عادةً ينتظرني صغار البناية التي أسكنُها حين أعود من عملي الصحفي، يريدون قطع الحلوى والسكاكر، لا يعرفون اسمي فيسمونني كما أسمع همساتهم “خالتو اللي بتعطينا شوكولاتة”، أحيانًا لا أنتبه لوجودهم فيلاحقونني حتى ألحظهم، يفرحون بالشوكولاتة، ومن لا يفرح بها؟
لاحظت إحدى المرات تهرّبهم مني، وتكرر الأمر في اليوم التالي عندما سمعت صغيرة تقول: “جاءت، الآن حيقصفونا اليهود”، بكت وهربت، ناديت عليها لم تجب، فردَّ صغير آخر بنبرة حادة: “إسرائيل بتقصف الصحفيين، ما تيجي على البناية”.
حاولت تهدئة الصغار وأنه لن يحدث شيء من هذا القبيل، خاصة أن طبيعة عملي هي كتابة التقارير والقصص الإنسانية، لم يستوعبوا ما أقول فصعقني أحدهم بردّه، وتحديدًا وقت معركة “سيف القدس” في مايو/ أيار 2021، حين قال: “الصحفي يوسف أبو حسين قصفوه وهو نائم، يعني اليهود ما بفرّقوا عند القصف أين يكون الصحفي”.
هذا موقف واحد أعيشه كصحفية منذ أكثر من 10 سنوات وقت التصعيد على قطاع غزة، أشعر بضغط كبير خاصة حيت تأتيني الأسئلة من أشخاص عاديين: “ماذا سيحدث؟ أين سيقصفون؟ متى سيعلن موعد التهدئة؟”، ثم أُجلَد بعبارات أخرى: “الحق على الصحفيين يولعون الأحداث بتقاريرهم (..) احكي للمسؤول بكفي زهقنا تصعيد”، وكأن الأمر بيدي وأتقلد منصبًا كبيرًا أحرّك ما أشاء من أحداث ومسؤولين.
ذكريات ومواقف
ليس سهلًا أن تكون صحفيًّا تعمل في قطاع غزة وقت العدوان الإسرائيلي، فالضغط الذي يمارسه المواطنون يفوق ضغط العمل، لا سيما لو كان عملك يتبع لتنظيم معيّن، فتجدُ المعارض يجلدك كما لو كنت تضع الخطط الحربية.
أذكر في عدوان 2014، عدت إلى بيتي في شمال القطاع بعد شهر من النزوح، وذلك بعد إلحاح من الجيران أن الوضع هادئ، سمعت كلامهم فكانت الليلة الأولى القاضية لسكان تلك المنطقة، حيث ارتقى عشرات الشهداء وقُصف المسجد العمري المقابل لبيتي مباشرة.
هربت بصحبة زوجي إلى أقرب بيت لا نعرف أصحابه، فقط كنا نشاهد الناس يدخلونه، وجوه غريبة لا أعرف أيًّا منها، وضعوا كلًّا من الرجال والنساء في طابق لا تتجاوز مساحته الـ 30 مترًا، وبعد فترة بسيطة كان يأتي أحد الشباب وينادي: “فلانة أمك استشهدت، فلانة بيتكم انقصف”، قضيت تلك الليلة أدفع بالثواني لكن عقرب الساعة كان يخذلني ومضت ساعات الليل ثقيلة.
فجأة رنَّ هاتفي المحمول، علمت النسوة أنني صحفية، كنت أحاول ألا أظهر هويتي الصحفية أمامهن، أخبرني في الاتصال مديري أن سيارة الصليب الأحمر قريبة ولا بدَّ من التحرك والمشي إليها مسافة 20 مترًا، بعد نقاش رفضت الخروج، خاصة أن القذائف كانت تقع أمام البيت، وقتها علمت النسوة ما يجرى، فأخذن يتمتمن بعبارات ترفض وجودي، بقيت صامتة أبكي طيلة الوقت.
تجرّأت أكبرهن سنًّا على طرح سيل من الأسئلة بحجّة تمضية الوقت لننسى صوت الصواريخ، فسألتني: “أين تعملين؟ لأي تنظيم سياسي يتبع عملك؟ أين تسكن عائلتك؟ هل أنتِ مواطنة أم لاجئة..؟”، كنت أحاول طمأنتهن، خاصة أن غالبيتهن تتبع عوائلهن لتنظيم معارض، وطيلة الوقت يلقين لوم التصعيد على التنظيم الذي يتبعه عملي.
وأكثر ما يعانيه الصحفي في قطاع غزة وقت العدوان هو نزوحه، حال كان بيته في المناطق المستهدفة أو الحدودية، فلا أحد يستقبله سوى بعض الأقارب الذين يسكنون منتصف مدينة غزة -يعتبرونها أكثر أمنًا-، أو أصدقاء يفتحون بيوتهم، فالناس يظنون أن من يعمل في مهنة الصحافة مستهدف كما المقاوم.
ورغم أنه في حقيقة الأمر الصحفي يقاوم بالكلمة والصوت والصورة، لكن ليس بتلك الصورة التي يرسمها المواطنون، لكن لا أحد يلومهم، فمشاهد قصف المقرات الإعلامية وأسماء الشهداء من الصحفيين في كل تصعيد يدفع الناس إلى القلق والخوف، فيظنون أن الإعلامي يشارك بالتخطيط العسكري.
فقدان الزملاء والتشكيك في الهوية
وقت التصعيد يعيش المواطن في وضع نفسي سيّئ، فما بالك لو كان صحفيًّا يتبع الأحداث وينقلها أولًا بأول، ثم يفاجَأ أنه ينقل خبر استشهاد جاره أو زميله، كما حدث معي خلال عدوان 2014.
لأن مشاعر الخوف والهلع تتملكني وقت القصف الشديد، كنت أذهب إلى عملي في المقرّ البديل، وتحديدًا في “قبو أسفل إحدى البنايات” لأقضي حوالي 10 ساعات ما بين نشر الأخبار العاجلة على الموقع الإلكتروني، أو إعداد التقارير.
في بداية العدوان كنت الصحفية الوحيدة التي تأتي إلى الدوام لقرب بيتي من المقر الجديد للعمل، وكان زميلي محمد ضاهر يسكن منطقة الشجاعية شرق مدينة غزة، يأتي يوميًّا رغم خطورة الطريق.
كان يحكي كيف يغامر ويخرج من البيت من وراء زوجته وأمه، وطيلة الوقت يضحك، ثم طلب آخر مرة مني أن ألتقط الصور له لنضعها عند استشهاده.
وفي مساء اليوم ذاته وقعت مجزرة الشجاعية، كان هاتفه خارج التغطية، ثم جاء الخبر العاجل، قصف منزل زميلنا محمد، واستشهدت أمه وأبيه وشقيقه، وأصيبت زوجته وشقيقته، ثم بعد أيام أُعلن استشهاده.
حين وصل الخبر، جميعنا بكى زميلنا محمد، ثم بعد دقائق أكملنا عملنا بصمت مطبق، فالوقت يداهمنا ولا يمكن التأخر عن إنجاز المواد الصحفية التي ستُنشر أولًا في الصحيفة الورقية.
كُلّفتُ وقتها بإعداد قصة صحفية عن زميلي محمد، لم أستطع كتابة حرف واحد، فهنا كانت المرة الأولى التي أعرف معنى العمل تحت الضغط، أصلًا لم يكن ضغطًا بل كان ألمًا وقهرًا.
كيف أكتب عن زميل كنا نقضي بعض الأيام 10 ساعات في العمل نتشارك كل شيء، نختلف وتعلو أصواتنا، ثم نتفق ونضحك ونعاود الاختلاف، لكني تجاوزت ذلك حين كتبت عن طفله الذي كان جنينًا في بطن أمه المصابة.
هذه التفاصيل مرهقة لصحفي يعيش حياته المهنية والعادية وقت التصعيد، فمطلوب أن يكون مهنيًّا وموضوعيًا، وفي الوقت ذاته لديه مشاعر، لا بدَّ أن يعبّر عن حزنه وغضبه عند فقدان أحد أقاربه أو معارفه، كما حدث معي في عدوان نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، حين كان الخبر الأخير بعد 7 أيام من التصعيد هو استشهاد اثنين من أبناء خالتي، سعدي وأحمد أبو كميل، لم أكتب عنهما حرفًا حتى هذا اليوم.
ولم يتوقف الأمر عند المشاعر المختلطة وقت التصعيد، بل حين أعدُّ تقريرًا صحفيًّا وأختار شخصيات جديدة تفرضها الأحداث لعمل مقابلات معها، غالبًا يكون التواصل عبر الهاتف، في البداية ترفض هذه الشخصيات أو تأخذ وقتها لمعاودة الاتصال للحديث، وذلك بسبب التأكد من هوية المتصل، خاصة أنه تكثر حالات الاشتباه الأمني، فكثير من العملاء ينتحلون شخصية الصحفي للحصول على معلومات من شخصيات وازنة.
وقت التصعيد أحاول أن تكون أسئلتي واضحة ولا أخوض في تفاصيل يمكن الاستغناء عنها، فقبل عام كان هناك استهداف في مخيم الشاطئ غرب قطاع غزة، ذهبت إلى المكان لإعداد قصة، حاولت السؤال عن عائلة شاب من متلازمة داون ارتقى شهيدًا، وكيف كانت رعايتهم له.
أوقفني أحد رجال الأمن وطلب بطاقتي الصحفية، وبعد التأكد من هويتي طلب مني مغادرة المكان والاكتفاء بما حصلت عليه من معلومات بسيطة، استجبت ورحلت، فالجدال في مثل تلك الحالة عواقبه وخيمة، تصل إلى إصدار بيان بعدم التعامل معي أو خضوعي للتحقيق.
صحفية وطبّاخة، وما حكاية ملابس الصلاة؟
في السنوات الأخيرة بات يفضَّل عمل الكاتب الصحفي من البيت وقت الأزمات، بسبب إخلاء غالبية المقارّ الإعلامية خشية الاستهداف المفاجئ، ورغم أن المكتب الإعلامي الحكومي يوفّر خيمة تغطية كبيرة في مجمع الشفاء الطبي ومزوّدة بالإنترنت، إلا أني أفضّل العمل من البيت.
في البيت، أقلب بيد هاتفي لمعرفة آخر الأخبار، ثم أتصل بشخصية مسؤولة للتعقيب على مجريات الأحداث، وأقلب بيدي الأخرى الطبخة التي أجهّزها لتناول الغداء.
أحاول استغلال الوقت، ومع ذلك وبفعل كثرة التصعيد والتغطيات أنسى كثيرًا تفاصيل أحداث تأثّرت بها، وحين يذكّرني فيسبوك بما كنت أنشره وقتها أقلب في ذاكرتي حتى أستعيد تلك التفاصيل.
ما دونته في السطور السابقة، يشبه تمامًا وضع العشرات من الصحفيين والصحفيات الذين يعملون وقت التصعيد على قطاع غزة.
لم ينتهِ يومي بإعداد التقارير اليومية، بل أبقى على مدار الساعة في حالة ترقب، وأقتحم جميع الغرف الإخبارية عبر واتساب وتيليغرام، وأقلّب فيها علّي ألمح خبرًا تعلن فيه الفصائل الفلسطينية الهدنة ووقف إطلاق النار.
وقبل أن أخلد إلى نومي أحرص أن تكون ملابس الصلاة قربي كحال النساء الغزيات، وذلك حتى يسهل ارتداءها وقت القصف والهرب، فمع كثرة التصعيد والحروب على قطاع غزة، إلا أننا نرفض القبول والتعود على هذه الأوضاع القاسية.