وهي تعمل عن طريق قسمة مجموع أصوات كل حزب على سلسلة من القواسم (1، 2، 3.. إلخ)، وتخصيص المقاعد لأعلى حاصل قسمة حتى يتم ملء جميع المقاعد.
مع ذلك، هناك العديد من العيوب لهذا النظام، منها أنه يميل إلى تفضيل الأحزاب الكبيرة على الأحزاب الصغيرة، لأن الأحزاب الكبيرة لديها حصص أعلى في الجولات الأولية لتخصيص المقاعد.
يمكن أن يؤدي هذا إلى تمثيل مفرط للحزب الأكبر وتمثيل أقل للأحزاب الأصغر، كذلك لا يأخذ نظام هوندت في الحسبان المعايير الأخرى التي قد تكون ذات صلة بالتمثيل العادل، مثل الجنس أو العرق أو الأيديولوجيا أو الدين، فهو ينظر فقط في حصص التصويت للأحزاب أو المرشحين، والتي قد لا تعكس تنوع جمهور الناخبين، وهذا يمكن أن يقلل من تنوع وتمثيل الهيئة المنتخبة.