بطريقة ساخرة ممزوجة بالأمل المخيب، يقول مسعود: “أتريدون أن نمني أنفسنا أكثر من ذلك؟ جيش الإنقاذ من شكّله؟ أليست الجامعة العربية؟ من الذي تكفل بتزويدنا بالسلاح؟ أليست اللجنة العسكرية التي شكلتها الجامعة؟ متى نريد أن نفهم أن الدول العربية لم تتحرك بالشكل الصحيح.. من هو مقسَّم منذ 10 سنوات، كيف سيصبح يدًا قويةً بيوم واحد؟ أنا المجنون وأنتم العاقلون! هل الحروب اليوم “فزعات، واحد بدِّب الصوت بقوموا النايمين”؟”.
كانت هذه اللقطة في مسلسل التغريبة الفلسطينية للكاتب وليد سيف، محاولةً من مسعود لإيقاظ شقيقه أبو صالح من وهم انتظار دخول الجيوش العربية في 15 مايو/ أيار 1948، ليساندوه والثوار في الدفاع عن المدن والقرى الفلسطينية، وسط ذعر عائلتهم التي بدأت ترى المدن والقرى تسقط الواحدة تلو الأخرى بيد اليهود، والمجازر ترتكب من كل حدب وصوب.
في إعادة رسم للأحداث بين الماضي والحاضر، ينتظر الفلسطيني كل مرة ردة فعل من القيادات العربية توازي حجم الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين وأرضهم ومقدساتهم، مقدسات العرب أجمع، يتساءل الفلسطيني عن جيوش مجهّزة بالعدة والعتاد، تمتلك من السلاح على اختلاف أنواعه، لم يواجه هذا السلاح الاحتلال الإسرائيلي، ولا يطول تفكير الفلسطيني بأمانيّ تشغل باله، قبل أن يتذكر خيبته الأولى: خذلتنا الدول العربية في نكبتنا الأولى!
تشكيل جيش الإنقاذ العربي
في عودة إلى أشهر قليلة قبل النكبة الفلسطينية في 15 مايو/ أيار 1948، تحديدًا إلى خطة تقسيم فلسطين من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، والذي عُرف باسم قرار رقم 181، والذي ينص على قيام دولتَين مستقلتَين، عربية ويهودية، ونظام دولي خاص لمدينة القدس، على أن يدخلا حيز الوجود بعد شهرَين من جلاء قوات الانتداب المسلحة، وفي موعد لا يتجاوز 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1948، وتمنح الدولة اليهودية 55% من مساحة فلسطين التاريخية، وقرار التقسيم هذا سيكون له قصته مع تخاذل جامعة الدول العربية.
بعد أيام من استعراض خطة التقسيم، تعلن جامعة الدول العربية رفضها إياها، وتقرر الدول المجتمعة في القاهرة أن تقسيم فلسطين غير شرعي، وتقرر أن تضع تحت تصرف اللجنة العسكرية الفنية 10 آلاف بندقية، و3 آلاف متطوع (من بينهم 500 فلسطيني)، ومليون جنيه إسترليني إضافي.
مع بداية عام النكبة، 1948، قررت هذه اللجنة العسكرية العربية تشكيل قوة من المتطوعين العرب غير النظاميين تسمّى جيش الإنقاذ العربي تحت قيادة فوزي القاوقجي، بهدف مساعدة الفلسطينيين في مقاومة قرار التقسيم، كانت مؤلَّفة نحو 5 آلاف مقاتل، بينهم ألف فلسطيني.
لم يكتمل رصّ الصفوف: بدأت الخيانات
لم يمضِ وقتٌ على تشكيل جيش الإنقاذ العربي لمساعدة الفلسطينيين في مقاومتهم ونضالهم، حتى بدأت ملامح الخيانات ترتسم في أهداف وجوده في الأراضي الفلسطينية التي تواجه نيران العصابات الصهيونية والانتداب البريطاني.
ففي فبراير/ شباط 1948، أي بعد أقل من شهر على تشكيل الجيش، يلتقي رئيس الوزراء الأردني، توفيق أبو الهدى، وقائد الجيش الأردني، غلوب باشا، في زيارة سرية بوزير الخارجية البريطاني إرنست بيفين، للسماح لجيش الإنقاذ دخول فلسطين من شرق الأردن في نهاية الانتداب البريطاني.
ومع أن المكتوب يُقرأ من عنوانه حين يُرتهن دخول القوات المنطقة إلى موافقة الأعداء من عدمها، تشترط بريطانيا ألا تدخل القوات العربية إلى المناطق المخصصة للدولة اليهودية في قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، وأن تقصر انتشارها على المناطق التي تم تحديدها للدولة العربية لـ”الحفاظ على القانون والنظام”.
في التأكيد على ذلك، يروي شيخ المناضلين في فلسطين بهجت أبو غربية في شهادته على العصر، أن الحاج أمين الحسيني حدّثه عن اتفاق بين جامعة الدول العربية والإنجليز يبيّن إجراءات دخول جيش الإنقاذ إلى فلسطين والأماكن التي يعسكر فيها وشروط دخوله: “أن يدخل دون صعوبات، وأن يعسكر في الأماكن التي قُسمت للعرب في خطة التقسيم، ولا يشتبك مع اليهود”.
وبينما رفض ديفيد بن غوريون مقترح الولايات المتحدة بوصاية دولية على فلسطين كحلّ ممكن، وإعلانه أن دولة يهودية مستقلة لن تقوم بفضل قرار التقسيم، بل استنادًا إلى التفوق العسكري اليهودي، وتتبعه في اليوم التالي الوكالة اليهودية التي تعبّر عن رفضها فكرة الوصاية على فلسطين؛ تعلن الجامعة العربية قبول العرب الهدنة ووصاية محدودة على فلسطين إذا وافق اليهود على الأمر، قبل أن ينتهي الحال برفض الطرفَين للوصاية.
الهدنة: الدول العربية تستريح واليهود يستعدّون
قبل شهر ونصف من إعلان قيام “دولة إسرائيل” على المجازر المرتكبة بحقّ الفلسطينيين ودمائهم، طرحت الولايات المتحدة مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي في 30 مارس/ آذار، يدعو فيه “الوكالة اليهودية لفلسطين والهيئة العربية العليا إلى وضع ممثلين عنهما تحت تصرف مجلس الأمن، لترتيب هدنة بين الطائفتَين العربية واليهودية في فلسطين، ويدعو المجموعات المسلحة، العربية واليهودية، في فلسطين إلى إيقاف أعمال العنف فورًا”.
وكالعادة، وبعقلية ساذجة ترى في الخيانة وجهة نظر، تستجيب الدول العربية لقرار الهدنة، وتلزم أماكنها وتستريح حتى حلول يوم 15 مايو/ أيار، في وقت كان تعدّ العصابات الصهيونية عدّتها للهجوم على فلسطين واحتلالها، وتجلب المتطوعين الأجانب عبر البحر بأسلحتهم للمقاتلة معهم في احتلال المدن والقرى الفلسطينية وتهجير أهلها.
أعطى هذا الأمر اليهود فرصة لتثبيت أقدامهم، وكانوا قد رتّبوا خلالها أن تصل باخرة لواء مدرّعة في يوم قيام الدولة اليهودية، لمساندة العصابات الصهيونية في احتلال ما تبقّى من الأرض.
في تلك الأثناء، جرت معركة القسطل على مشارف مدينة القدس، المعركة التي استشهد فيها عبد القادر الحسيني بطل المعركة، والذي كان في زيارة إلى العرب قبلها لمطالبة الجامعة العربية بإمداده بالمدافع، لكنه قوبل بالاستهزاء والرفض، وعاد يجرّ أذيال الخيبة، وبعد استشهاده رشّحت جامعة الدول العربية مفتش بوليس سابق ومفتش مباحث يُدعى منير أبو فاضل ليكون خليفة للحسيني، أبو فاضل الذي كان من كبار ضباط المباحث الجنائية في شرطة الانتداب البريطاني.
الجيوش العربية تراوح مكانها
يقول بهجت أبو غربية، الذي كان في كتيبة الجهاد المقدس في القدس، أن كتيبته حاولت وضع خطط دفاعية تمكّنهم من الصمود حتى وصول الجيوش العربية والانتقال من الدفاع إلى الهجوم، إلا أن الهدنة التي عقدها عبد الرحمن عزام باشا، أمين عام جامعة الدول العربية، كانت سارية المفعول، وفور انسحاب الجيش البريطاني والمندوب السامي من القدس في 14 مايو/ أيار، بدأ اليهود والعصابات الصهيونية هجومًا مكثفًا على المدينة، مستفيدين من تأخُّر الجيش العربي.
بعد دخول يوم 15 مايو/ أيار، بدأت الجيوش العربية في التقدم، وكان الجيش الأردني ضمن جيش الإنقاذ الذي يفترض أن يساعد الفلسطينيين في القدس بالتقدُّم نحوها، إلا أن قواته وقفت عند نقطة الخان الأحمر على بُعد 17 كيلومترًا من القدس، توقف ولم يتقدم، وانتظره الفلسطينيون وكتيبة الجهاد المقدس ولم يأتِ.
في كتابهما “يا قدس”، يقول الكاتب الفرنسي دومنيك لابير والصحفي العسكري الأمريكي لاري كولينز، إن رؤساء العرب كانوا مجتمعين في عمان لوضع خطة لمحاربة اليهود، وفي خضمّ ذلك وصل ضابط من الجيش الأردني إلى مستعمرة نهاريا، يحمل معه رسالة من قائد الجيش الأردني غلوب باشا، والتقى بقائد عصابة الهاغاناه، يخبره أن الأردن يريد “أن نقتسم فلسطين نحن وإياكم، وألا يجري قتال بيننا وبينكم، ونحن على استعداد أن نؤخر حركتنا في منطقتنا بينما تأخذون مواقعكم على الخطوط التي تريدونها، فقال له نوافق على هذا بشرط ألا تدخل القدس”.
وفي استحضار للذاكرة للأيام الحمراء من 14 إلى 19 مايو/ أيار، كما يصفها المقدسيون حين كانت المدينة المقدسة تتعرض للهجوم، يقول أبو غربية أن الجيوش العربية لم تشارك في الدفاع عن القدس خلال الأيام الحمراء الخمسة، وصبيحة اليوم السادس بدأ الجيش العربي يشارك في القتال، “كنا كل ساعتَين من خلال جهاز اللاسلكي نرسل إلى جيش الإنقاذ العربي إشارة من الجهاد المقدس للمساندة، وأرسلنا برقية أن حي الشيخ جراح في القدس مفتوح أمامكم لتتقدموا، ولم يصلنا الجواب”.
كان واضحًا من مجريات الحرب أن جامعة الدول العربية تآمرت سياسيًّا مع اليهود والأمم المتحدة على قبول التقسيم، ولو وُجِد القرار السياسي بالحرب والقتال لكانت الصورة مختلفة.
يقول غلوب باشا في مذكراته: “ولمدة 4 أيام من الآلام المبرحة ونحن متمركزون بين الرملة وبيت المقدس آملين بمنتهى الحماسة أن تبادر منظمة الأمم المتحدة أو القوى الدبلوماسية الأخرى إلى إيقاف الغزو الإسرائيلي للقدس، ما أرغمنا في النهاية على أن ندخل المدينة، كنت أنا في الغالب هو الرجل الذي يتلقى الذمّ باعتباري كنت أقود جيشًا متحمّسًا لمهاجمة “إسرائيل” التي ولدت حديثًا”.
مكملًا: “ولم أكن إزاء ذلك أستطيع أن أفعل شيئًا سوى أن أبين في دفاعي ضد التهمة بأن القادة العسكريين ليسوا هم الذين يبدأون الحروب، بل الحكومات التي لها حق التصرف، ومهما يكن الأمر فإنه لم تكن لدينا نوايا لأن نصطدم مع “إسرائيل” التي قبلت بمشروع منظمة الأمم المتحدة والذي التزمنا نحن به أيضًا”.
في اليوم التالي من يوم النكبة المشؤومة، نشرت الجريدة الرسمية الأردنية في 16 مايو/ أيار ملحقًا لقانون الدفاع عن شرق الأردن لسنة 1935، الذي كان الملك عبد الله قد وقّعه في 13 مايو/ أيار، وينصّ الملحق على أن أحكام قانون الدفاع ستسري على البلاد، أو المناطق التي تكون تحت سيطرة الجيش الأردني.
واستنادًا إلى هذا الملحق، يتم إصدار أمر عسكري يعيَّن بموجبه الحاكم العسكري العام الأردني حاكمًا عسكريًّا على مناطق فلسطين الواقعة تحت سيطرة الجيش الأردني، وستسمّى هذه المناطق فيما بعد “المنطقة الغربية” ومن ثم الضفة الغربية.
وفي اليوم نفسه، يصدر أمر عسكري ثانٍ ينص على أن القوانين والأنظمة التي كانت سارية في فلسطين ستبقى نافذة في هذه المناطق، باستثناء تلك النصوص التي تتعارض مع قانون الدفاع لسنة 1935، أو مع أي نص صادر بموجب هذا الأخير.
كان واضحًا من مجريات الحرب أن جامعة الدول العربية تآمرت سياسيًّا مع اليهود والأمم المتحدة على قبول التقسيم، ولو وُجِد القرار السياسي بالحرب والقتال لكانت الصورة مختلفة، إلا أن المثبت وفق الوقائع -بالنسبة إلى القيادة الأردنية والعراقية في جيش الإنقاذ- أن يقفوا على خط التقسيم، أما الذي فرض عليهم القتال أن اليهود كانوا يتوسعون عن خطوط التقسيم.
ومع ذلك، لا يمكن أن تنسى الشواهد المختلفة أن مقاتلين عربًا في جيش الإنقاذ والمتطوعين سطروا بطولات مشرّفة، وقد استمعوا خلال قتالهم إلى ضمائرهم الحية لا إلى قيادة دولتهم المتخاذلة، والذين ما زلنا حتى اللحظة نستكشف رفاتهم في مقابر جماعية كانت عنوان شرف قتالهم في فلسطين.