أقل من أسبوع يفصل تركيا عن الاستحقاق الانتخابي الأهم منذ عقدَين، حكم فيهما حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان البلاد بشكل مستمر، إذ تأتي الانتخابات بعد سنوات تطور فيها الوجود العربي في تركيا، وتحوّل من جاليات طلابية إلى مجتمعات حقيقية منتشرة في عدد من المدن التركية.
ازدهر الوجود العربي في ظل حكم العدالة والتنمية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وظهر عدد من المؤسسات والتجمعات المنظَّمة على شاكلة الجاليات والاتحادات الطلابية والمؤسسات الإعلامية والبحثية.
تترقب المجتمعات العربية في تركيا نتائج الانتخابات وتفاعلاتها، وهي ترى أن قضية وجودها على رأس القضايا الانتخابية التي يجري النقاش حولها، وسط وعود بالترحيل أو التضييق عليهم، تصدر عن المعارضة التركية، وتحديدًا المتطرفة منها.
المجنّسون العرب: ما بين التهويل والحقيقة
دائمًا ما كانت قضية المجنّسين الأجانب على رأس جدول أعمال المعارضة التركية في الهجوم على حزب العدالة والتنمية، والمادة الأهم في التحريض على الوجود العربي وتحديدًا السوري، خاصة بعد الإجراءات الأخيرة في منح الجنسية التركية بطرق الاستثمار والشراء العقاري، بالإضافة إلى عمليات التجنيس الاستثنائية للاجئين السوريين.
تتهم المعارضة التركية -وتحديدًا حزب الظفر اليميني- الحكومة التركية بالعمل على إيجاد كتلة من المصوّتين لصالح الحزب الحاكم، عبر تجنيس مئات الآلاف من الأجانب، وهذا ما تنفيه الحكومة التركية على لسان وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، الذي أكّد في مناسبات مختلفة أن عدد المجنّسين من السوريين لا يتجاوز 230 ألف شخص ممّن تنطبق عليهم الشروط.
هذه المعطيات تدعمها تصريحات صادرة عن مساعد رئيس حزب الشعب الجمهوري والنائب في مجلس الشعب عن مدينة إسطنبول، أنورسال أديجوزال، الذي تفحّص قوائم الناخبين الأتراك بعد أن تسلّم الحزب السجل الانتخابي من هيئة الانتخابات العامة التركية، الذي قدمته في وقت لاحق لمختلف الأحزاب التركية، وانتهت بالطعن عليه قبل اعتماده في بداية شهر أبريل/ نيسان الماضي.
ووفقًا لأديجوزال، فإن عدد الناخبين المسجّلين في السجل الانتخابي من الذين يظهر أن مكان ميلادهم خارج تركيا، وصل إلى 1 مليون و325 ألف ناخب، تحتل بلغاريا المرتبة الأولى بـ 347 ألفًا و763 ناخبًا، وفي المرتبة الثانية ألمانيا بـ 209 آلاف و394 ناخبًا.
وفيما يتعلق بسوريا وصل عدد الناخبين المقيدين في السجل التركي من مواليد سوريا إلى 167 ألفًا و703 ناخبين، فيما يصل عدد الناخبين من مواليد أفغانستان إلى 23 ألفًا و578 ناخبًا، ومن مواليد إيران 21 ألفًا و989 ناخبًا، ومن مواليد العراق 16 ألفًا و430 ناخبًا، أما عدد الناخبين المسجّلين من مواليد ليبيا فوصل إلى 6 آلاف وناخب واحد.
ووفقًا لأرقام السجل الانتخابي، فقد وصل عدد الناخبين في الانتخابات المقبلة إلى 64 مليون ناخب، أي أن نسبة المجنّسين منهم تصل إلى 2%، فيما تصل نسبة المجنّسين السوريين إلى 0.26%، ومجموع نسبة المجنّسين السوريين والأفغان والإيرانيين والعراقيين والليبيين إلى 0.36%.
وعلى الرغم من تدني النسبة مقارنة بعدد الناخبين الآخرين، إلا أنه في ظل حالة الاستقطاب الكبيرة في تركيا والتقارب ما بين المرشحين، فإن أقل النسب تشكّل فارقًا.
الجاليات العربية ومساعي التنظيم
بداية تشكُّل معالم كتلة تصويتية دفعت بعضًا من الجاليات والمؤسسات العربية إلى العمل على تنظيم الأصوات العربية، وحشدها للمشاركة في الاستحقاق الانتخابي، وسط تقديرات أن المشاركة العربية في الانتخابات العامة الماضية عام 2018 والانتخابات المحلية عام 2019 لم تكن بالمستوى المطلوب.
إذ حالت أسباب كثيرة دون المشاركة الفاعلة، على رأسها خشية الناخب العربي من المشاركة وممارسة حقه الانتخابي وركونه إلى سهولة فوز العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، ما يجعل من مشاركته غير حاسمة، بالإضافة إلى أن النقاش حول الوجود العربي لم يكن بالمستوى الحالي.
تؤمن أغلبية الوجود العربي من المجنّسين وغيرهم، أن مصالح المجتمع العربي في تركيا تكمن في بقاء حزب العدالة والتنمية في السلطة واستمرار حكومة الرئيس أردوغان لأسباب عديدة، أهمها خطاب المعارضة وتهديدها الدائم بترحيل اللاجئين السوريين والتضييق أكثر على الأجانب، وتحديدًا العرب منهم، بالإضافة إلى القرب الطبيعي لكوادر حزب العدالة والتنمية ومؤسساته من اللاجئين العرب، نتيجة خلفيتها المحافظة على خلاف الجزء الأكبر من أحزاب المعارضة.
ورغم وجود أحزاب محافظة في تحالف المعارضة، كحزب المستقبل والسعادة، ولديها خطاب متضامن مع اللاجئين وقضاياهم، إلا أن غالبية المجتمع العربي في تركيا تدرك أن تأثيرها على سلوك المعارضة محدود، وقدرتها على عرقلة أي خطوات حادة تجاه المجتمع العربي قاصرة.
هذا الأمر يجعل من خيارات الناخب المجنّس محسومة تجاه العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، وفي هذا الإطار بدأ عدد من الجاليات والمؤسسات العربية التعاون مع حزب العدالة والتنمية، وتحديدًا في مدينة إسطنبول التي تضم الجزء الأكبر من المجنّسين العرب، للعمل على تشجيع وتوعية الناخب العربي للمشاركة في الاستحقاق الانتخابي، من خلال عقد لقاءات عامة جمعت كوادر من حزب العدالة والتنمية ونشطاء وناخبين مجنّسين، كما جرى تنظيم عدد من الزيارات لبيوت هؤلاء وحثّهم على المشاركة في الانتخابات.
وتشكّلت عدد من لجان العمل المشتركة ما بين الحزب والجاليات والمؤسسات العربية، نتجَ عنها فرق عمل تطوعية مهمتها إرشاد الناخب المجنّس وتمكينه وتشجيعه على الإدلاء بصوته، بحيث تعمل قبل الاستحقاق الانتخابي عبر التوعية والحشد والتعبئة، وخلال يوم الانتخابات عبر توفير الإرشاد والترجمة لمساعدة الناخب في التصويت، وإزالة أي تخوف أو قلق يمكن أن يمنعه من ذلك.
ومن المرجّح أن تشهد الانتخابات الحالية نسبًا أعلى للمشاركة، خاصة في ظل الاستقطاب المرتفع الذي تشهده تركيا، وشعور الناخب المجنّس بالتهديد.
ماذا عن اللاجئين؟
تتباين أرقام العرب المتواجدين في تركيا، كما تتباين أشكال وجوده من مجتمع الطلبة إلى المجنّسين والمقيمين، وصولًا إلى مجتمع اللاجئين الذي يشكّل الكتلة الأكبر من المجتمع العربي، ويتركز على اللاجئين العراقيين الذين يتجاوز عددهم تقديريًّا حاجز الـ 100 ألف، والأهم اللاجئين السوريين.
وفقًا لآخر تصريح صادر عن وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، فقد وصل عدد المجنّسين من السوريين إلى 230 ألفًا و998 سوريًّا، ووفقًا لتقديرات غير رسمية وصل عدد اللاجئين السوريين في تركيا إلى 4 ملايين، ما يعني أن 5.7% منهم يحمل الجنسية التركية التي تمنحه وضعًا قانونيًّا مستقرًّا، فيما تعاني البقية من حالة من عدم الاستقرار الواضح على المستوى القانوني والاقتصادي والسياسي، وحتى المجنّسين منهم تتوالى تهديدات المعارضة لهم بسحب جنسياتهم، رغم عدم واقعيتها وصعوبة تحققها.
على مدار الفترة الماضية، شكّلت قضية اللاجئين السوريين المادة الأهم في النقاش السياسي التركي، لدرجة أن حزب النصر المتطرف تقوم سرديته السياسية وبرنامجه الانتخابي على قضية اللاجئين السوريين والتعامل معهم.
ويتفق معهم في ذلك مرشحهم لانتخابات الرئاسة سنان أوغان، ما يجعل من اللاجئين السوريين في عين عاصفة الانتخابات، وهنا دائمًا ما يتكرر السؤال: كيف للمؤسسات والهيئات والمنظمات العربية أن تتحرك في ظل هذه الأجواء؟
قد تشكّل عملية تعبئة اللاجئين المجنّسين من السوريين والعرب خطوة مهمة في حراك المنظمات العربية في تركيا، ومن الممكن أن تكون بداية تجمع هذه المؤسسات وتعاونها لتدشين المرحلة مقبلة.
فالاكتفاء بالعمل مع المجنّسين غير كافٍ، وينمّ عن قصور في الرؤية، فأغلب هذه المؤسسات لا تملك حتى اللحظة تصورًا عن الكيفية التي سوف تعمل بها في الفترة المقبلة، ولا تملك كذلك القدرة الحقيقية على إيجاد اتصال حقيقي مع مجتمعات اللاجئين السوريين في مختلف المدن التركية.
وفي ظل هذه الأوضاع الحساسة، يبدو من الأهمية العمل على توفير التوعية اللازمة لهؤلاء، والأهم العمل على تطوير رؤية للمرحلة المقبلة، سواء فاز حزب العدالة والتنمية أو جاءت المعارضة، فالوضع القائم من المؤسسات السياسية والإغاثية والاجتماعية وحتى التنظيمات السياسية العربية لا يظهر أي حراك أو نقاش لما يجب عمله وكيفية ذلك.
ولا يعاني الوجود العربي من نقص في النخب أو المؤسسات أو حتى المنظمات السياسية، بل العكس، فعلى مدار السنوات الماضية تحولت تركيا إلى الوجهة الأولى للنخب العربية خارج الوطن العربي، لكن رغم ذلك دائمًا ما يُطرح سؤال: لماذا هذه الفجوة ما بين المجتمع العربي في تركيا ونخبه السياسية والإعلامية والتنظيمية؟
لعلّ جزءًا كبيرًا من الأزمة يعود إلى تصور هذه النخب لدورها واستشعارها لمسؤوليتها الاجتماعية والسياسية أمام هذه الجماهير، إذ تمارس هذه النخب السياسية في تركيا من دون أي عمق شعبي حقيقي يدفعها إلى الالتزام بقضاياه ومعاناته.
ختامًا، على مدار الأشهر الماضية لم تعد “إسطنبول العربية” كما كانت قبل 5 سنوات، إذ كانت مركزًا يعجّ بالنشاط العربي السياسي والتجاري والإعلامي، ويمكن ملاحظة حالة من التراجع في النشاط العربي بصوره المختلفة، عززها ازدياد إجراءات الدولة التركية على صعيد الإقامات، ومعدلات التضخم المرتفعة.
عند النظر إلى المقيمين العرب في تركيا، نلاحظ أن جزءًا منهم طلاب يحملون الإقامة الطلابية، وجزءًا حصل على الجنسية التركية، أما الجزء الأكبر فهم من اللاجئين أصحاب بطاقات الحماية المؤقتة، وجزء آخر ممّن يحمل الإقامة قصيرة الأجل أو الإقامة السياحية، بالإضافة إلى إقامة العمل.
يلاحظ أن جزءًا معتبرًا من الوجود العربي في تركيا لا يتمتع بوضع قانوني مستقر، ما يجعله عرضة لأي تغيير في السياسات الحكومية، من هنا تأتي خشية العرب من أي تغيير في شكل السلطة السياسية في تركيا، خاصة في ظل أطروحات المعارضة للحدّ من الوجود العربي في تركيا.
قد يكون من الصعوبة على المعارضة أن تذهب إلى خطوات حادة في التعامل مع الوجود العربي، وتحديدًا اللاجئين منهم، لكن ذلك لا يعني أنه لن يتعرض الوجود العربي للتضييق في حال فوز المعارضة بالحكم، وهذا ما تعبّر عنه أحاديث الناس وهواجسها على وسائل التواصل الاجتماعي.