ترجمة حفصة جودة
عاصر شحدة طه – 85 عامًا – نكبتين في حياته: الأولى عام 1948 وهو بعمر الـ11 عامًا، عندما طردت القوات الصهيونية المسلحة 750 ألف فلسطيني قسرًا من أراضيهم لتأسيس دولتهم المسماة الآن “إسرائيل”.
والثانية بعمر 85 عامًا في هذا الشهر، عندما دمرت الطائرات الحربية الإسرائيلية منزله بعد أن قصفت المنزل المجاور له، ليصبح هو وأبناؤه وأحفاده الـ19 مشردين.
يقول طه من أمام منزله المدمر: “قبل النكبة كنا نعيش حياة بسيطة وسعيدة، مرتبطة غالبًا بالزراعة، كان الناس يعيشون حياة مبهجة وبسيطة”.
ترجع أصول طه إلى قرية بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وقد شهد فرار الفلسطينيين قسرًا إلى قطاع غزة دون أي ممتلكات بسبب العصابات الصهيونية المسلحة، في ذلك الوقت ارتكبت العصابات الصهيونية جرائم ومذابح مروعة أدت إلى قتل 13 ألف فلسطيني وإخلاء 530 قرية ومدينة من سكانها.
سمع طه شهادات حية مباشرة من النازحين الفلسطينيين، يقول متذكرًا تلك المذابح والأعمال الوحشية التي ارتُكبت ضدهم: “سمعت قصصًا تمزق القلب عن المدنيين المطرودين، لقد كانت هذه العصابات تقتل أي أحد”.
بعمر 15 عامًا، تزوج طه من زوجته هنية التي كان عمرها آنذاك 18 عامًا، واشترى له والده سيارة أجرة، يسترجع طه فترة السبعينيات والثمانينيات عندما كان مسموحًا لهم السفر بحرية بين غزة مصر ولبنان والأردن و”إسرائيل”، كان سائقًا مشهورًا ينقل عمال غزة إلى مختلف المناطق في “إسرائيل”.
يقول طه: “أفتقد تلك الأيام حقًا”، عندما بلغ طه 29 عامًا، شنت “إسرائيل” حرب النكسة واحتلت غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان وصحراء سيناء، أدت الحرب إلى مقتل نحو 20 ألف عربيّ بينهم ما يقارب 6 آلاف فلسطيني.
في 9 مايو/أيار شنت “إسرائيل” عدوانًا على غزة لخمسة أيام، أدى إلى مقتل 33 فلسطينيًا بينهم 6 أطفال و3 نساء و2 من كبار السن
يقول طه: “أتذكر جثث رجال ونساء غزة وهي ملقاة في الشوارع بعد أن قتلتهم القوات الإسرائيلية، ففي أثناء احتلالها غزة، قتلت “إسرائيل” عددًا كبيرًا من السكان خاصة في المناطق التي تمركزت بها قواتها”.
نجا طه وأبناؤه من تلك الحرب بأعجوبة، وفي بداية الثمانينيات عندما كان يقود سيارته في مدينة ريشون لتسيون – قرب تل أبيب – أطلق الجنود الإسرائيليون النار عليه وعلى أحد الركاب، فأُصيب شحدة بجروح في قدمه بينما فقد الراكب حياته.
يقول طه: “غادرت السيارة سريعًا واحتميت بالأشجارالقريبة، بحث الجنود عني فترة من الوقت لكنهم لم يجدوني، وبمجرد أن غادروا تمكنت من العودة إلى سيارتي والهرب، لكنني فقدت الوعي بعد ذلك، وعندما أفقت وجدت نفسي في مشفى إسرائيلي، ولحسن حظي سمحوا لي بالعودة إلى غزة”.
يضيف طه “ما زلت لا أفهم لماذا أطلقوا النار علي دون سبب، فقد كانت مجرد رحلة روتينية، بعد عام من ذلك تواصلوا معي وطلبوا مني التعاون معهم لكني رفضت، ورغم الضغوط الشديدة التي مارسوها ضدي، فإنني رفضت بقوة”.
يتحدث طه عن ماضيه قائلًا: “اعتدت أني أجني مالًا وفيرًا، كنت سعيدًا وثريًا”، هذا الاستقرار المادي سمح له بالزواج من 3 زوجات وإنجاب 21 طفلًا، لكن توفي 4 منهم بسبب المرض في الستينيات والسبعينيات”.
توفيت اثنتين من زوجاته أيضًا في العقدين الماضيين، وبسبب الحروب الإسرائيلية المتعاقبة على قطاع غزة، تضرر منزل طه جزئيًا في 3 أحداث منفصلة.
في 9 مايو/أيار شنت “إسرائيل” عدوانًا على غزة لخمسة أيام، أدى إلى مقتل 33 فلسطينيًا بينهم 6 أطفال و3 نساء و2 من كبار السن، بالإضافة إلى جرح 190 شخصًا بينهم 64 طفلًا و38 امرأةً و13 من كبار السن.
في الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة، تضررت 2041 وحدة سكنية، من بينهم 93 وحدة دُمرت بالكامل، بينما أصبحت 128 وحدة غير قابلة للسكن
ردًا على ذلك، أطلقت المقاومة الفلسطينية ما مجموعه 1234 صاروخًا، سقط 976 منهم في “إسرائيل”.
النكبة الثانية
في يوم 12 مايو/أيار، قصفت “إسرائيل” المنزل المجاور لبيت طه، ما تسبب في أضرار بالغة بمنزله ولم يعد صالحًا للسكن، يقول طه من خيمته: “عندما رأيت حطام منزلي غلبني حزن شديد وبكيت، كان ملجأنا نعيش فيه نحن الـ20، والآن أصبحنا مشردين ونسكن في خيمة أمام هذا الحطام”.
وأضاف بنبرة من الشك “انظروا إلى غرفتي، لقد دُمرت تمامًا، وأصبحت جميع ثيابي مدفونة تحت الأنقاض، فأين أذهب الآن؟ ما زلت أنتظر المساعدات الخيرية لتوفر لنا ملابس جديدة”.
في الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة، تضررت 2041 وحدة سكنية، من بينهم 93 وحدة دُمرت بالكامل، بينما أصبحت 128 وحدة غير قابلة للسكن.
في يوم 11 مايو/أيار، اتصل الجيش الإسرائيلي بأحمد ابن طه وأمره بإخلاء المنزل وإبلاغ جيرانه بالأمر نفسه، لأنه ينوي قصف منزل مجاور.
يقول أحمد – 42 عامًا – “بعد أن أخبرت الجيران بذلك، اتصل الجيش الإسرائيلي مرة أخرى وقالوا إنهم لا ينوون قصف المنزل حرصًا على سلامة الأطفال والنساء، ومع ذلك في اليوم التالي تلقينا اتصالًا آخر بإخلاء المنزل خلال 10 دقائق، يعيش 53 فردًا من العائلة في هذا المنزل، فلجأنا جميعًا إلى إحدى مدارس الأونروا القريبة للاحتماء”.
يضيف أحمد “قُصف المنزل، واتخذنا قرارًا بعدم إخبار والدي بتدمير المنزل لأنه أصبح كبيرًا في السن وليس لدينا مكان آخر نلجأ إليه”، لكن رغم الظروف أصرّ طه على رؤية البيت، وبكى بشدة عندما رأى الدمار الذي حلّ به.
يقول أحمد بغضب: “لم نتمكن حتى من إنقاذ ملابسنا، ما الذي فعلناه لنستحق ذلك؟ نحن مجرد مدنيين دون أي توجهات عسكرية أو سياسية، والآن أصبحنا مشردين، أين ستعيش ابنتي التي تكافح السرطان؟ أين سنعيش؟ هل سنظل بلا مأوى في تلك الظروف البائسة؟
“لقد واجه والدي النكبة الأولى، والآن نواجه جميعًا النكبة الثانية، إنه قدرنا، وكل ما نحتاج إليه أن نجد ملاذًا لوالديّ المسنيّن، ومكانًا نسميه منزلًا”.
المصدر: ميدل إيست آي