وقع طرفا الصراع في السودان، الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، إعلان مبادئ أولي تحت عنوان “إعلان جدة” في إطار مباحثات الوساطة التي تقوم بها السعودية لوقف الاقتتال الدائر في السودان منذ منتصف أبريل/نيسان الماضي.
ويؤكد هذا الإعلان الذي تم بالتنسيق مع الولايات المتحدة على “التزام الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بسيادة السودان ووحدته”، كذلك “الالتزام في الجوانب الإنسانية بشكلٍ فوري وتمكين إيصال المساعدات الإنسانية بأمان، واستعادة الخدمات الأساسية، وانسحاب القوات من المستشفيات والعيادات، والسماح بدفن الموتى باحترام” كما جاء في بيان الخارجية السعودية.
البيان أكد كذلك على “امتناع الجيش السوداني والدعم السريع عن أي هجوم من شأنه أن يتسبب بأضرار مدنية، والاتفاق على أن مصالح الشعب السوداني أولوية لهما”، موضحًا أن تلك “الإجراءات الأمنية ستشمل آلية لمراقبة وقف إطلاق النار مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية والمجتمع الدولي”، وتابع أنه “تماشيًا مع النهج التدريجي المعتمد الذي اتفق عليه الطرفان، ستتناول محادثات جدة الترتيبات المقترحة للمحادثات اللاحقة مع المدنيين السودانيين والشركاء الإقليميين والدوليين بشأن وقف دائم للأعمال العدائية”.
ومن المقرر عقب توقيع هذا الاتفاق الأولي أن تركز “مباحثات جدة على التوصل إلى اتفاق بشأن وقف فعال لإطلاق النار لمدة تصل إلى قرابة عشرة أيام، وذلك لتسهيل هذه الأنشطة”، حسبما أوضحت الخارجية السعودية، وسط حالة من التفاؤل لدى طرفي الحرب في السودان للتقدم الذي أحرزته تلك المباحثات وفق ما نقلت وكالة “رويترز” عن مصادر مطلعة على المفاوضات.
الاتفاق في حد ذاته خطوة مهمة نحو حلحلة الأزمة وتكسير جدارها الصلب الذي خلف حتى كتابة تلك السطور مئات القتلى وأضعافهم من المصابين، وتشريد مئات آلاف السودانيين، داخليًا وخارجيًا، في ظل تحذيرات من كارثة إنسانية حال استمر الوضع على ما هو عليه، فضلًا عن ارتدادات تلك الأزمة إقليميًا ودوليًا في ظل تشابك العلاقات والمصالح في تلك المنطقة الإستراتيجية داخل القارة الإفريقية.. لكن يبقى السؤال: هل تنجح الرياض في تنفيذ بنود هذا الاتفاق في ضوء حزمة التحديات التي تواجهه؟
إصرار سعودي على نجاح الوساطة
تبذل المملكة جهودًا حثيثةً لإنجاح هذا الاتفاق، الذي بلا شك سيعزز من حضورها الإقليمي والدولي، حيث يرى السعوديون أن الأزمة السودانية ربما تكون الجسر الأكبر نحو تعميق نفوذ بلادهم داخل القارة الإفريقية بعد سنوات من التراجع لحساب قوى إقليمية أخرى.
ومما يزيد من قوة تلك الوساطة مباركة واشنطن لها، كخطوة نحو تخفيف التوتر المكتوم بين البلدين خلال الآونة الأخيرة، والناجم عن تحفظ الرياض على توجهات الإدارة الأمريكية في التعامل مع المملكة في بعض الملفات، ما دفع السعوديين للتغريد عكس الهوى الأمريكي بين الحين والآخر، كما حدث في ملف الطاقة وتخفيض معدلات الإنتاج داخل أوبك لا سيما بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي كان لها تداعياتها العكسية على سوق الطاقة العالمي.
قلق الرياض على مصالحها الاقتصادية واللوجستية في منطقة البحر الأحمر، يدفعها بصورة قوية نحو إنجاح وساطتها الدبلوماسية لتخفيف التوتر داخل السودان
وتستند السعودية في مساعيها الدبلوماسية للوساطة بين طرفي الحرب في السودان على عاملين أساسيين، الأول: العلاقات الوثيقة التي تربط الرياض بمختلف أطراف الصراع داخل السودان، فهي على علاقة جيدة بحميدتي والبرهان، كذلك المكون المدني بعد الإطاحة بعمر البشير في أبريل/نيسان 2019، تلك العلاقات التشابكية الجيدة تسمح لها بأداء هذا الدور.
ومن أبرز المؤشرات على عمق تلك المكانة لدى مختلف ألوان الطيف السوداني الداخلي، تسهيل عملية إجلاء المواطنين السعوديين من السودان، كذلك إجلاء بعض الجنسيات الأخرى، حيث تمكنت من إجلاء نحو 6000 شخص حتى الآن، وهو ما لم يحدث مع أي دولة أخرى، في خطوة تعكس حجم العلاقات القوية بين الرياض ومكونات السلطة والنفوذ في الخرطوم.
وفي السياق ذاته فإن قلق الرياض على مصالحها الاقتصادية واللوجستية في منطقة البحر الأحمر، في ظل الإستراتيجية الجديدة التي تتبناها المملكة وتسعى من خلالها لتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي، سياسيًا واقتصاديًا، مغردة بصورة منفردة عن تكتلات تحالفاتها الإقليمية التقليدية، يدفعها بصورة قوية نحو إنجاح وساطتها الدبلوماسية لتخفيف التوتر داخل السودان، موظفة لأجل هذا الغرض إمكاناتها السياسية والاقتصادية.
تحديات في مواجهة الاتفاق
مثل تلك الأمور الحساسة التي تشكل مستقبل دول بأكملها فإن النوايا والمحفزات وحدها لا تكفي، فالرغبة السعودية في تحريك المياه الراكدة في مستنقع الجمود السياسي داخل السودان، والدعم الأمريكي لها، ليست كافية لتحقيق الهدف المنشود، خاصة أن هناك حزمة من التحديات التي تشكل حجر عثرة أمام تحويل بنود اتفاق جدة من مجرد بيانات نظرية إلى واقع عملي منفذ على الأرض.
ويأتي على رأس تلك التحديات السيولة السياسية والعسكرية داخل السودان، فمن الخطأ الاعتقاد بأن البرهان وحميدتي هما القوتان السودانيتان الوحيدتان في الملعب، فهناك العديد من الكيانات الأخرى التي تشاركهما الحضور العسكري ويتمتعون بقوة ونفوذ داخلي كبير يمكنه أن يحدث الفارق بين الحين والآخر إن تم تجاهله أو إقصاؤه عن المشهد.
تصاعد حالة الخصومة داخل المكون العسكري تمثل تحديًا خطيرًا في مسار الاتفاق، فالجيش وقوات الدعم ليسا على ذات الدرب، أيديولوجيًا وسياسيًا
ومن أبرز تلك الكيانات المؤثرة في المشهد السوداني “الائتلاف الموقع على الاتفاقية الإطارية” المكون من أكثر من 40 طرفًا وجماعةً مدنيةً، وهو الائتلاف الذي وقع على الاتفاقية الإطارية لبدء الانتقال الديمقراطي، كذلك “حزب المؤتمر الوطني”، الذي ما زال يتمتع بنفوذ سياسي واقتصادي قوي رغم مساعي إزاحته عن المشهد، بجانب “حركة العدل والمساواة” غرب دارفور بقيادة جبريل إبراهيم، المدعومة من تشاد، و”الجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال” بقيادة عبد العزيز الحلو، بالإضافة إلى “حركة تحرير السودان” بشقيها، فصيل ميناوي بقيادة زعيم المتمردين الدارفوريين ميني ميناوي، وفصيل النور بقيادة عبد الواحد النور الذي يديره من منفاه الاختياري في فرنسا، وتربطه علاقات جيدة بالجنرال المتقاعد خليفة حفتر (حليف الإمارات الأبرز).
كما أن تصاعد حالة الخصومة داخل المكون العسكري تمثل تحديًا خطيرًا في مسار الاتفاق، فالجيش وقوات الدعم ليسا على ذات الدرب، أيديولوجيًا وسياسيًا، فكل منهما ينتمي لأيديولوجية وخلفية مختلفة تمامًا، بجانب حالة التربص التي تهيمن على الأجواء بينهما، فكل طرف يريد حسم المعركة عسكريًا لصالحه رغم صعوبة هذا الحال، إن لم يكن مستحيلًا، وهو ما بدا واضحًا مع تصريحات القيادة العامة للجيش السوداني التي كشفت استبعاد أي مفاوضات سياسية مباشرة مع الدعم السريع، وأن ما حدث ليس سوى قبول للهدنة الإنسانية وتغليب للبعد الإنساني، وهو ما يترجمه السجال المتبادل بين قيادتي الطرفين، فكل طرف يستهدف الإطاحة بالآخر شكلًا ومضمونًا.
نجاح اتفاق جدة يتوقف بشكل كبير على قدرة الرياض على التعاطي مع تلك التحديات التي يبدو أنها ستكون أكبر من قدرات المملكة في الوقت الراهن، إن لم تلجأ لسياسة الحسابات والمواءمات مع بقية الفاعلين
ومن المسائل المعرقلة بشكل كبير لتنفيذ الاتفاق شبكة اللاعبين الإقليميين والدوليين المنخرطة في الملف السوداني بصورة يصعب معها استبعادهم من أي حراك دبلوماسي لحلحلة الأزمة، خاصة أن بعض هؤلاء اللاعبين لديهم أجندات توسعية لا يمكن تحقيقها إلا في بيئة من الاضطرابات وعدم الاستقرار كما هو حال الإمارات وروسيا تحديدًا، هذا بخلاف صراع النفوذ بين المعسكرين الشرقي والغربي داخل إفريقيا، الذي من الصعب أن يسمح للأمريكان بتعزيز نفوذهم في السودان دون نزاع أو منافسة أو حتى صدام مع تلك التوجهات من المعسكر الشرقي بقيادة موسكو وبكين.
بعض الأصوات تلوح إلى أن قبول الجيش والدعم لمباحثات جدة والإعلان عن هذا الاتفاق الأولي ليس إلا محاولة لالتقاط الأنفاس وكسب المزيد من الوقت، لترتيب كل طرف بيته من الداخل في ظل الخسائر التي مني بها خلال المواجهات المستمرة منذ 15 أبريل/نيسان الماضي والمتوقع أن يُطال أمدها.
كما أن انفراد المملكة – بجانب أمريكا وربما معها بريطانيا – بتلك الجهود دون إشراك العديد من القوى الفاعلة لها وذات الصلة بهذا الملف خاصة دول الجوار السوداني، ربما يعرقل تنفيذ مخرجاتها بشكل كبير، فعلى النقيض قد تسير بعض القوى عكس الهوى السعودي، مستغلة حالة الانقسام الداخلي وتعدد اللاعبين المحليين وخريطة الجماعات والحركات المسلحة ذات الأيديولوجيات المتعددة.
ومن ثم فإن نجاح اتفاق جدة يتوقف بشكل كبير على قدرة الرياض على التعاطي مع تلك التحديات التي يبدو أنها ستكون أكبر من قدرات المملكة في الوقت الراهن، إن لم تلجأ لسياسة الحسابات والمواءمات مع بقية الفاعلين، الأمر الذي يجعل الاتفاق تحت ميكروسكوب الاهتمام والترقب – المحلي والإقليمي والدولي – لما يمكن أن يتمخض عنه ميدانيًا.