ترجمة وتحرير: نون بوست
لماذا يعتقد المراقبون الأجانب أن انتخابات 2023 في تركيا أهم انتخابات في العالم هذه السنة؟
بات هذا السؤال أكثر إثارة للاهتمام بالنظر إلى حقيقة أن حزب العدالة والتنمية فاز حتى الآن بحوالي 15 انتخابات مختلفة في 21 سنة. وبالتالي، فإن السؤال المطروح الآن هو كيف يمكن للحزب الذي ظلّ في السلطة لفترة طويلة أن يقدم وعودًا تجذب انتباه ملايين الناخبين؟ من أين يستمد حزب العدالة والتنمية قوته للوصول إلى مستويات قياسية في تركيا؟ دعونا نحاول الإجابة على هذه الأسئلة.
في الماضي، كانت دوائر المعارضة تتساءل “ما هي الحيلة السحرية التي سيستخدمها أردوغان في هذه الانتخابات؟” في السنوات الأخيرة، أصبح السؤال “هل سيتمكن أردوغان من تسخير قواه السحرية في هذه الانتخابات؟”.
قبل كل شيء، هناك نقطة أساسية واحدة يجب التأكيد عليها بشأن سلوك الناخب: عند التصويت لحزب ما، لا يعلم الناخبون من سيكون المرشح الفائز، لكن هذا مجرد وهم زائف يحجب حقيقة مهمة. إذا كان الناخبون سيصوتون كحيلة، فستبقى الأحزاب السياسية في السلطة لمدة أقصاها فترة واحدة.
بالنسبة لحزب سياسي ظل في السلطة لفترة طويلة، فإن التحضير للانتخابات لا يقتصر على تقديم الوعود، وتقديم بيان انتخابي، وتنظيم التجمعات المزدحمة، ونشر الإعلانات في وسائل الإعلام. على الرغم من أن هذه الجهود تعد ضرورية بلا شك، ولا يمكن تحفيز الناخبين وحشدهم دونها. ومع ذلك، فإن مثل هذه الممارسات لا تمكن من الفوز في الانتخابات. بدلا من ذلك، يُعد رصد الناخبين لممارسات الأحزاب والقادة السياسيين بين الماضي والحاضر هو العامل الرئيسي.
الأحزاب السياسية والناخبون
قد تتبع الأحزاب السياسية، سواء تلك التي في السلطة أو في معسكر المعارضة، سياسات معيبة في بعض الأحيان. وقد يسيئون إلى شريحة من الناخبين، مما يؤدي بالناخبين المستائين إلى النأي بأنفسهم عن ذلك الحزب. كما سيشعر الناخبون المهمشون بالسخط من هذا الوضع، وعندما يغضب مجموعة الناخبين من حزبهم، فعادةً ما يكون ذلك بسبب الرابطة العاطفية التي تربطهم به. تكشف إحدى النتائج الشائعة لاستطلاعات الرأي أن عزوف الناخبين عن التصويت دليل على شعورهم بالاستياء من سياسات حزبهم.
في المقابل؛ يتوقع الناخبون الذين يشعرون بالانتماء إلى حزب ما، ويصوتون له، وحتى يتبنون رؤية هذا الحزب للعالم كجزء من هويتهم الخاصة، من حزبهم معالجة المسائل المثيرة لاستياءههم قبل بدء الانتخابات، حتى لو خاب أملهم بشأن السياسات المنتهجة والجهات الفاعلة السياسية، فإنهم لا يتوانون عن التصويت لحزبهم.
من ناحية أخرى؛ تُظهر الأبحاث أن الناخبين الذين يشعرون بالغضب تجاه حزبهم ينتقدون الحزب المعارض وزعيمه وسياساته بشكل أكثر قسوة، إلى حد الترويج لخطاب الكراهية. ويُعد السبب الآخر الذي يدفعهم لذلك هو إضفاء الشرعية على تصويتهم لحزبهم، حتى لو انتقدوه، حتى يريحوا ضمائرهم وبالهم.
خلال فترات الانتخابات، تهدف إعلانات الأحزاب، وتحديثات الأجندات السياسية، والوعود إلى تحفيز ناخبيها الحاليين، واستعادة ثقة أولئك الذين نأوا بأنفسهم عن حزبهم، ناهيك عن اكتساب ناخبين جدد. اعتمادًا على الظروف السياسية والتغيرات الاجتماعية، تتغير توقعات الناخبين ومطالبهم السياسية.
وتتمكن الأحزاب السياسية من الصمود في حال تمكّنت من تكييف سياساتها مع الظروف الجديدة. ولكن بين سنتي 2002 و2023، تغيّرت الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بشكل كبير داخل تركيا وفي العالم بأسره، مما أدى إلى تغيير الظروف التي أوصلت حزب العدالة والتنمية إلى السلطة لأول مرة في سنة 2002.
الاستمرارية والتغيير في الإعلانات الانتخابية
كان أول بيان انتخابي لحزب العدالة والتنمية بعنوان “كل شيء لتركيا”. كان الناخبون غير واثقين من الأحزاب القائمة في ذلك الوقت إذ جرى تسويق الوعود الانتخابية في التسعينيات من خلال “سياسة الفقاعة”، وتراجعت الثقة في السياسيين والسياسات، وتفاقمت مشاكل البلاد المتراكمة منذ فترة طويلة. وباتت الحكومات لا تستطيع حلّ المشاكل القائمة ولا تقديم رؤية مستقبلية.
في ظلّ هذا المناخ اليائس؛ ركّز بيان حزب العدالة والتنمية على خطط العمل العاجلة، التي تهدف إلى استعادة الثقة بين السياسة والمجتمع، والتزم بتوسيع المشهد السياسي من خلال التحركات الديمقراطية، ووعد بإزالة العقبات التي تحول دون إرساء الحريات.
قبل انتخابات سنة 2007 في تركيا، كان حزب العدالة والتنمية الحاكم آنذاك يتعرّض لضغوطات هائلة من مراكز الجيش والإعلام والنخبة الكمالية، فأعد حزب العدالة والتنمية بيانًا انتخابيًا ووعد، أولاً، بإزالة هذه الوصاية المنسقة في الانتخابات المقبلة، وثانيًا، بمواصلة التحولات الهيكلية التي بدأها مثل توسيع مساحة السياسة الديمقراطية وإجراء إصلاحات بشكل مستمر إلى حين صياغة دستور جديد. لهذا السبب؛ كان عنوان البيان الانتخابي لتلك السنة “مع الأمن والاستقرار، لا راحة للمتعثرين”.
منذ سنة 2011
في الفترة التي سبقت انتخابات 2011، كانت تركيا على عتبة حرجة. وقد أحرزت تقدّمًا كبيرًا في مكافحة الوصاية المذكورة أعلاه، واتخذت ترتيبات هيكلية وقانونية ومؤسسية لإعادة تأهيل المجال السياسي. وقد سُنّت قوانين لإزالة العقبات التي تعترض الحريات، كما أُطلقت مبادرة “الوحدة الوطنية والتضامن” لحل المشاكل المستمرة، اقترحت رؤية “عقد تركيا الجديد: 2023” في البيان الانتخابي لسنة 2011. لم يُحدد هذا الإعلان فترة الانتخابات فحسب، بل حُدد أيضًا النموذج الأساسي ومعايير السياسة حتى سنة 2023. وسيعتمد كل بيان انتخابي أو رؤية يتم الإعلان عنها في الفترات التالية على بيان سنة 2011، الذي تمت مراجعته وتحديثه بمقترحات جديدة.
كانت فترة ما بعد 2011 منعطفًا حاسمًا أخرى لأنصار النظام القديم، الذين أظهروا مقاومة قوية وفعالة. من خلال المجازفة السياسية؛ حاولت حكومة حزب العدالة والتنمية توسيع نطاق الحريات، وزيادة رفاهية المواطنين من خلال تعزيز التنمية الاقتصادية، وحل المشاكل التي تم تجاهلها منذ فترة طويلة والعويصة مثل عملية السلام، والانفتاح على العلويين، ومنح حقوق للأقليات غير المسلمة وما إلى ذلك. وتبنت الحكومة خطابًا يناشد إرساء قيم ديمقراطية أقوى وتقديم المزيد من حقوق الإنسان، وناضلت من أجل ذلك منذ سنة 2002.
ومع ذلك؛ فقد واجهت هذا النضال سلسلة من ردود الفعل القوية غير الديمقراطية منذ سنة 2013 بدأت مع احتجاجات حديقة غيزي العنيفة واستمرت بمؤامرة الشاحنة التي استهدفت جهاز المخابرات الوطني التركي، ومحاولة الانقلاب القضائي من قبل أعضاء منظمة فتح الله الإرهابية الذين انخرطوا في القضاء بين 17-25 كانون الأول/ديسمبر 2013، وأحداث 6-7 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، وإرهاب الخنادق والحفرة التي أنهت عملية السلام، وأخيرًا محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في 15 تموز/يوليو 2016 من قبل منظمة غولن الإرهابية.
وابتداءً من انتخابات سنة 2015، بدأ حزب العدالة والتنمية في التأكيد على “الإصلاحات الدفاعية” التي من شأنها أن تتصدى للمحاولات المعاكسة التي أُطلقت منذ سنة 2013 والتي استهدفت القدرة المؤسسية للدولة وعكس آثار هذه المحاولات من خلال “إصلاحات تحويلية”. لذلك؛ أعطى الحزب الأولوية لتغيير النظام وأصبحت إعادة هيكلة الدولة أمرًا ضروريًا. وقد صيغ البيانين الانتخابيين لسنتي 2015 و2018 تماشيًا مع هذا النهج.
عتبة حرجة جديدة لحزب العدالة والتنمية
في الطريق إلى انتخابات سنة 2023؛ عمدت حكومة حزب العدالة والتنمية إلى موازنة الجهود المزعزعة للاستقرار التي حدثت منذ سنة 2013 ووفت بوعودها الانتخابية لسنة 2011 من خلال التركيز على التنمية والخدمات والسياسات الموجهة نحو الاستثمار. ونجحت الحكومة في إجراء إصلاحات ساعدت على إعادة هيكلة آليات الدولة. نتيجة لذلك؛ تمثل الانتخابات التي تصادف الذكرى المئوية لجمهورية تركيا منعطفًا حاسمًا جديدًا لحزب العدالة والتنمية. وتمثل هذه الحقبة الجديدة فترة يمكن فيها لحكومة حزب العدالة والتنمية إكمال المشاريع التي استأنفتها وتحقيق إصلاحات جديدة. بالأحرى، كان من الضروري وضع بيان انتخابي قائم على الحاجة إلى وضع سياسات تكميلية في كل مجال.
وجرى مراجعة جميع البيانات الانتخابية لحزب العدالة والتنمية وفقًا لظروف تركيا المتغيرة ومطالبها وتوقعاتها الاجتماعية والسياسية. وتتضمن البيانات مشاريع كبيرة تجذب انتباه الناخبين. وقُدمت قوائم واسعة من المشاريع المنجزة والجارية إلى الناخبين.
ويتضمن البيان الانتخابي لحزب العدالة والتنمية لسنة 2023 محتوى واسعًا. ويتكون من 6 فصول و23 عنوانًا وما مجموعه 481 صفحة. تحت كل عنوان، عُرض جرد لما فعله حزب العدالة والتنمية من الماضي إلى الحاضر متبوعًا بالتوقعات المستقبلية. وهناك اختلافات كبيرة بين البيان الذي أعده حزب العدالة والتنمية، الذي ظل في السلطة منذ 21 سنة، وتلك التي أعدتها الأحزاب السياسية الأخرى.
يشكك الناخبون فيما إذا كانت الأحزاب الحاكمة قد أوفت بالوعود التي قطعتها في الانتخابات السابقة، بينما تجاهلت وعود أحزاب المعارضة في الانتخابات المقبلة. يبدو أن أحزاب المعارضة تعطي الأولوية لسياسات الفقاعة التي تروج للبرامج الشعبوية. وبما أن حزب العدالة والتنمية يدرك جدا هذا الواقع، فإنه يذكر الناخبين في أحدث بيان انتخابي له بكل ما حققه حتى الآن تحت شعار “ما فعلناه هو ضمان لما سنفعله”. يخلق هذا التذكير أيضًا إطارًا ملموسًا لإقناع الناخبين بأنه سيوفون بالوعود الجديدة المقدمة كذلك.
من غير المتوقع أن يكون الناخبين على دراية بجميع القضايا التي تم تناولها في البيانات الانتخابية. على أي حال؛ لن يقرأ الناخبون بيانا انتخابيا مكون من 481 صفحة من الغلاف للغلاف، حيث تعد البيانات الانتخابية موجهة في الغالب لوسائل الإعلام والدوائر الدولية ومنظمات الحزب. ولا يعد البيان الانتخابي لحزب العدالة والتنمية لسنة 2023 صالحا لفترة انتخابية واحدة، بل أُعّد مع مراعاة الذكرى المئوية للجمهورية. تمامًا كما وضع البيان الانتخابي لسنة 2011 رؤية لسنة 2023، يحدد هذا البيان أهدافًا طويلة المدى.
بإيجاز، لا تعتبر البيانات الانتخابية وصفة سحرية للفوز، بل ينبغي للمرء أن ينظر إلى المدى الذي تعكس فيه الرؤية والوعود ووجهات النظر المستقبلية المنصوص عليها في البيان توقعات الناخبين، ومدى إدراك الحزب للظروف التي يمر بها البلد والعالم، من خلال تقديم وعود ملموسة وقابلة للتحقيق.
بالنظر إلى فوز حزب العدالة والتنمية بـحوالي 15 انتخابات مختلفة، فمن المنطقي أن يعتقد الناخبين بأن الحزب تمكن من تولي السلطة منذ 21 سنة لأنه كان قادرا على إجراء تغييرات فعالة، وتلبية مطالب المجتمع، والاستجابة للأزمات العالمية. وتكمن الإجابة على سؤال “ما هي وعود حزب العدالة والتنمية للناخبين؟” في رأس المال السياسي للحزب السياسي الذي حققه طوال فترة حكمه التي دامت 21 سنة والسياسات التي انتهجها.
المصدر: بوليتيكس توداي