تكشف المواجهات الإسرائيلية المتكررة مع المقاومة الفلسطينية في غزة منذ عام 2006 عن حرب تطوير من نوع آخر، تدور رحاها بين الجانبَين في ظل التصاعد الأفقي والرأسي لأداء الأذرع العسكرية التابعة للفصائل، على صعيد التسليح أو أداء مقاتليها.
ومنذ عام 2001 اتخذت المقاومة الفلسطينية في غزة جانبًا مغايرًا للشكل المعهود عليها، عبر إدخال التصنيع العسكري ليصبح أحد أهم الوحدات العاملة من خلال صناعة الصواريخ والقذائف التي بدأت بقصف أماكن قريبة جدًّا داخل القطاع قبل الانسحاب الإسرائيلي، لتصل إلى مسافة 250 كيلومترًا مع معركة سيف القدس عام 2021.
في المقابل، لم يقف الاحتلال الإسرائيلي هو الآخر متفرجًا على عملية التطوير الصاروخي للمقاومة في غزة، إذ سعى بكل الطرق الممكنة لاستهداف الصواريخ، سواء عبر القصف الجوي إلى جانب تطوير منظومة القبة الحديدية، والسعي لتنفيذ عمليات أمنية تطال المنظومة الصاروخية عبر بعض المتخابرين معه.
وشهدت جولة التصعيد الأخيرة التي انطلقت شرارتها في 9 مايو/ أيار إدخال الاحتلال الإسرائيلي لمنظومة مقلاع داوود التي تستند إلى العمل بالليزر، إذ استخدمها لإسقاط أحد صواريخ المقاومة في تل أبيب، فيما تعد تكلفة الصاروخ الواحد منه مرتفعة بمليون دولار.
ما يجري ميدانيًّا خلال المواجهات الأخيرة يعكس حجم التسابق في التطوير بين المقاومة الفلسطينية من جانب والاحتلال الإسرائيلي من جانب آخر.
في المقابل، يواصل الاحتلال الإسرائيلي استخدام تقنية القبة الحديدية في مدن الجنوب، وهي المستوطنات والبلدات المحتلة عام 1948 والتي تبعد عن القطاع مسافة تتراوح ما بين 7 إلى 40 كيلومترًا، وهو ما عرّضه لانتقادات داخلية من مستوطنيه نتيجة لاقتصار التقنية على العمق الإسرائيلي فقط.
ورغم هذه الصناعات التي يتفاخر بها الاحتلال الإسرائيلي عالميًّا، ويسعى لترويجها وبيعها في مختلف بلدان العالم التي تشهد صراعات مختلفة، إلا أن المقاومة الفلسطينية نجحت هي الأخرى في ابتكار تقنيات بديلة تمكّنها من تجاوز القبّة الحديدية ومراوغتها.
وإلى جانب هذه التقنيات البديلة، باتت المقاومة تتبع تكتيكات جديدة في قصفها الصاروخي للمدن المحتلة، من خلال توسيع رقعة النار وزيادة أعداد الرشقات الصاروخية المطلقة، فبعد أن كانت عمليات الإطلاق لا تتجاوز بضعة صواريخ، باتت الأذرع العسكرية تمتلك القدرة على إطلاق مئات الصواريخ في يوم واحد.
ويعكس ما يجري ميدانيًّا خلال المواجهات الأخيرة حجم التسابق في التطوير بين المقاومة الفلسطينية من جانب والاحتلال الإسرائيلي من جانب آخر، في ضوء تكرار المواجهات بشكل متتابع منذ عام 2006، إذ خاضت الأذرع العسكرية ما يزيد عن 10 مواجهات وجولة تصعيد.
القبّة الحديدية.. تفاصيلها واستخدامها
وظّفت شركات الصناعات العسكرية والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، الحروب على قطاع غزة من أجل تطوير منظومات دفاعية لمواجهة الصواريخ قصيرة المدى والقذائف الصاروخية المضادة للمدرّعات، وتحصين الجبهة الداخلية، إذ برزت الحاجة لذلك خلال الحرب الثانية على لبنان في يوليو/ تموز 2006.
وتعمل القبة الحديدية في مختلف الظروف والأحوال الجوية، وتشمل المنظومة عربة للتحرك يسهل نقلها من مكان إلى آخر، وتعتمد في عملها على جهاز رادار ونظام تعقُّب جوي وبطارية تحوي على 8 قاذفات صواريخ، تضم كل قاذفة 20 صاروخًا اعتراضيًّا، بكلفة 15 ألف دولار للصاروخ الواحد على الأقل، أي أن القاذفة الواحدة بحاجة إلى صواريخ اعتراضية بقيمة 300 ألف دولار، وكانت الكلفة الباهظة أحد أهم الانتقادات الموجّهة للمنظومة.
فسعر كل صاروخ معترض يبلغ عشرات الآلاف من الدولارات أمام صاروخ للمقاومة يكلف عدة مئات من الدولارات، لكن الصناعات العسكرية بررت ذلك أنه يبقى أقل كلفة من صاروخ باتريوت الجديد الذي يكلف 3 إلى 5 ملايين دولار.
خلال الحرب الثانية على لبنان، أطلق حزب الله نحو 4 آلاف صاروخ كاتيوشا أظهرت هشاشة الجبهة الداخلية الشمالية حتى ما بعد حيفا، وبالتوازي مع ذلك خاض الجيش الإسرائيلي عملية عسكرية ضد غزة أطلق عليها اسم “سيف جلعاد”، ما دفع المقاومة إطلاق 8 آلاف قذيفة صاروخية صوب مستوطنات “غلاف غزة”.
وأربك تجاوز قذائف المقاومة من غزة مستوطنات “غلاف غزة”، وسقوطها بالبلدات الإسرائيلية على بُعد 40 كيلومترًا من الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي لم تعد آمنة في ظل الوضع الجديد، وخلال الحرب على جبهتَي لبنان وغزة عام 2006، إبّان ولاية رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، أصدر وزير الحرب حينها عمير بيرتس توصياته للشروع بشكل عملي بتطوير منظومة دفاعية للأجواء الإسرائيلية من الصواريخ والقذائف الصاروخية والطائرات المسيّرة.
أطلقت تل أبيب على ابتكارها العسكري اسم “القبة الحديدية”، وهو نظام دفاع جوي نشط محمول لاعتراض الصواريخ قصيرة المدى وقذائف الهاون والمركبات الجوية غير المأهولة، حيث بدأ التصنيع بمساعدة اقتصادية من الولايات المتحدة، ورصدت ميزانية أولية بقيمة 250 مليون دولار، إذ تمَّ تطوير وتصنيع النظام من قبل شركتَي “رافايل” و”إلتا” اللتين طوّرتا وصنّعتا الرادار، بينما طوّرت شركة “إمبريست” نظام القيادة والتحكم.
في نهاية عام 2010 دخلت أولى منظومات القبة الدفاعية حيز التشغيل التجريبي، وتمَّ اختبارها بشكل عملي في مناورات تحاكي عملية عسكرية على جبهة قطاع غزة، وجُرّب النظام المخصص لصدّ الصواريخ قصيرة المدى والقذائف المدفعية التي يصل مداها إلى 70 كيلومترًا.
استغلت “إسرائيل” الحرب على غزة في مارس/ آذار 2008 لتطوير المنظومة، بعد أن وصلت صواريخ المقاومة لأول مرة بلدة عسقلان التي تبعد أكثر من 80 كيلومترًا عن غزة، ثم عادت “إسرائيل” مرة أخرى لتطويرها في العام نفسه، وفقًا للمستجدات وتطوير قدرات المقاومة وصواريخها خلال العملية العسكرية على غزة معركة الفرقان -“الرصاص المصبوب”-، بين ديسمبر/ كانون الأول 2008 و18 يناير/ كانون الثاني 2009.
ومع توسُّع مدى صواريخ المقاومة التي تطلق من غزة ووصولها إلى تل أبيب، واصلت الصناعات العسكرية والجوية الإسرائيلية تطوير منظومة القبة الحديدية، خلال عملية حجارة السجيل -“عمود السحاب”- في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، وتباعًا واصلت الاختبارات الميدانية أيضًا خلال عملية العصف المأكول -“الجرف الصامد”- في يوليو/ تموز 2014.
مقلاع داوود.. انعكاس لفشل القبة الحديدية
مقلاع داوود هو نظام صاروخي قصير ومتوسط المدى للتصدي للصواريخ التي يتراوح مداها بين 100 و200 كيلومتر، والطائرات التي تحلق على ارتفاع منخفض، وكذلك الصواريخ الموجهة، حيث أُعلن عن بدء تشغيله يوم 2 أبريل/ نيسان 2017 بحسب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وبحسب المسؤولين الإسرائيليين، يسدّ هذا النظام الفجوة بين نظام القبة الحديدية لاعتراض الصواريخ قصيرة المدى، ونظام “آرو” لاعتراض الصواريخ بعيدة المدى اللذين تستخدمهما “إسرائيل”.
جاءت نشأته حينما وقّعت الولايات المتحدة و”إسرائيل” عام 2008 اتفاقية للتطوير المشترك لنظام مقلاع داوود، بالتعاون بين شركتَي “رافايل” الإسرائيلية للأنظمة الدفاعية المتطورة و”رايثون” الأميركية، ووفقًا لوزارة الحرب الإسرائيلية، فإن نظام مقلاع داوود سيسمح في المستقبل القريب لـ”إسرائيل” بالتعامل مع التهديدات بكفاءة مرتفعة للغاية.
وتتمثل التهديدات التي يتعامل معها مقلاع داوود في الصواريخ البالستية قصيرة المدى والصواريخ الموجهة والطائرات، بما في ذلك الطائرات المسيّرة، أما عن الخصائص التقنية يتميز مقلاع داوود بمجموعة من الخصائص تتمثل في التالي:
– تحمل وحدة إطلاق الصواريخ (الراجمة) الواحدة 12 صاروخًا.
– يطلق على صواريخ نظام مقلاع داوود اسم “ستانر”.
– الصاروخ ذو مرحلتَين، حيث يتكون من جزأين، لكل واحد منهما محركه الصاروخي الخاص، وفي هذا النظام ينطلق الصاروخ وبعد فترة ينفصل جزء المرحلة الأولى، ثم يشتعل محرك المرحلة الثانية ويكمل الصاروخ طريقه إلى الهدف.
– يحتوي الصاروخ على رادار ومستشعر ضوئي إلكتروني.
– وفقًا لشركة “رافايل”، فإن النظام قادر على العمل في مختلف الظروف الجوية.
– يستخدم مقلاع داوود مفهوم “أطلِق وانسَ”، وهو يعني أن الصاروخ المعترض يتم إطلاقه من الراجمة الأرضية، ثم يكمل هو عملية التتبُّع والاستهداف للصاروخ المعادي المستهدف.
وأجري أول اختبار لنظام مقلاع داوود في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 عندما أسقط نموذجًا لصاروخ، وفي 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 تعرّض مقلاع داوود لانتكاسة مبكرة عندما فشلت تجربته بسبب عطل في جهاز الاستشعار، طبقًا لرواية خبير حضرَ التجربة.
وهناك جدل قائم بشأن مدى فعالية أنظمة الدفاع الصاروخي بشكل عام، ولعلّ من أبرز الأمثلة على ذلك نظام القبة الحديدية الذي يرى بعض الخبراء أن هناك مبالغة في تضخيم نسبة نجاحه في تدمير الصواريخ بالقول إنها تصل إلى 90%، بينما يرون أن هذه النسبة قد لا تتجاوز 5%.
ولعبت الولايات المتحدة دورًا مهمًّا في تمويل تطوير نظام مقلاع داوود، ويعتقد أن نجاح السلسلة الثالثة من الاختبارات سيعزز التأييد بين المشرعين الأمريكيين لطلب “إسرائيل” أموالًا إضافية لتمويل النظام.
صواريخ المقاومة.. من الصفر إلى 250 كيلومترًا
مرَّ تطور صواريخ المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة المحاصر بعدة مراحل، كان أولها يوم 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2001 حين سقط أول صاروخ محلي الصنع داخل مستوطنة سديروت، التي تبعد عن شمال قطاع غزة المحاصر نحو 1.6 كيلومتر، وتبنّت الصاروخ في حينه كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، والذي أطلقت عليه اسم “قسام-1″، وعمل مهندسوها على تطويره بإمكانات بدائية للغاية مقارنة مع الصواريخ الأخرى المتطورة حاليًّا.
وواصلت المقاومة محاولاتها الحثيثة لتطوير المنظومة الصاروخية التي امتلكتها، رغم صعوبة وصول المعلومات وحتى المواد المستخدمة في عملية تصنيع الصواريخ، إذ شهدت الفترة ما بين عام 2001 وعام 2007 انتشار الفكرة لتشمل مختلف الأذرع العسكرية لقوى المقاومة في قطاع غزة المحاصر.
وكانت الصورة في حينها تشير إلى مدى بدائية الصواريخ خلال تلك الفترة والمدى الذي كانت تبلغه، وحتى طريقة الإطلاق مقارنة مع الصواريخ الحالية التي تمتلكها الفصائل، إذ كان حجم الضرر المادي والإصابات طفيفًا للغاية.
وفي عام 2007، شهدت منظومة الصواريخ التي تمتلكها المقاومة نقلة نوعية، إذ تمكنت من تهريب صواريخ غراد التي وسّعت رقعة المناطق المستهدفة، لتتسع حتى تصل ما بين 25 و40 كيلومترًا بعد أن كانت 7 إلى 10 كيلومترات.
وبعد عام 2008، سعت المقاومة لتطوير صواريخها ومنظومتها بشكلٍ عام، بعد أن كانت لا تتجاوز أسدود وبئر السبع على مسافة 25 إلى 40 كيلومترًا، وكان نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 موعدًا لمفاجأة الفلسطينيين والمحيط العربي، بعد أن قصفت القدس المحتلة وتل أبيب بصواريخ قالت إنها من طراز فجر-5 إيرانية الصنع، بالإضافة إلى صاروخ إم-75 محلي الصنع.
ومع اغتيال قائد أركان كتائب القسام السابق أحمد الجعبري، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، فوجئ الاحتلال بقصف المقاومة، تحديدًا سرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، وكتائب القسام لتل أبيب بصواريخ من طراز فجر-5 إيرانية الصنع، وخلال تلك الحرب أعلنت الذراع العسكرية لحركة حماس تطويرها صاروخ إم-75 بشكل محلي، وتمّت تسميته نسبة إلى القيادي البارز في الحركة الذي اغتاله الاحتلال الإسرائيلي، إبراهيم المقادمة.
وعادت المقاومة الفلسطينية في عدوان عام 2014 لتفاجئ الاحتلال من جديد عبر الكشف عن صواريخ جديدة أسهمت في تسديد ضربات نوعية للاحتلال، كان من أبرزها صاروخ جي-80 نسبة إلى أحمد الجعبري المزوّد بتقنيات خاصة.
واُستخدم هذا الصاروخ لقصف تل أبيب بعد تحديد موعد مسبق من جناح حماس المسلح، قبل أن تكشف الذراع العسكرية عن صاروخ آر-160 الذي تمتلكه كتائب القسام، والذي يعدّ اختصارًا لاسم القائد الأسبق لحركة حماس وأحد مؤسسيها، عبد العزيز الرنتيسي، فقد تمكنت المقاومة من خلاله عام 2014 من ضرب حيفا المحتلة للمرة الأولى منذ بداية النزاع مع الاحتلال.
وشهدت جولات التصعيد خلال عامَي 2019 و2020 كشف سرايا القدس عن صاروخ بدر-1 الذي وُصف حينها بأنه “جحيم عسقلان”، فيما كشفت القسام عن صواريخ من طراز سجيل-40 وصواريخ كيو-20 محدودة المسافة، قبل أن تكشف معركة سيف القدس عن صواريخ من طراز “عطار” و”شمالة” من تصنيع مهندسي الذراع العسكرية لحركة حماس، وفيهما تم قصف القدس وتل أبيب.
أما المفاجأة الصادمة للعدو والصديق كما تصف المقاومة كانت صاروخ “عياش 250” الذي قصفت فيه المقاومة الفلسطينية مطار رامون قرب الحدود الفلسطينية مع الأردن، وهو ما عطّل حينها في عام 2021 حركة الملاحة في مختلف المطارات الإسرائيلية.
وأمام ما يجري حاليًّا، سيبقى المشهد مفتوحًا بين المقاومة والاحتلال للمزيد من التطوير والتقدم على الصعيد الصاروخي باعتباره سلاحًا فاعلاً في المواجهات والحروب، مع حضور أسلحة أخرى مثل الطائرات المسيّرة والانتحارية القادرة على تنفيذ عمليات في العمق.