كشفت الحملات الدعائية خلال الفترة الماضية والممارسات التي شهدتها عملية التمهيد للانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية، عن تصاعد المنافسة بين الأحزاب والتحالفات المشاركة، مصحوبة بحالة استقطاب سياسي، لم تقتصر على حزب العدالة والتنمية الحاكم (الذي يقود تحالف الشعب) والمعارضة (الأحزاب والتكتلات)، لكن حالة الاحتقان السياسي انتقلت إلى مربع المعارضة نفسه، عقب انسحاب مرشح رئاسة الجمهورية محرم إنجه، على خلفية تهديده بكشف “فضائح جنسية” نفاها إنجه، دون إشارة رسمية للطرف الذي يقف خلف هذه التهديدات التي تأتي بعد فشل رئيس حزبه السابق كمال كليجدار أوغلو، زعيم الشعب الجمهوري ومرشح رئاسة الجمهورية، في إثنائه عن الترشح للرئاسة التركية والانضمام لتحالف “الأمة” المعارض!
لكن تعقيدات المشهد الانتخابي المحتقن وحالة القلق التي تفرض نفسها على الأحزاب والتكتلات التي تخوض الانتخابات العامة في 14 مايو/أيار 2023 تنسحب أيضًا على ما يمكن وصفه بـ”الشريحة الحرجة” التي ستشارك في عملية التصويت للمرة الأولى، ممثلة في جيل الشباب “جيل Z“، وهو مصطلح يشير إلى الشريحة المولودة بين عامي 1997 و2012 الذين منحتهم وسائل الإعلام الجديدة، لا سيما مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي، قوةً إضافيةً وتأثيرًا كبيرًا في المشهد السياسي، ليس في تركيا فقط، بل في العالم كله (2.4 مليار نسمة، تعادل 32% من إجمالي سكان العالم) عبر الاستفادة من التطور التكنولوجي، وجعلت منه الجيل الأكثر تحديًا وكسرًا للقيود والأعراف، فضلًا عن كونه الأكثر جموحًا وبراجماتية (نفعية) في التعامل مع محيطه اجتماعيًا وسياسيًا.
حصيلة رقمية
يمثل “جيل Z” نحو 8% من إجمالي من لهم حق التصويت في الانتخابات التركية، بينما تتباين الأرقام في تحديد عددهم الفعلي (من 6 إلى 7 ملايين ناخب شاب، سيصوّتون في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، للمرة الأولى) وبلغ عدد الشباب الذين لهم حق الإدلاء بأصواتهم للمرة الأولى في انتخابات الخارج، نحو 277 ألفًا و646 مواطنًا، من إجمالي عدد الناخبين (نحو 64 مليونًا و113 ألفًا و941 مواطنًا داخل تركيا وخارجها).
ويشارك شباب تركي (13 مليون ناخب، بعضهم مارس حقه السياسي من قبل، وشريحة تقوم بذلك لأول مرة) في انتخابات الداخل، موزعين على 81 ولاية تركية، وتوضح الخريطة الرقمية لانتشار “جيل Z” من واقع قوائم الناخبين، وجود أكثر من مليون ناخب شاب في إسطنبول، بينما تنتشر معظم الشريحة في ولايات جنوب شرقي تركيا (شرناق وهكاري وسيرت وأغري) وتوجد بأعداد أقل في ولايات أخرى.
والملاحظ أن الشباب التركي بين 18 و25 عامًا، عاشوا حياتهم في ظل تصدر حزب العدالة والتنمية (الحاكم) للمشهد السياسي التركي وزعيمه رجب طيب أردوغان (69 عامًا) ومن واقع اهتمام الشباب التركي (16.4% من إجمالي الشعب التركي) فإن نسبة كبيرة منهم لا تهتم بالعمل السياسي، ولا تنخرط في صراعات التيارات الرئيسية في المشهد العام التركي (اليمين واليسار والمحافظين والعلمانيين)، فيما تتردد نسبة منهم في تحديد خياراتهم السياسية.
ووفق استطلاعات مؤشر كوندا، تبين أنه من بين كل 100 شاب، هناك 81 ليسوا أعضاءً في أي حزب سياسي، ولا رغبة لديهم في العضوية الحزبية، كما أن نصف الشباب لا يؤمنون بأن المشكلات سيتم حلها عبر السياسة (وكوندا للأبحاث والاستشارات هي مؤسسة مختصة في استطلاعات الرأي العام والاستشارات منذ عام 1986، وترصد منذ مارس/آذار 2010، الانطباعات الشعبية تجاه قضايا وملفات عدة: القومية والولاءات السياسية والقانون والعدالة، كما تنشر الشركة مؤشرين لقياس الاستقطاب السياسي ورضا الجمهور).
رؤية الأحزاب
يتمسك حزب العدالة والتنمية بأنه الأكثر تمثيلًا لـ”جيل Z” من واقع قائمة مرشحي الحزب في الانتخابات التشريعية (الجمعية الوطنية) خاصة الشريحة العمرية بين 18 و40 عامًا، وخلال الانتخابات البرلمانية عام 2018، رشح الحزب 57 شابًا تحت سن الـ25 عامًا على قوائمه التي تضمنت الدفع بـ600 مرشح.
كما أن انحياز الحزب الحاكم للشباب يتبدى (من واقع التصريحات الصادرة عن قيادات الحزب والتشريعات التي أقرتها الأغلبية البرلمانية) في خفض سن الترشح للبرلمان من 30 إلى 18 عامًا، وسط قناعة من حزب العدالة والتنمية، بأن تجربة تأسيسه ستظل تحكم نظرته لشريحة الشباب في المجتمع التركي، كون الحزب دخل المشهد السياسي عام 2001، بقيادات شابة، بعد الانشقاق عن حزب “الفضيلة” آنذاك، ويفخر الحزب حاليًّا، بأن لديه نحو 6 ملايين عضو شاب، من إجمالي 12 مليون عضو عامل، على مستوى الولايات التركية.
في المقابل، يحاول المرشح الرئيس للمعارضة، في انتخابات رئاسة الجمهورية، كمال كليجدار أوغلو (74 عامًا) دغدغة مشاعر الشباب التركي بوعود تتعلق بالتغيير، وتحاول المعارضة التركية توظيف الضغوط الاقتصادية وارتفاع التضخم، وشعارات تتعلق بالحريات العامة، في مد الجسور مع شريحة الشباب (الطلاب، والمهنيين) والاستفادة من أصواتها في الانتخابات، غير أن البرنامج المشترك لتحالف “الأمة” المعارض، لم يقدم تصورًا متكاملًا يلبي طموحات الشباب بل وعموم المواطنين الأتراك، لتحسين الأوضاع الاقتصادية، باستثناء عناوين عريضة من عينة خفض معدلات التضخم خلال 24 شهرًا واستقرار سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار وضمان استقلال البنك المركزي.
وتقلل مصادر لـ”نون بوست” من كون مرشح رئاسة الجمهورية المنسحب، محرم إنجه، مرشحًا للشباب، وأنه رغم محاولاته إظهار ذلك في تصدرهم لمؤتمراته ومسيراته الانتخابية، فإن شريحة الناخبين الشباب (بحكم تنوع الانتماءات اجتماعيًا وفكريًا، وعلى صعيد الطموحات الخاصة والعامة) ليست كتلة تصويتية متجانسة، رغم التعويل عليها من كل الأحزاب والتكتلات كـ”شريحة مرجحة” حال مشاركتها بكثافة في عملية التصويت، سواء لمرشح رئاسي أم قائمة برلمانية، والأمر الآخر، أن معظم نتائج استطلاعات الرأي التي سبقت انسحاب محرم إنجه، أكدت تراجع شعبيته رغم حصوله خلال الانتخابات الرئاسية الماضية على 30% من أصوات الناخبين، مع تقدم طفيف للمرشح القومي سنان أوغان.
وبالنظر إلى خريطة الأحزاب السياسية التركية الأخرى سواء القديمة نسبيًا أم حديثة التأسيس، لا تحظى شريحة الشباب برؤية واضحة تعالج المشكلات والتحديات التي تواجه “جيل Z” أو الفئة العمرية الأكبر سنًا، خاصة أن هناك من يرى أن الشباب التركي المتأثر بأدوات العولمة والتكنولوجيا الحديثة التي تمد الجسور بين شباب العالم، لا سيما الغرب الأوروبي، لا يهتم بالصراعات الحزبية الداخلية، وأن هناك قواسم مشتركة تتمحور في تعزيز الحقوق والحريات ونمط العيش والتعليم وفرص العمل، فضلًا عن الاستفادة من التجربة الديمقراطية الغربية مع الاعتزاز بقوميته، على عكس الانحيازات التي تروجها استطلاعات الرأي الموجهة، بشأن اتجاه التصويت في الانتخابات، كون معظمها تفتقد الآليات المنهجية التي تضمن سلامة النتائج، حتى إن أردوغان يقول: “صرت أشعر بنبض الناس في الميادين أكثر بكثير من شعوري بها عبر استطلاعات الرأي”.
اتجاهات التصويت
انتخابيًا، يحظى أردوغان بشعبية بين الناخبين المحافظين الذين ينحازون (من واقع تشكيل تحالف الشعب: العدالة والتنمية والحركة القومية والوحدة الكبرى والدعوة الحرة وحزب الرفاه الجديد) لجملة الأفكار والمواقف والنزعة القومية، لكن تتبدى الرؤية الخاصة لقيادة التحالف، تجاه شريحة الشباب، ليس فقط لدفع الشريحة التي لها حق التصويت للتوجه عن قناعة إلى مراكز الاقتراع، بل شعور الشباب التركي عمومًا، بالمكتسبات التي تحققت خلال السنوات السابقة، وفاءً لتعهدات الحزب الحاكم وزعيمه أردوغان الذي تعهد بالعمل على النهوض بالاقتصاد وتوفير 6 ملايين وظيفة جديدة في 5 سنوات وتخفيض معدل البطالة إلى حدود 7% ومراجعة سياسة التوظيف في القطاع الحكومي ورفع نصيب الفرد من الدخل القومي إلى 16 ألف دولار سنويًا وزيادة الدعم الحكومي من خلال عائدات الغاز المكتشف (710 مليارات متر مكعب) وقروض بدون فوائد لتعزيز الاستثمارات الشبابية وإعفاء الطلاب الجامعيين من الضرائب عند شرائهم للجوالات والحواسب الآلية.
كما يتعهد أردوغان بمواصلة الإصلاحات السياسية والحكومية والحزبية (إعادة هيكلة النظام الرئاسي وفق المتغيرات) مع تعزيز السياسة الخارجية ومد الجسور مع القوى الإقليمية والدولية على أساس المصالح المشتركة سواء مع الغرب (الأمريكي – الأوروبي) أم مع الجوار العربي ومنطقة الشرق الأوسط عمومًا.
ولم تتوقف تعهدات أردوغان عند الشباب التركي، لكنه تحدث عن وعود لشباب اللاجئين والأجانب عمومًا سواء بجهود دمجهم في المجتمع التركي، بما يعود بالفائدة على الطرفين، خاصة في مجالات الاقتصاد والزراعة والصناعة، أم تسهيل العودة الطوعية لمن يرغبون في العودة لبلادهم.
وخلال جولاتي في الشارع التركي، عبرّت مجموعات شبابية عن رؤيتها للتغيير المنشود وأنه “تغيير في السياسات، بحيث تكون قادرة على النهوض بالاقتصاد وتوفر الوظائف وتعزز الحريات العامة، خاصة أن النجاحات التي حققها أردوغان والحزب الحاكم، طوال السنوات الماضية تدعم موقفه الانتخابي”، وقد تبدى ذلك من خلال عملية التصويت في الخارج التي لم تتم من زاوية التداول السلمي للسلطة، عبر صناديق الاقتراع، بل من ناحية المكانة التي صنعها أردوغان لتركيا إقليميًا ودوليًا، مدعومة بالتطور الحاصل في قطاعات ومجالات عدة، والتأكيد بأن الأزمة الاقتصادية التي تعانيها تركيا، ليست أخطر مما عاشته قبل صعود حزب العدالة والتنمية عام 2002، لصدارة المشهد، ومع ذلك نجحت سياسات أردوغان في أن تصبح تركيا ضمن مجموعة دول الـ20.
نعم.. ولكن!
في المقابل، هناك شريحة من الناخبين الشباب لم تحسم قرارها الانتخابي بعد، وثالثة تؤيد المعارضة التي توظف بعض الإخفاقات الحكومية، لكن تتعدد العقبات التي تحول بين تعهدات التكتل الأكبر في المعارضة وبشريحة كبيرة من شباب الناخبين، لا سيما التاريخ المعروف لحزب الشعب الجمهوري وغياب وحدة الموقف والتوجهات بين أحزاب تحالف الأمة المعارض، خاصة بعد الخلاف الشهير الذي دفع زعيمة حزب الجيد ميرال أكشينار للاعتراف بأن التحالف لم يعد معبرًا عن مصالح الأتراك.
فضلًا عن تباين التوجهات داخله (خلفيات يسارية وقومية وإسلامية ومحافظة وليبرالية) التي تؤكد أنه ليس بديلًا قويًا لمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشباب، إلى جانب ما يمثله ذلك من عدم الاستقرار السياسي والمؤسسي في حالة التغيير غير محسوب العواقب.
وهناك من يعبر مباشرة عن تخوفاته: “لا يمكنني التصويت لصالح كليجدار أوغلو. المسألة لا تقتصر على الناخبين المحافظين. لا تغرنا الخطوات الانتخابية التي تحاول إظهار التسامح المؤقت كدعم الحجاب وغيره. المهم القناعة الراسخة بالحقوق والحريات العامة، لن نراهن على مجهول، في ظل التباين الكبير داخل تحالف الطاولة السداسية، بشأن ملفات عدة داخلية وخارجية. عانت تركيا في سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي من الائتلافات الحكومية”.
يحدث ذلك رغم أن كليجدار أوغلو يحاول التقارب مع شريحة الشباب التي تعتمد التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة والهواتف الذكية في التخاطب، لكن حزب العدالة والتنمية تنبه مبكرًا لأهمية وسائل التواصل الاجتماعي لجذب أصوات شريحة الشباب المؤهل للإدلاء بأصواته في الانتخابات، عبر حملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثل يوتيوب وإنستغرام، لزيادة الوعي بين الشباب، حتى لا يسقط في فخ التضليل السياسي.
فيما يحذر أردوغان خلال رسائله السياسية الموجهة للشباب على هامش المؤتمرات الانتخابية، من السيناريوهات التي يتم تعميمها على مستخدمي وسائل الإعلام الاجتماعية في تركيا، مع التعقب القانوني للأخبار المزيفة.
بالمحصلة، تؤمن قيادات حزب العدالة والتنمية بأن المواقف التي مر بها الحزب منذ تأسيسه، لم تعطل مسيرته، نتيجة المحاولات المستمرة لتصحيح المسار، وأن الشباب، بحكم طموحاته، يستحق الكثير والكثير.
من جانبه، يعول رئيس حزب الشعب الجمهوري كليجدار أوغلو، على الاستفادة من الشريحة الشبابية التي كانت تدعم مرشح الرئاسة المنسحب محرم إنجه، خاصة بعدما قال مركز “متروبول” لاستطلاعات الرأي إنه في حال انسحاب إنجه من الانتخابات الرئاسية، فسيصوت نحو 49% لصالح، كليجدار أوغلو و22.3% لصالح أردوغان، وأن 21.2% لن تشارك.
لكن الواقع يشكك في هذه المعطيات كون الشريحة التي انشقت مع إنجه من حزب الشعب الجمهوري، وأسست معه حزب “الوطن” أقدمت على هذا الموقف بسبب رفضها لهيمنة كليجدار أوغلو على الحزب ومقدراته!