ظلت القبائل السودانية، وهي تنظيم أبوي، فاعلًا في الشأن العام، مستفيدة بشكل كبير من عدم امتلاكها لتوجه سياسي محدد، ما جعل جميع الأنظمة تحاول استخدامها لصالحها مقابل مكرمات السلطة.
ويُعتبر الاستعمار أول من فطنَ لاستخدام القبائل في تثبيت أركان حكمه، حيث عمد إلى إتباع نظام لا مركزي في إدارة السودان لتقليل التكاليف الإدارية والمالية، لعب فيه زعماء ووجهاء القبيلة دورًا كبيرًا في فرض الأمن وجمع الضرائب نظير الاعتراف بهم كسلطة محلية.
يبلغ عدد قبائل السودان قرابة الـ 570 قبيلة، تنقسم إلى 57 مجموعة عرقية على أساس الخصائص الإثنوغرافية والثقافية واللغوية، وتتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة
صحيح أن وجود القبائل يسبق الاستعمار البريطاني بآلاف السنين، لكنه أول من وظفها سياسيًّا عبر تنظيم الإدارات الأهلية لخدمة أهدافه، بمنحها صلاحيات قانونية تشمل القضاء الأهلي الذي يقوم على فضّ منازعات الأفراد والأُسر عبر العُرف، مراقبة الخدمات، تخصيص الأراضي، تعزيز التعايش السلمي ورعاية العلاقات الودّية في مناطق التداخل القَبَلي.
ويبلغ عدد قبائل السودان قرابة الـ 570 قبيلة، تنقسم إلى 57 مجموعة عرقية على أساس الخصائص الإثنوغرافية والثقافية واللغوية، وتتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة.
يمتلك زعيم القبيلة الأول سلطة مطلقة في قبيلته التي يدين جميع أفرادها له بالولاء، وهو يدير القبيلة بالوسائل التقليدية كقواعد الأخلاق والعُرف والشريعة، التي يعتقد فيها أفراد القبيلة التي يُدافع عنها وعن أراضيها بضراوة.
وتعدّ قبائل الحلفاويين والدناقلة والمناصير والرباطاب أبرز القبائل التي تقطن شمال السودان الذي تتوزع في وسطه قبائل عديدة، مثل الجعليين والجموعية والعبدلاب والبطاحين والشكرية ورفاعة، فيما تسكن قبائل مثل الهدندوة والبني عامر والبشاريين والعبابدة شرق البلاد، أما في غربها توجد قبائل كثيرة من بينها الفور والرزيقات والزغاوة والمساليت والكبابيش، بينما تقطن قبائل مثل النوبة والحوازمة والمسيرية مناطق كردفان.
وتتداخل هذه القبائل في بعض المناطق داخل السودان، كما يوجد تداخل بينها وبين قبائل أخرى خاصة في شرق وغرب البلاد، وهو أمر قاد إلى أزمات اجتماعية في ظل عدم اعتراف العقل القَبَلي بالحدود السياسية.
تراتبية السلطة القَبَلية
يقوم نظام الإدارة الأهلية على حكم النظار والعُمد والشيوخ في الوحدات الإدارية التابعة للقبيلة، وهذه المسميات في القبائل العربية، أما القبائل الأفريقية تستخدم ألقابًا أخرى، حيث تطلق قبيلة المساليت على زعيمها مسمّى السلطان، فيما تسمّي قبائل الفور ألقاب الشرتاي والدمنقاوي والفرشة.
ويمتلك زعيم القبيلة الأول مختلف المسميات، سواء ناظر أو سلطان أو شرتاي، وسلطة مطلقة في قبيلته التي يُدين جميع أفرادها له بالولاء، وهو يدير القبيلة بالوسائل التقليدية كقواعد الأخلاق والعُرف والشريعة، التي يعتقد فيها أفراد القبيلة التي يدافع عنها وعن أراضيها بضراوة.
وعادة ما يتوارث الأبناء منصب الناظر عن آبائهم بغضّ الطرف عن أهليتهم، ولهذا ظلت القبيلة في السودان يتحكم فيها النظام الملكي الوراثي التقليدي، لكن يمكن للعُمد عزل الناظر وتنصيب آخر محله من الأسرة ذاته، لكن نادرًا ما يتحدون على قرار.
نظام الإدارة الأهلية تأسّس على موالاة الحاكم، سواء أكان وطنيًّا أم أجنبيًّا، وظل هذا النمط من العلاقات مع الحكومات المتعاقبة وبقيَ على حاله.
ويلي الناظر في تراتبية السلطة القَبَلية العمدة، وهو منصب يمنَح لزعماء فروع القبيلة ويورَث أيضًا، حيث يقوم بإدارة منطقة نفوذه التي تُسمّى عمودية، ويلي العُمد الشيوخ، وهو يُدير قرية أو حيًّا سكنيًّا، وتنحصر مهام العُمد والشيوخ في تسوية خلافات الأسرة وملكية الأرض والاعتداءات على الزراعة.
جنّبت الإدارة البريطانية الدخول في احتكاكات مباشرة مع تقاطعات المجتمع والتعامل مع القرى والمدن الريفية، وفي مقابل هذه الخدمات يحتفظ المستعمر لزعماء الإدارة الأهلية بأوضاع وامتيازات خاصة، تمنح لهم الألقاب وتتوفّر لهم إمكانات على قلتها لبسط نفوذ سلطتهم
يقول الباحث في التاريخ الاجتماعي، الجميل الفاضل، إن أدوار الإدارات الأهلية ظلت تتغير مع التحولات التي تشهدها البلاد، إلى أن ورثها النظام الاستعماري واستطاع توظيفها في سياق ما يمكن أن يخدم أغراضه، ومثّلت هي الأخرى صمام أمان ما بين مفتشي مراكز الإنجليز، لعدم رغبة الحكومة الدخول في احتكاكات مع المجتمع السوداني.
ويشير إلى أن الإدارة الأهلية قدمت ولاءً كاملًا للمستعمر، بجانب كل ما كان يبتغيه دون أن يخسر أي مجهود، في ما يتصل بجمع الجبايات وتمويل جهاز الحكم، بجانب فضّ النزاعات بين الأفراد والمجموعات القَبَلية.
وجنّبت الإدارة البريطانية الدخول في احتكاكات مباشرة مع تقاطعات المجتمع والتعامل مع القرى والمدن الريفية، وفي مقابل هذه الخدمات يحتفظ المستعمر لزعماء الإدارة الأهلية بأوضاع وامتيازات خاصة، تمنح لهم الألقاب وتتوفّر لهم إمكانات على قلتها لبسط نفوذ سلطتهم.
ويضيف الفاضل: “نظام الإدارة الأهلية تأسّس على موالاة الحاكم سواء كان وطنيًّا أم أجنبيًّا، وظل هذا النمط من العلاقات مع الحكومات المتعاقبة وبقيَ على حاله”.
تأجيج العنف الأهلي
وصل استخدام القبائل في العمل السياسي أشدّه في حقبة الرئيس المعزول عمر البشير، حيث ضغط عليها لمبايعة النظام ودعمه ومساندته، واستغلها في التحشيد السياسي اليومي، بجانب تحويلها إلى قاعدة انتخابية، لكنه بلغ في استخدامها مرحلة بعيدة بتسليح مجموعات قَبَلية لمصلحة حربه مع جماعات دارفور.
لكن تسليح المجموعات القَبَلية بدأ في عهد حكومة رئيس الوزراء الصادق المهدي، عندما قام وزير الدفاع ورئيس حزب الأمة القومي المكلَّف حاليًّا، الجنرال المتقاعد فضل الله برمة ناصر، بتوزيع السلاح إلى القبائل العربية في مناطق دارفور وكردفان المتاخمة لجنوب السودان.
يقول تقرير نشره موقع “عاين” إن الغرض من تسليح القبائل آنذاك، ظاهريًّا، هو حماية مواشيهم من استهداف الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، لكن الهدف المستبطن أن تعمل كميليشيات مع الجيش لمحاربة الحركة وحماية الدين والهوية العربية.
وطوّر نظام البشير هذه الاستراتيجية في دارفور، حيث وزّع السلاح على القبائل العربية صانعًا منهم أمراء حرب، مثل موسى هلال ومحمد حمدان دقلو “حميدتي”، ليقاتلوا عنه بالوكالة الحركات المسلحة التي ينحدر معظم مقاتليها من القبائل الأفريقية.
انتشار التعليم في شمال ووسط السودان أدّى إلى تقليل سلطة نُظار القبائل، فيما قاد انتشار الأسلحة في شرق وغرب البلاد إلى زعزعة هذه السلطة، لكن الفكر القَبَلي والذي يتجلى بصورة في الإعزاز بالأصل العرقي والتباهي بامتلاك الأعراق الأراضي، لا يزال يُسيطر على عقلية السودانيين بصورة كبيرة.
ويشير تقرير نشره مشروع مسح الأسلحة الصغيرة التابع للمعهد العالي للدراسات الدولية والتنموية بجنيف، في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، عن القوات شبه المسلحة والميليشيات الموالية للحكومة؛ إلى أن بداية تسليح قبيلتَي الرزيقات والمسيرية حدثت عام 1987، حيث كان رئيس الوزراء الصادق المهدي.
أصبح أفراد القبائل المسلحون يرون الحرب نشاطًا طبيعيًّا وطريقة حياة متكاملة، بسبب الإيرادات الكبيرة التي توفّرها لهم بجانب المكانة الاجتماعية في المجتمع المحلي.
ويلفت التقرير إلى أن نظام البشير بدأ في تجنيد ميليشيات جديدة في دارفور، من الأبالة أي رُعاة الأبل من قبيلة الرزيقات بولاية شمال دارفور، الذين كانوا في صراع على الأرض مع المجموعات غير العربية المتَّهمة بدعم المتمردين.
وفي الولاية ذاتها، وفقًا لتقرير مشروع مسح الأسلحة الصغيرة، سلّح واليها عثمان كبر بدءًا من عام 2011 قبائل غير عربية، من بينها البرتي والتنجر والميما والبرقد، مُشكّلًا منهم ميليشيات استهدفت قبيلة الزغاوة.
ونتيجة لذلك، انتشر العنف الأهلي بين القبائل وامتدَّ حتى وصل شرق السودان والنيل الأزرق بصورة أقل، في ظل انتشار السلاح وفشل الحكومة في جمعه، ويزكي هذا العنف الطاعة العمياء لأفراد القبيلة مثلما ينظر مواطنو أي دولة إلى عَلَمهم الذي يعدّ رمزًا للسيادة، ويعتقدون أن أي مساس به بمثابة حطّ لكرامتهم، وساهم في ذلك النزاع القَبَلي رغم انتشار التعليم.
وبمرور الوقت، أصبح أفراد القبائل المسلحون، حتى الذين انضموا إلى قوات الدعم السريع، يرون الحرب نشاطًا طبيعيًّا وطريقة حياة متكاملة، بسبب الإيرادات الكبيرة التي توفّرها لهم بجانب المكانة الاجتماعية في المجتمع المحلي.
استمرار الاستخدام
ساهم تقليص نظام الرئيس عمر البشير في مساحات العمل المدني السياسي لمخاوف تتصل بتقويضه، في انتشار الفكر القَبَلي بصورة كبيرة، حتى في المناطق التي تشهد استقرارًا أمنيًّا وتعليمًا مستقرًّا.
ولم تسعَ القوى السياسية الحديثة، مثل التجمع الاتحادي والمؤتمر السوداني، إلى السيطرة على الفضاء الذي تتحرك فيه القبائل، ربما لعدم إثارة غضب قوى حليفة تعتمد بصورة كبيرة على النفوذ القَبَلي، مثل حزب الأمة القومي الذي لا يزال بعض قادته يعتبرون مناطق كثيرة في دارفور وكردفان والنيل الأبيض بمثابة دائرة انتخابية مغلقة لصالحهم.
وارتكزت الاحتجاجات الشعبية ضد نظام البشير على فكرة تجاوز المناطقية والقَبَلية من جملة أهدافها الأخرى، لكن مجال انتشار فعالية هذا الفكر في المدن الكبرى قوّض جهودهم في المناطق الأخرى.
الفكر القَبَلي، والذي يتجلّى بصورة في الإعتزاز بالأصل العرقي والتباهي بامتلاك الأعراق الأراضي، لا يزال يسيطر على عقلية السودانيين بصورة كبيرة
وحاول قادة الجيش، عبر قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، إلى حشد القبائل للسيطرة على الحكم مقابل الاصطفاف الذي يُنادي بمدنية الدولة، حيث قدّم لهم الأموال والسيارات، لكن هذه الجهود فشلت بسبب الضغط السياسي المحلي والدولي على العسكر.
لم يكتفِ العسكر بهذه المحاولة، فعمدوا في سبتمبر/ أيلول 2021 إلى تحريض زعيم قبيلة الهدندوة، محمد الأمين ترك، على فرض حظر على شرق السودان وإغلاق الطرق البرّية التي تربطه بالعاصمة الخرطوم، وإغلاق موانئ البلاد على ساحل البحر الأحمر، إضافة إلى تنظيم في محيط القصر الرئاسي شاركت فيه مجموعات باسم قبائلها، وذلك لتهيئة الأجواء للانقلاب العسكري الذي نُفّذ في 25 أكتوبر/ تشرين الأول.
في النهاية، ورغم انتشار التعليم في شمال ووسط السودان، تم تقليل سلطة نُظار القبائل، فيما قاد انتشار الأسلحة في شرق وغرب البلاد إلى زعزعة هذه السلطة، لكن الفكر القَبَلي، والذي يتجلّى بصورة في الإعتزاز بالأصل العرقي والتباهي بامتلاك الأعراق الأراضي، لا يزال يسيطر على عقلية السودانيين بصورة كبيرة.