قبل شهر من الآن، بدأت اشتباكات عنيفة بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع شبه العسكرية بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، في العاصمة الخرطوم، وسرعان ما وصلت إلى العديد من المدن الأخرى.
كان ظن الطرفين القيام بعملية عسكرية سريعة تنتهي بالسيطرة على أهم المواقع الإستراتيجية والحيوية في البلاد، وبالتالي السيطرة على الحكم، لكن ذلك لم يحدث إلى الآن، ما فاقم الأزمة الإنسانية في البلاد ورفع عدد الضحايا المدنيين.
قتال راح ضحيته أكثر من 604 أشخاص وفق منظمة الصحة العالمية، وتسبب في فرار نحو 200 ألف لاجئ إلى خارج البلاد، إلى جانب نزوح أكثر من 700 ألف شخص داخليًا في السودان، وفق المتحدث باسم المنظمة الأممية طارق ياساريفيتش.
إلى جانب الخسائر البشرية، لحقت بالسودان خسائر اقتصادية كبرى نتيجة هذا القتال المتواصل للأسبوع الخامس على التوالي، إذ تشير تقديرات غير رسمية إلى خسائر بمليارات الدولارات، ما سيزيد من متاعب الاقتصادي السوداني الذي يعاني من مشاكل عديدة في الأصل.
في الأثناء، برزت العديد من المبادرات لحل الأزمة والوصول إلى حل ينهي الحرب ويفسح المجال أمام المساعدات الإنسانية، وينظر في كيفية استكمال مسار الانتقال الديمقراطي الذي توقف في أكتوبر/تشرين الأول الماضي نتيجة انقلاب العسكر على المكون المدني.
رغم جهود الوساطة الكبيرة التي قادتها دول إقليمية ودولية عديدة بين طرفي النزاع، فإن أصوات دوي المدافع وأزيز الطائرات ما زال متواصلًا إلى الآن، ما يؤكد هشاشة الهدن والاتفاقيات التي تم التوصل إليها إلى الآن، فما السبب وراء ذلك؟
جهود الوساطة
مع اندلاع الحرب مباشرة، أبريل/نيسان الماضي، بدأنا نسمع عن جهود الوساطة لوقف الصراع، بعض دعوات الوساطة بقيت مجرد كلام فقط، فيما تحولت أخرى لجهود ميدانية حقيقية، خشية تفاقم الوضع أكثر ووصول تأثيره إلى دول الجوار.
وسعت الهيئة الحكومية للتنمية بشرق إفريقيا “إيغاد” لتقديم مبادرة “لتسهيل الحوار بين كل الأطراف لإيجاد حل جذري للأزمة السودانية”، بهدف تمديد هدنة لمدة أسبوع وإجراء محادثات سلام بين الجانبين في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، إلا أن المبادرة لم يكتب لها النجاح.
كما أبلغت وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية الليبية نجلاء المنقوش نظيرها السوداني علي الصادق علي عن استعداد ليبيا للعب دور الوساطة بين الأطراف السودانية لدفع الأوضاع نحو الاستجابة لدعوات السلام واستئناف العملية السياسية، لتحقيق الأمن والاستقرار للسودان.
يعود تمسك طرفي النزاع بالحسم العسكري إلى عدم تحقيق أي منهما الأهداف التي قامت من أجلها الحرب
نفس الشي بالنسبة لتركيا، التي أبلغ رئيسها رجب طيب أردوغان رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان في اتصال هاتفي، أنه “في حال التوصل لقرار بدء مفاوضات شاملة في السودان فإن بلاده على استعداد لاستضافتها”.
وعرضت مصر وجنوب السودان، أيضًا، الوساطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع باعتبار أن “تصاعد العنف لن يؤدي إلا إلى مزيد من تدهور الوضع، بما قد يخرج به عن السيطرة”، وفق بلاغ صادر عن رئيسي البلدين.
لكن أبرز الجهود تلك التي قادتها السعودية والولايات المتحدة، وأفرزت “إعلان جدة” الذي نص على التزامات إنسانية واتفاق على جدولة محادثات مباشرة جديدة، ولاقى ترحيبًا عربيًا وغربيًا واسعًا، لفتحه باب أمل لحل الأزمة.
غياب إجماع دولي
بناءً على هذه الجهود، جرى التوصل إلى هدن إنسانية، لكن جميعها سقطت قبل أن يبدأ العمل بها، فدوي المدافع وصوت الرصاص أقوى من هذه الجهود، وللآن يتواصل القتال في أنحاء متفرقة من البلاد، وفي الأساس بالعاصمة الخرطوم.
يؤكد هذا الأمر، غياب الضغط الكافي على طرفي النزاع في السودان لوقف القتال، ذلك أن الضغط القوي يحتاج إلى إجماع دولي بشأن مسألة وقف القتال والتوجه إلى طاولة الحوار، وهو الأمر الغائب في النزاع السوداني.
يتفق الجميع على أن ما يحصل في السودان الآن كارثة بما للكلمة من معنى، وتواصله سيسبب انهيارًا سريعًا لهذا البلد العربي، لكن لا يوجد اتفاق متى يجب أن ينتهي القتال، خاصة أن أغلب الأهداف التي أدت إلى اندلاعه لم تتحقق بعد.
مستشفى شرق النيل ?#السودان pic.twitter.com/15PybS7jgu
— داليا الطاهر- Dalia Eltahir (@dalia_eltahir) May 15, 2023
لا يوجد إجماع دولي على وقف القتال، فكل دولة تدعم طرفًا في النزاع وتريد إسقاط الثاني، فمصر مثلًا تدعم البرهان والإمارات العربية المتحدة تربطها علاقات بحميدتي، نفس الشي بالنسبة إلى روسيا التي تدعم أيضًا حميدتي.
الولايات المتحدة الأمريكية تقول إنها محايدة ولا تدعم أحدًا وتهدد بفرض عقوبات، لكن ثمة ترجيحات على أنها تدعم البرهان، وفي ظل هذه المصالح المتناقضة يصعب الوصول إلى حل للأزمة السودانية في الوقت الحاليّ على الأقل.
العديد من القوى تعمل على تأجيج الصراع في السودان خدمةً لمصالحها ولتحقيق أهدافها في هذا البلد العربي الغني بالثروات الباطنية الكثيرة، على رأسها الذهب والألماس واليورانيوم، فضلًا عن الثروات الزراعية والحيوانية.
غياب الاتحاد الإفريقي
هناك عنصر آخر يبدو غائبًا عن ساحة الفعل في السودان، وهو الاتحاد الإفريقي الذي لم نسمع له صوتًا بخصوص ما يجري في بلد عضو، رغم مرور شهر على بداية القتال وسقوط مئات القتلى والجرحى ونزوح مئات الآلاف.
يمنح البروتوكول المتبع في منظمة الأمم المتحدة، الاتحاد الإفريقي الحق في إثارة القضايا المتعلقة بالدول الإفريقية في مجلس الأمن، لكنه لم يحرك ساكنًا، ولم يطرح الملف السوداني على جلسات مجلس الأمن، ما يؤكد عدم اكتراثه بالأمر.
التنازل في هذا الوقت بالنسبة إلى الطرفين يعني انتهاء حلم الحكم قبل أن يتحقق
لكن يمكن إرجاع ضعف تحركات الاتحاد الإفريقي إلى قراره في أكتوبر/تشرين الأول 2021 بتعليق مشاركة السودان في جميع الأنشطة بالاتحاد حتى عودة السلطة التي يقودها المدنيون، وهو ما لم يحصل إلى الآن.
أيضًا فشله في حسم نزاعات وأزمات بباقي دول القارة، إذ يشير تقرير نشرته “مجموعة الأزمات الدولية” للأبحاث، العام الماضي، إلى أن نحو 22 دولة إفريقية على الأقل تعاني من نزاعات مسلحة بشكل أو بآخر، دون وجود أدوار مؤثرة للاتحاد الإفريقي في حل تلك النزاعات.
لا نية للتنازل
بعد مرور شهر على بداية القتال، يبدو أن لا نية للتنازل عند أي طرف، يقول الصحفي السوداني محمد مصطفى في هذا الشأن: “يعد تمسُّك كلا الطرفَين بالحسم العسكري للنزاع الدائر بينهما أحد أبرز العراقيل أمام جهود السلام، فلا أحد منهما ينوي التنازل لتحقيق السلام وفرض الاستقرار في البلاد”.
ويعود تمسُّك طرفَي النزاع بالحسم العسكري إلى عدم تحقيق أي منهما الأهداف التي قامت من أجلها الحرب، فلا أحد منهما يريد العودة إلى ما قبل الحرب وإلى مواقعه القديمة، فذلك يعني نهاية حتمية له ونهاية حلمه بحكم البلاد.
ليس من السهل إقناع طرفي النزاع بوقف إطلاق النار والجلوس إلى طاولة الحوار، فكلاهما يصر على أحقيته في الحكم و”تمرد” الطرف المقابل، رغم أن الطرفين اشتركا معًا في الانقلاب على المكون المدني أكتوبر/تشرين الأول 2021.
البرهان يجمّد حسابات “الدعم السريع” وشركاتها في بنوك #السودان وفروعها الخارجية .
أصدر رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان قراراً بتجميد حسابات قوات الدعم السريع وشركاتها في جميع البنوك بالسودان وفروعها في الخارج. pic.twitter.com/W2myA1tuQ5
— Laffranchi (@VitoCorGIS54) May 14, 2023
يسعى الطرفان إلى تحقيق تقدم وامتيازات على حساب الآخر، والتنازل في هذا الوقت يعني انتهاء حلم الحكم قبل أن يتحقق، فكلاهما يخشى المحاسبة في حال انتهاء الحرب والسماح بالمكون المدني بالحكم.
هذه الخشية ناتجة عن الجرائم الكبيرة التي ارتكبها البرهان وحميدتي في حق الشعب السوداني، فكلاهما متورط في جرائم ضد المدنيين توجب المحاكمة والسجن، وما الحرب الدائرة بينهما الآن إلا بهدف الإفلات من العقاب القادم.
الفرصة الوحيدة لنجاح عملية السلام في الوقت الحاليّ، اتفاق الطرفين على تقاسم “كعكة السلطة” واقتسام الغنائم فيما بينهما، لكن هذا الأمر ستكون عواقبه كبيرة على السودان، وسيؤجل إرساء دولة ديمقراطية في هذا البلد الإفريقي لعقود قادمة.