يواصل الاحتلال الإسرائيلي لليوم الثالث على التوالي اعتداءاته على قطاع غزة، إذ استهدف شقة سكنية في أبراج حمد غربي مدينة خان يونس جنوبي القطاع، ما أسفر عن استشهاد مسؤول القوة الصاروخية لسرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي في القطاع، علي غالي، الذي نعته الحركة وتعهدت بالانتقام وأخذ الثأر له.
وفي المقابل رشقت المقاومة الفلسطينية المستوطنات الإسرائيلية بأكثر من 500 صاروخ على مدار الساعات الـ24 الماضية، مع وقوع بعض الإصابات في صفوف المستوطنين وعدد من جنود الاحتلال، فيما خوت شوارع وميادين مدن غلاف غزة وتل أبيب من المارة الذين اختبأوا في الملاجئ، خوفًا من الرشقات الصاروخية للمقاومة التي أحدثت حالة من الرعب في نفوس المستوطنين رغم الإصابات المحدودة التي تسببت فيها.
وارتفع عدد الفلسطينيين الذين استشهدوا في غارات إسرائيلية متفرقة منذ فجر الثلاثاء 9 مايو/أيار 2023 إلى 25 شخصًا وإصابة 76 آخرين حسب بيان وزارة الصحة في قطاع غزة، وسط ترجيح زيادة تلك الأرقام في ظل استمرار الهجمات وتعثر الوساطة المصرية القطرية بشأن وقف إطلاق النار بسبب إصرار الجيش الإسرائيلي على سياسة الاغتيالات التي يقوم بها، يقابلها وعيد من الجهاد الإسلامي وبقية الفصائل بالرد بأساليب مختلفة تطال العمق الإسرائيلي.
سرايا القدس: الشهيد القائد علي غالي مسؤول الوحدة الصاروخية ارتقى في عملية اغتيال غادرة بخان يونس pic.twitter.com/MFu7JuGq2R
— قناة الجزيرة (@AJArabic) May 11, 2023
المقاومة.. رشقات تستنزف المحتل
لم تتأخر المقاومة كثيرًا في الرد على الاستفزازت الإسرائيلية رغم ما كان يحمله هذا التأخير من بث الرعب في نفوس دولة الاحتلال، حكومة وجيشًا ومستوطنين، لتبدأ بالرد عبر مئات الرشقات الصاروخية التي أجبرت معظم سكان مدن غلاف غزة والعاصمة تل أبيب على الاختباء في الملاجئ، فيما تناقلت الصور والمقاطع المنشورة حالة الهلع التي بدا عليها الإسرائيليون مع دوي صافرات الإنذار بين الحين والآخر.
وفي بيان لها الأربعاء 9 مايو/أيار الحاليّ قالت فصائل المقاومة: “تعلن الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية عن تنفيذ عملية ثأر الأحرار، التي تمثلت في توجيه ضربة صاروخية كبيرة بمئات الصواريخ لمواقع ومغتصبات وأهداف العدو”، مضيفة “أن الضربات ابتداءً مما يسمى غلاف غزة وحتى تل أبيب، وذلك ردًا على جريمة اغتيال قادة سرايا القدس” (في إشارة إلى 4 من القادة تم اغتيالهم اليومين الماضيين).
وتكبد تلك الرشقات جيش الاحتلال خسائر مادية فادحة، فتكلفة الصاروخ الواحد الذي تطلقه القبة الحديدية لاعتراض صواريخ المقاومة تزيد كلفته على 50 ألف دولار، ما يعني ملايين الدولارات يتم خسارتها مع كل رشقة على حدة خاصة أن القبة لا يمكنها التمييز بين نوعية المقذوفات القادمة، وما إذا كانت صاروخًا كبيرًا أو طائرة استطلاع أو رصاصة عادية، وهو الأمر الذي استغلته المقاومة بشكل جيد لتكبيد المحتل الخسائر الفادحة، وكان أبرز الانتقادات التي وجهت للقبة، ذلك النظام الدفاعي الصاروخي الذي مُني بالإجهاد والأعطال جراء كثرة الرشقات الصاروخية التي تطلقها المقاومة.
نتيجة لذلك اضطرت “إسرائيل” لاستخدام أنظمة دفاعية متقدمة عرفت باسم “مقلاع داود” وذلك للمرة الأولى، فهذا النظام مخصص لصد الصواريخ البالستية والطائرات دون طيار، وتم تشغيله منذ 6 سنوات لكنه لم يستخدم نظرًا لعدم استخدام المقاومة لهذا النوع من الصواريخ المتطورة التي تتطلب اللجوء إلى هذا النظام الدفاعي المتطور.
وتتبع المقاومة تكتيكات عسكرية متطورة نسبيًا أحدثت ارتباكًا كبيرًا في تعامل القبة الحديدية مع الصواريخ المرسلة من القطاع، وذلك عبر إطلاق عشرات الرشقات مرة واحدة، وهو ما يؤدي إلى تشتيت قدرات رادار القبة الحديدية، وإصابة وحدة إصدار القرار بها بالارتباك وهو ما يؤدي في النهاية إلى فشلها في التصدي لكل تلك الرشقات، وهذا ما حدث بالأمس في أكثر من مرة حيث لوحظ عدم قدرة القبة على التصدي لجميع الصواريخ، ما دفع جيش الاحتلال للجوء إلى نظام “مقلاع داود”.
#عسقلان الآن في مشاهد جديدة #غرّة_تحت_القصف #غزة_العزة #غزة_تحت_القصف #الإعلام_العبري#إسرائيل #الجهاد_الإسلامي pic.twitter.com/ljT3sveQ7P
— حنين إبراهيم الموسوي (@HaninAlMoussawi) May 10, 2023
أداء سياسي أفضل
لم يكن التطوير في التكتيكات العسكرية هو منجز المقاومة الوحيد خلال الفترة الأخيرة، فخلال السنوات الخمسة المنصرمة تحديدًا تطور الأداء السياسي لفصائل المقاومة بشكل ملحوظ، حيث باتت قادرة وبشكل كبير على إدارة المعارك العسكرية بعقلية سياسية متزنة، تضع في اعتباراتها حسابات المواءمات السياسية والدبلوماسية.
ويمكن قراءة هذا التطور الملحوظ في الأداء السياسي خلال إدارة المعركة الحاليّة، حيث نجحت فصائل المقاومة في تحقيق التوازن بين ضرورة الرد على انتهاكات الاحتلال، وعدم الانجرار نحو تصعيد يهدد حياة سكان غزة ويزيد معاناتهم، وفي الوقت ذاته أجهضت مخطط التفتيت والفتنة الذي كانت تستهدفه الحكومة الإسرائيلية.
على الورق فإن المسؤول الأول والرسمي عن الرد الحاليّ والرشقات الصاروخية التي تمطر سماء المستوطنات الإسرائيلية، هي حركة الجهاد الإسلامي، بوصفها ولي الدم، المستهدف الرئيسي من تلك الاعتداءات التي سقط فيها بعض أبرز قادتها، لكن ليس معنى ذلك أنها تقف بمفردها في ساحة القتال، فغرفة العمليات المشتركة تجمع كل الفصائل الفلسطينية، وهو ما يتضح من البيانات الصادرة عنها، حتى إن كان المتحدث باسم عمليات الرد هي الجهاد وحدها.
ويجهض هذا التكتيك السياسي مساعي دولة الاحتلال لتفتيت لحمة المقاومة عبر تشتيت قواها وإضعافها ودق الأسافين بين فصائلها، فمنذ الوهلة الأولى خرجت تصريحات وتحذيرات عدة من مسؤولين داخل الحكومة الإسرائيلية لحركة حماس، والتلويح بأن قادتها سيكونون أهدافًا للاغتيال إذا شاركت في الرد، وهو الفخ الذي وعته حماس وبقية الفصائل.
وعليه لم تعلن الحركة مشاركتها في الرد، تجنبًا للتصعيد الشامل في القطاع يدفع ثمنه ملايين الفلسطينيين، لكنها في الوقت ذاته لم تتخل عن الشقيقة، حركة الجهاد، وهذا يعد تطورًا سياسيًا غير معهود قديمًا، حيث نجح المحتل أكثر من مرة في توسيع الهوة بين الفصائل عبر زرع الفتن وإثارة الضغائن، لكنه هذه المرة فشل في ذلك بعدما وصلت المقاومة إلى مستوى من النضج السياسي يؤهلها لوأد وإجهاض تلك المخططات القذرة التي اعتادتها دولة الاحتلال منذ أن وطأت أقدامها الأراضي الفلسطينية.
هروب جماعي للمستوطنين المصطافين على شواطئ تل أبيب بعد استهدافها بصواريخ المقاومة في #غزة العزة ..#غزه_تقاوم #القدس #فلسطين_قضية_الشرفاء https://t.co/3hQmIYSyib pic.twitter.com/OLGg4s5d0h
— جابر الحرمي (@jaberalharmi) May 10, 2023
إفشال مخطط نتنياهو
يحاول نتنياهو بشتى السبل الخروج بانتصار رمزي يحسن من صورته المشوهة داخليًا، ويخفف من حدة الانتقادات الشعبية المتصاعدة بسبب تعديلات قانون القضاء، وفي الوقت ذاته يحاول إرضاء وزير الأمن القومي بالحكومة، إيتمار بن غفير، الذي طالب بشن حملة عسكرية واسعة وإجرامية في الضفة الغربية وتشديد ظروف اعتقال الأسرى الفلسطينيين مقابل عودة حركة “المنعة اليهودية”، ودعم مشروعات القوانين الحكومية داخل الكنيست.
قد يرى نتنياهو في اغتيال 4 من قادة سرايا القدس (الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي): أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس جهاد الغنام، وقائد المنطقة الشمالية خليل البهتيني، وطارق محمد عز الدين أحد قادة العمل العسكري بالضفة الغربية، مسؤول الوحدة الصاروخية في “سرايا القدس”، علي حسن غالي، إنجازًا يروي غروره ويخرجه من المعركة منتصرًا، لكن الرياح لم تأت وفق ما كان يتمناه.
المنطقة العربية الوحيدة في هذا العالم تجرؤ على قصف تل ابيب
انها #غزة #غزه_تقاوم #غزة_عنوان_المقاومة ##فلسطين_تقاوم #فلسطين pic.twitter.com/vXCPX2VoyC
— حمد بن فهد بن عبدالعزيز آل ثاني (@1968hamad) May 11, 2023
إذ أبدت المقاومة شراسة واضحة في الرد، وإن لم يسفر حتى كتابة تلك السطور عن سقوط قتلى في صفوف المحتل، لكن حالة الرعب التي يحياها الإسرائيليون تحت الملاجئ وفي المخابئ على مدار الساعات الـ48 الماضية، والخسائر المادية الفادحة نتيجة التعبئة العامة وكلفة عمل الأنظمة الدفاعية الصاروخية لصد رشقات المقاومة، والتخوف من تصعيد واسع وأكبر، بجانب القلق الشديد من إعادة نشاط المقاومة الفردية في الداخل الإسرائيلي، كل ذلك قد يجهض أحلام نتنياهو ويحول الانتصار المزعوم إلى هزيمة قد تطيح به من المشهد، خاصة في ظل توريط اليمين المتطرف له ودفعه دفعًا نحو إشعال الموقف بما لا يتناسب والمزاج السياسي والشعبي الإسرائيلي في الآونة الأخيرة.
في مثل تلك المعارك غير المتكافئة في القوة والاستعدادات العسكرية، ورغم التضييقات المشددة على تسليح المقاومة، والضغوط الممارسة عليها من الجميع، عرب وغير عرب، فإن المناوشات وبث الرعب في نفوس الإسرائيليين، تمثل نجاحًا نسبيًا يحسب لها، ويوصل رسالة مباشرة أنها صامدة وقادرة على التحدي بأقل الإمكانيات، وأن العربدة الإسرائيلية بين الحين والآخر لن تكون نزهة خلوية أو ورقة لحصد مكاسب سياسية داخلية على حساب دماء وأرواح الفلسطينيين.
وتحاول القاهرة القيام بدور الوساطة بين الطرفين لاحتواء الموقف ووقف إطلاق النار، لكنها المحاولات التي باءت بالفشل حتى اليوم في ظل تمسك كل طرف بشروطه المسبقة، الأمر الذي يضع القاهرة في مأزق حقيقي ويقلل من فرص نجاحها في إدارة هذا الملف الذي كانت تجيد التعامل معه قبل سنوات، فيما تحاول قوى أخرى وسيطة التدخل لفرض حالة من التهدئة كقطر والصين بجانب مناشدت المجتمع الدولي.
تتمسك المقاومة بشروطها للقبول بتهدئة تتمثل في وقف عمليات الاغتيالات الممنهجة من قوات الاحتلال، والكف عن الاعتداءات التي تستهدف منازل القادة والمسؤولين في فصائل المقاومة، كما أن حكومة نتنياهو ستحاول بشتى السبل تحقيق أكبر قدر من الانتصارات الميدانية لتوظيفها في مواجهة المأزق الداخلي الذي تعاني منه الحكومة المترهلة.
ستروج الآلة الإعلامية الإسرائيلية لانتصار وهمي تحقق في تلك المعركة، سردية من السهل تفنيدها مع الرشقات الصاروخية التي تغطي سماء تل أبيب وعسقلان ومدن غلاف غزة ليل نهار، وصافرات الإنذارات التي تدوي بين الساعة والأخرى، واستمرار عمليات الاختباء في الملاجئ، لتثبت المقاومة مؤكدًا أن الحديد لا يفله إلا الحديد.