بعد 12 عامًا من اندلاع الثورة السورية ورحلة لجوء مريرة رافقت ملايين السوريين، وصلت الحملات العنصرية ضدهم ومطالبات ترحيلهم ذروتها، مع إيحاء مخادع بعدم وجود ما يفرض اليوم بقاء اللاجئ خارج بلده من النواحي الأمنية والسياسية، وأن عودتهم ستكون آمنة، خاصة بعد الانفتاح العربي على نظام الأسد ومحاولة كسر عزلته والتنسيق معه.
المهجرون في شمال سوريا باتوا يتخوفون من اتفاق مصالحة بين أنقرة والنظام يُدخل قوات النظام إلى الشمال السوري على غرار اتفاق درعا جنوب سوريا عام 2018.
لا ينسى اللاجئون السوريون تهديدات العميد عصام زهر الدين، وهو ضابط بارز في جيش الأسد، عندما توعدهم حال عودتهم: “أرجوك لا تعود إلى سوريا فإن سامحتك الدولة نحن عهدًا لن ننسى ولن نسامح. نصيحة من هالدقن لا حدا يرجع منكم”، فضلًا عن تصريحات رأس النظام بشار الأسد 2017 حين تحدث عن “سوريا المتجانسة” قائلًا: “خسرنا خيرة شبابنا وبنية تحتية كلفتنا الكثير من المال والكثير من العرق، لكننا ربحنا مجتمعًا أكثر صحة وأكثر تجانسًا”، ما يقطع الطريق تمامًا على عودة اللاجئين.
في هذا التقرير سنقدم بعض الأسباب التي تجعل فكرة العودة إلى سوريا مستحيلة من وجهة نظر ملايين السورين المعارضين لبشار الأسد ونظامه، ما دام موجودًا على رأس السلطة، بشخصه وبأجهزته الأمنية وجيشه، وفي ظل انهيار الدولة واقتصادها وبنيتها التحتية.
استدعاء أمني
كل من يفكر بالعودة إلى سوريا يعلم يقينًا أنه سيستدعى لإجراء تحقيق لدى مخابرات النظام سيئة الصيت، هذا إن لم يعتقل مباشرة فور وصوله عند أول حاجز في مناطق سيطرة النظام، وما يرافق ذلك التحقيق من عمليات التعذيب الممنهج واحتجاز قسري أو عنف جسدي أو اعتداء نفسي وإجبار على دفع إتاوة باهظة.
ويؤكد ذلك تقرير أصدرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، منتصف مارس/آذار الفائت، إذ أشار التقرير إلى اعتقال ما لا يقل عن 2504 أشخاص، بينهم 257 طفلًا و199 سيدة (أنثى بالغة) بحق لاجئين عادوا من دول اللجوء أو الإقامة إلى مناطق إقامتهم في سوريا بين عامي 2014 حتى مارس/آذار 2023، بالإضافة إلى اعتقال ما لا يقل عن 984 مهجّرًا داخليًا عاد إلى مناطق سيطرة النظام، بينهم 22 طفلًا و18 سيدة.
في إحدى الشهادات التي سردها تقرير منظمة العفو الدولية، سبتمبر/أيلول 2021، المعنون بـ”أنت ذاهب إلى الموت”، قال ضابط المخابرات الذي اغتصب إحدى العائدات من لبنان: “هذا للترحيب بك في بلدك، إذا خرجت من سوريا مرة أخرى وعدتِ، فسوف نرحب بك بشكل أكبر”.
يقول علي شاويش، وهو لاجئ مقيم في تركيا منذ أربع سنوات، إن النظام منذ اندلاع الثورة اتخذ مبدأ العقاب الجماعي، ويلاحظ ذلك جليًا في مجازره وقصفه واعتقالاته العشوائية التي كانت تطال كل أفراد الأسرة، بل حتى كل من يحمل اسم عائلة المعتقل حتى لو كان من محافظة أخرى.
مضيفًا في حديثه لنون بوست “لا يوجد أي ضمان للعودة وكلنا يسمع ويرى ماذا يفعل النظام بالعائدين، لا يمكن العودة أبدًا بوجود النظام وكل الضمانات لا تساوي الحبر الذي كتبت به”.
ويبدو أن السوريين المُهجرين، ومنهم علي شاويش، على قناعة تامة بخطورة الرجوع إلى سوريا في ظل حكم الأسد، ففي يناير/كانون الثاني 2021، أشارت دراسة بعنوان “ما بين الاندماج والعودة واقع اللاجئين السوريين الجدد في أوروبا”، لمنظمة “اليوم التالي” (منظمة سورية مقرها تركيا تتبنى قيم حقوق الإنسان) بأنه من أصل 1600 لاجئ رفض ثلثا العدد العودة للاستقرار في سوريا، إلا إذا حصل تغيير سياسي في البلاد، في حين أبدى 500 منهم رغبتهم في زيارة سوريا إذا سنحت لهم الفرصة.
العودة إلى نقطة الصفر
في العام 2018 أصدر نظام الأسد القانون رقم 10 الذي ألزم فيه مالكي العقار بتقديم إثباتات ملكية لعقاراتهم خلال 30 يومًا وإلا فإنهم سيخسرون ملكيتها، ما يعني استحواذ النظام على عقارات المعارضين الذين تركوا البلاد، كون تلك الإثباتات تحتاج إلى موافقات أمنية من جهاز الاستخبارات السورية، فضلًا عن أسر فُقدت بيوتها بالكامل خلال القصف أو بعد اللجوء من جهة، ومن جهة أخرى احتراق دوائر حكومية مع أوراقها الرسمية ومستندات ملكية المواطنين.
بالمقابل فإن كثيرًا من الممتلكات والأراضي مغتصبة من عناصر وضباط قوات النظام ومليشيات “حزب الله” ومليشيات إيرانية ولا تسمح بعودة أصحابها والاستقرار فيها أبدًا، خاصة في مناطق القلمون الحدودية ومناطق ريف حمص وريف دمشق ودير الزور، وحتى لو حصلت الموافقة الأمنية، فإن العقبات تبقى موجودة مع استمرار عمليات التعفيش والسرقة عبر واجهات صغيرة محسوبة على أجهزة الأمن المسيطرة، وهدم الأسقف وسحب الحديد منها وسرقة الأثاث بالكامل.
ليس هذا وحسب بل تعرضت مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية التي تعود ملكيتها لغائبين للاستثمار عبر مزادات علنية فرضها النظام لا سيما في أرياف حماه وإدلب ودير الزور وحلب، إذ ادّعت حكومة النظام أن أصحابها مَدينون للمصرف الزراعي بقروض غير مسددة، وأن هدف هذه المزادات هو تحصيل الديون لمصلحة المصارف الزراعية.
ومع تلك الإجراءات فهذا يعني أن العودة ستكون لنقطة الصفر وعائقًا أساسيًا في بلد يقبع بالأصل أكثر من 90% من سكانه تحت خط الفقر، كما أن مساعدات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHC) كالسلل الغذائية والصحية والإعانات المالية لن تصل للعائدين إلى سوريا، ما يزيد أعباء تأمين أساسيات الحياة المُساعدة لهم تمامًا، ووضعهم أمام حياة جديدة عنوانها: “الشقاء والرعب”.
وقد أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأم المتحدة، مايو/أيار 2022، أن الجوع في سوريا يبلغ مستويات تاريخية، والملايين على شفير الهلاك، فما يقرب من 90% من العائلات السورية باتت تتبنى إستراتيجيات تأقلم سلبية للبقاء على قيد الحياة، من خلال تقليل كمية الطعام الذي يأكلونه وشراء أقل والدخول في الديون لشراء الأساسيات.
كما أن حكومة دمشق أعلنت منذ الأول من فبراير/شباط 2022 استبعاد قرابة الـ600 ألف أسرة من برنامج الدعم الخاص بها، أي ما يقرب من 3 ملايين شخص في المجموع (على اعتبار أن متوسط كل أسرة خمسة أو ستة أفراد) ما يعني تأزم الوضع المعيشي لهؤلاء الأسر.
يجيب ضياء حمود (مهجّر يعيش في ألمانيا منذ العام 2015) عند سؤالنا له عن إمكانية عودته إلى سوريا، بالقول: “لا يمكن التفكير بذلك مطلقًا، ولا أتمناه في الأحلام رغم حنيني الدائم واشتياقي لبلدتي”، متسائلًا: “هل أعود لأقف على طوابير الخبز أم لأخدم في جيش النظام أم لأكون مشروع معتقل منسي في زاوية عفنة بأحد المعتقلات”؟
لافتًا في حديثه لنون بوست، أن “المدنيين في سوريا يدفعون آلاف الدولارات للهجرة من سوريا، بعد تدهور الأوضاع المعيشية والخدمية وتسلط قوات النظام على البسطاء وحالة الفلتان الأمني وانتشار الجريمة والمخدرات”، منوهًا أن النظام يشجع ذلك ويتغاضى عن هذه الانتهاكات، فهو لا يريد إلا عوائل أنصاره والميليشيات التي ساندته.
وختم حمود حديثه بالقول: “إن كانت الدول المضيفة تحتج بأزمات اقتصادية فيمكن لها إرسال الموالين الذين هربوا من الأوضاع الاقتصادية المتردية، فهم يشكلون نسبة كبيرة في بلاد اللجوء، ويزورون مناطق النظام بين الحين والآخر”.
ترحيل قسري
الدول المُضيفة تتحدث اليوم عن قدرة اللاجئ على العودة، وأن وجودَهم بأراضيها هو نزوح اقتصادي لا هروب من الحرب، مرتبطًا بالأحداث الأمنية في سوريا لتبرير خطط الترحيل الجماعي المستقبلية، ما يعني نزع الطابع الإنساني عن هذه القضية من جهة، وتقوية الطرح المعادي للاجئين بترحيلهم قسريًا دون التفكير بتبعات وخطورة ذلك الترحيل.
ففي لبنان عاد ملف اللاجئين السوريين ليطفو على السطح مجددًا، بعد إعلان حكومة تصريف الأعمال اللبنانية خطة لإعادة 15 ألف لاجئ شهريًا، ومع تجاوز عدد اللاجئين المليونين في لبنان الذي لا يزيد عدد سكانه على 6 ملايين ويعيش أعنف تدهور اقتصادي ونقدي منذ سنوات.
ومع وجود حملات حزبية وطائفية تحث على طرد السوريين وإعادتهم إلى بلادهم، بدأت السلطات اللبنانية منذ أبريل/نيسان الفائت حملة اعتقالات واسعة، إذ اعتقلت أكثر من 1100 شخص، رحلت منهم نحو 600 قسرًا، اعتقل نظام الأسد منهم أربعة أشخاص على الأقل.
في تركيا، طالت حملات الاعتقال يوم 9 مايو/أيار، 18 عائلة من نساء وأطفال وكبار بالسن في العاصمة أنقرة، نقلوا لمراكز أمنية بهدف ترحيلهم للشمال السوري رغم امتلاكهم قيودًا رسمية.
وتعد عملية الترحيل هذه الثانية، إذ تم ترحيل 15 عائلة في نفس المنطقة بأنقرة أواخر العام الفائت، دون أن تقدّم الحكومة أي بيان يتناول أسباب الترحيل والتوقيف.
وصارت مسألة اللاجئين السوريين وإعادتهم إلى بلدهم قضية رأي عام و”ترندًا” انتخابيًا في تركيا، وهناك عمليات ترحيل شهرية لمخالفين إلى الشمال السوري حيث تتولى تركيا إدارة المنطقة، وقد صرح وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو مؤخرًا أن 550 ألف لاجئ سوري عادوا طوعيًّا إلى مناطق شمال سوريا.
والشمال السوري غير مناسب لعودة اللاجئين، فإلى جانب التناحرات الفصائلية وغياب الأمن وهشاشة البنى التحتية اللازمة، يشكّل تدهور الوضع المعيشي حاجزًا أمام عودة اللاجئين، إضافة إلى الخوف من تكرار سيناريو درعا في الشمال، لا سيما بعد التقارب بين دمشق وأنقرة.
هذا غير الهجرة شبه اليومية من مناطق النظام إلى مناطق الشمال السوري، ما يعني عدم قدرة الشمال ذي الـ5 ملايين نسمة على استيعاب الموجودين في الدول المضيفة، والفارين من مناطق سيطرة النظام.
أظهرت نتائج مسح أجرته المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، عن تصورات العودة بين اللاجئين السوريين، بين يناير وفبراير 2022، أن 30% من اللاجئين السوريين لم يفكروا في العودة إلى سوريا طيلة بقائهم في الخارج.
فقد بينت نتائج هذا السؤال: هل تنوي العودة إلى سوريا خلال الـ12 شهرًا القادمة؟ أن 92.8% من اللاجئين لا يريدون العودة و5.6% لا يعرفون إذا ما كانوا يريدون ذلك، بينما أكد 1.7% فقط نيتهم للعودة إلى سوريا.
في حديثه لنون بوست، رأى الناشط الحقوقي عبد الناصر الحوشان، أن عودة اللاجئين يجب أن تكون طوعية وبإرادتهم وحريتهم، وخلاف ذلك يعتبر ترحيلًا قسريًا وهو انتهاك للاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحماية اللاجئين.
اللاجئون بوابة التطبيع
بات النظام وروسيا يستفيدان من الانفتاح الإقليمي والعربي تجاه دمشق، إذ يحاول الطرفان خلق صورة مضللة عن عودة الحياة إلى طبيعتها في سوريا، ونشر فكرة كاذبة تفيد بأن مناطقه آمنة، حيث تستخدم هذه الرواية كمقدمة مراوغة بشأن البدء بالعودة المبكرة للاجئين السوريين من أجل الضغط على المجتمع الدولي لتمويل عملية إعادة الإعمار، واستعادة الخدمات الأساسية في مناطق النظام.
يشير الحوشان إلى أن النظام غير مكترث بمسألة اللاجئين، فهو يعدهم إرهابيين أو عالة عليه، لذلك فهو يساوم ويبتزّ المجتمع الدولي عبر دعواته الكاذبة لعودتهم مع استعداده لاستقبالهم بالتعاون مع الأمم المتحدة، بشرط دعم مشاريع إعادة الإعمار باعتبارها بوابة تأمين البيئة الآمنة المستقرة، وقد نجح في ذلك من خلال قيام الأمم المتحدة بتبني مشاريع التعافي المبكر.
وتدفع الدول اللاجئين للعودة غير الآمنة وتضيّق عليهم بهدف المساومة والحصول على دعم دولي مثلما تفعل السلطات اللبنانية، فيما يقوم البعض الآخر بتسهيل العودة بعد التنسيق مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين كالأردن، وهناك دول أوروبية تعتبر أن عددًا من المحافظات السورية أصبحت آمنة وبالتالي زوال سبب اللجوء كالدنمارك مثلًا.
حسب الحوشان، فإن مسألة اللاجئين من قضايا الحل النهائي في سوريا، لأن أسباب اللجوء قائمة ما دام النظام موجودًا، وعدم توفير البيئة الآمنة المستقرة لعودة اللاجئين.
يبدو من خلال ما سبق، أنه من الصعب توقع عودة اللاجئين السوريين “طوعيًّا” إلى بلادهم في الوقت الراهن، خاصةً أولئك الذين وصلوا قبل سنوات إلى أوروبا أو تركيا، أو حتى مصر، واندمجوا وحصلوا على فرص العمل والدراسة والحماية الاجتماعية والصحيّة وغيرها، وخدمات أخرى غير موجودة في سوريا.
بالمقابل فإن عودة هؤلاء اللاجئين، أو حتى المهجرين داخليًا، لا تشكل همًّا أساسيًّا للنظام المهتم فقط بإعادة تعويمه دوليًا والفوز بصفقات ما بعد الحرب من جهة، ومن جهة أخرى خوفه من العائدين لأن غالبيتهم معارضون له ويهددون بانفجار الأوضاع مجدّدًا في ظل عدم التوصل إلى حل سياسي وتأزم الوضع المعيشي.