يوم 20 مارس/آذار 2022، تزامنًا مع الاحتفال بيوم الاستقلال، صادق الرئيس التونسي قيس سعيد على مرسوم للصلح الجزائي بين الدولة ورجال الأعمال المتورطين في قضايا فساد مالي مقابل مشاريع تنموية، بعد أن رفض التونسيون هذا المشروع في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، قال سعيد لأعضاء اللجنة التي شكلها لأجل هذا الغرض: “أمامكم 6 أشهر لاستعادة أموال الشعب، لا سيما أن الوثائق التي تثبت حقوق أفراد الشعب موجودة لدى القطب المالي وفي تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد لسنة 2011”.
نتائج مخيبة
مرت المدة التي حددها سعيد، لكن لا نتائج تذكر، فلم تجن الدولة التونسية أي مبلغ مهم من هذه اللجنة التي وضعت للمصالحة مع رجال الأعمال المتهمين بالفساد، وبقيت الصناديق المعدة لاستقبال هذه الأموال خاوية على عروشها.
يقول قيس سعيد إن المبالغ المنهوبة في صفقات الفساد تناهز 13.5 مليار دينار (4.4 مليار دولار)، وكرر ذلك أكثر من مرة، واستند في هذا إلى تقرير لجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة التي تشكلت بعد سقوط نظام بن علي في يناير/كانون الثاني 2011، مشيرًا إلى تورط نحو 460 شخصًا في قضايا فساد مالي.
ووفقًا لتقرير “اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة” الصادر سنة 2011، استغلت عائلة الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وأصدقاؤه أموال الدولة وأراضيها لصالحهم، واعتمدوا على مؤسسات الدولة – مثل البنوك العامة وجهاز القضاء والشرطة – لتحقيق مصالحهم الشخصية، وعاقبوا كل من عارض مشاريعهم الاقتصادية.
أغلبية من لديهم قضايا منشورة لدى دوائر القضاء المالي يفضلون مواصلة مسار التقاضي على إبرام صلح مع الدولة وضخ الأموال لفائدة الموازنة
يذكر أنه في فبراير/شباط الماضي، قال رئيس اللجنة الوطنية للصلح الجزائي (تمت إقالته لاحقًا) مكرم بنمنا، في تصريحات إعلامية: “هناك بشائر طيبة ومؤشرات واعدة تتعلق بالمطالب الواردة على اللجنة وبنيات الصلح”.
وبعدها بفترة قصيرة، قال سعيد: “الدولة ستسترجع أموالًا في الأيام القليلة المقبلة كانت تتعلق بها قضايا لم يتم البت فيها منذ 10 سنوات”، لكن يبدو أن هذه البشائر والمؤشرات لم تتحول إلى واقع ملموس، إذ لم يحصل شيء ولم تستقبل خزينة الدولة الأموال المنتظرة.
من المهم التذكير بأن الصلح الجزائي ينص على استبدال الدعوى العمومية أو ما ترتب عنها من تتبع أو محاكمة أو عقوبات أو طلبات ناتجة منها قُدِمَت أو كان من المفروض أن تقدم في حق الدولة أو إحدى مؤسساتها أو أي جهة أخرى، وذلك بدفع مبالغ مالية أو إنجاز مشاريع وطنية أو جهوية أو محلية بحسب الحاجة.
? #عــــــــاجل : رئيس الجمهورية قيس سعيد يصدر أمرا رئاسيا يقضـي بتجديد عضوية أعضاء لجنة الصلح الجزائي لمدة ستة اشهر إضافية ابتداء مــن يوم 11 ماي وذلك بعد فشلها خلال الستة أشهر الأولى في إسترجاع أي مليم من الأموال المنهوبة التي قال الرئيس انــها تبلغ 13500 مليار pic.twitter.com/2WzxUjSSOl
— PolitiClown (@silly_clown_13) May 13, 2023
تشمل أحكام مرسوم الصلح الجزائي كل شخص مادي أو معنوي صدر في شأنه أو في شأن من يمثله حكم أو أحكام جزائية، أو كان محل محاكمة جزائية أو تبعات قضائية أو إدارية أو قام بأعمال كان من الواجب أن تترتب عنها جرائم اقتصادية ومالية.
كما تشمل كذلك كل شخص مادي ومعنوي لم تستكمل في شأنه إجراءات مصادرة أمواله واسترجاعها من الخارج طبقًا لما اقتضته أحكام مرسوم المصادرة الذي اعتُمِد في مارس/آذار 2011 عقب الثورة، وشمل الرئيس الراحل بن علي وعائلته وعددًا من الوزراء والشخصيات المتنفذة قبل الثورة.
أسباب الفشل كثيرة
يعلم قيس سعيد من البداية فشل هذا المشروع، لكنه أصر على مغالطة التونسيين وتحميل غيره هذا الفشل، ففي مارس/آذار الماضي أقال سعيد رئيس اللجنة الذي عينه بنفسه، وقال في اجتماع مع أعضائها: “لا أرى أي شيء على الإطلاق.. لم يتحقق أي شيء يُذكر، منذ صدور المرسوم المنظم للصلح الجزائي”، منتقدًا ما وصفه بـ”التراخي”.
لكن من المهم الإشارة إلى بعض النقاط التي كان لسعيد دور أساسي فيها، منها صدور قرار تعيين أعضاء اللجنة بعد أكثر من 230 يومًا تأخير منذ صدور المرسوم المنظم للجنة، وصدور قرار اختيار لجنة الخبراء بتأخير فاق الـ340 يومًا، وفق منظمة أنا يقظ.
وتقول منظمة أنا يقظ أيضًا: “إلى حد الآن لم يصدر النظام الداخلي للجنة بالرائد الرسمي، ولم يعين رئيس الجمهورية قيس سعيد خليفة لرئيس اللجنة الذي أقاله منذ أكثر من شهر ونصف، بالإضافة إلى إعفاء مقررة اللجنة بعد مرور 20 يومًا فقط على أدائها اليمين أمام رئيس الجمهورية”.
من أسباب الفشل أيضًا، عدم وجود إمكانات قانونية وإدارية لتحديد قائمة رجال الأعمال المتهمين بالفساد، خاصة أن قيس سعيد اعتمد على تقرير هيئة تقصي الحقائق حول الفساد، وتلك القائمة فيها الكثير ممن هاجر أو سجن أو توفي أو عقد صلحًا ماليًا مع الدولة.
روج سعيد لهذه الفكرة طويلًا وغازل التونسيين بها، خاصة أن أكبر هم الشعب الآن، الخروج من الأزمة الاقتصادية التي تكاد تعصف بالبلاد
عدم استجابة رجال الأعمال المعنيين بهذا الصلح كانت متوقعة، فمن الصعب جدًا أن يستجيب رجال الأعمال المتهمين بالفساد لنداءات سعيد، فأغلبية من لديهم قضايا منشورة لدى دوائر القضاء المالي يفضلون مواصلة مسار التقاضي على إبرام صلح مع الدولة وضخ الأموال لفائدة الموازنة.
فضلًا عن ذلك يقول المحلل سعيد عطية إن فشل هذا البرنامج كان واضحًا منذ البداية، إذ لا يمكن تنزيل “شعبوية اشتراكية في دولة تقودها منظومة شبة ليبرالية”، وفق قوله، وأشار في حديثه لنون بوست إلى أن “الوضعية الاقتصادية الصعبة التي يمر بها غالب رجال الأعمال تقلل من فرص نجاح برنامج الرئيس”.
وأوضح محدثنا أن “الرئيس سعيد من خلال التركيز على هذا البرنامج، أراد أن يثبت أنه وفي لأفكاره وبرنامجه وأنه ليس كبقية السياسيين يتحدث فقط، رغم يقينه أن برنامجه لا يمكن تنزيله على أرض الواقع”.
فشل أحد أهم مشاريع سعيد السياسية
تعد مبادرة الصلح الجزائي لقيس سعيد، إحدى أبرز الركائز التي دعا الرئيس إلى تجسيمها منذ أكثر من 11 سنة، وأكد في أكثر من مرة أنها أولوية قصوى، وبنى عليها حملته الانتخابية سنة 2019، وصوت له العديد من التونسيين، حتى يطبقها على أرض الواقع.
كان من المبرمج وفق سعيد أن يفضي الصلح الجزائي إلى توحيد مسار استرجاع الأموال المنهوبة بقصد إعادة توظيفها في التنمية الوطنية والجهوية والمحلية وتحقيق المصالحة الوطنية في المجال الاقتصادي والمالي.
فهو يرى أن هذا المشروع سيمكن الدولة من استعادة الأموال المنهوبة من رجال الأعمال المتورطين في الفساد، ما من شأنه المساهمة في معالجة أزمة المالية العمومية التي تعيشها تونس، والحد من العجز الاقتصادي في ظل رفض الصناديق المالية الدولية منح تونس أي قروض جديدة.
? مشروع الصلح الجزائي لاسترجاع 13500 مليار من الأموال المنهوبة يسقط في 6 اشهر وينهي بالضربة القاضية استراتيجية قيس سعيد القائمة على بيع الأوهام
نهاية 6 اشهر pic.twitter.com/VQVc083ill— عبد المنعم حفيظي (@Hafidhi711) May 9, 2023
يقوم المشروع الذي بدأ سعيد الترويج له منذ سنة 2021 على قيام كل من نهب المال بإنجاز مشاريع استثمارية وتنموية في البلاد كبناء مدارس ومستشفيات ومصحات عمومية ومرافق خدمات حكومية وخلق موارد رزق للعاطلين عن العمل داخل المناطق المفقرة والأقل حظًا في التنمية، بحسب جدول يرتبهم تنازليًا، بحيث يتكفل الأكثر فسادًا بالمناطق الأكثر فقرًا، حتى تتم المصالحة مع الدولة.
روج سعيد لهذه الفكرة طويلًا وغازل التونسيين بها، خاصة أن أكبر هم الشعب الآن، الخروج من الأزمة الاقتصادية التي تكاد تعصف بالبلاد، وتحقيق التنمية في المناطق الداخلية المهمشة التي لا تنظر إليها الدولة عادة.
أراد سعيد من خلال هذا البرنامج، التغطية على فشله في باقي المشاريع التي تحدث عنها وتعهد بالقيام بها، لكنه فشل هنا أيضًا، ذلك أنه يستقي معلوماته بناءً على تقارير أمنية وسياسية أغلبها مغلوطة تسعى إلى توريط الرئيس مع الشعب.