أظهرت نتائج الانتخابات العامة (البرلمانية والرئاسية)، التي أُجريت في تركيا يوم 14 مايو/ أيار الجاري، فوز تحالف الجمهور بزعامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والمكوّن من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية وحزب الرفاه الجديد وأحزاب أخرى، بالأغلبية البرلمانية.
تجاوز التحالف عتبة 49% من إجمالي مقاعد البرلمان التركي، مقابل 35% لتحالف الأمة أو الطاولة السداسية المكوّن من حزب الشعب الجمهوري وحزب الجيد وحزب السعادة وحزب المستقبل وحزب الديمقراطية والتقدم، فيما لم يتمكن الرئيس أردوغان من حسم الانتخابات الرئاسية أمام زعيم تحالف الأمة كمال كليجدار أوغلو من الجولة الأولى، لتذهب الانتخابات الرئاسية إلى جولة ثانية ستجري في 28 مايو/ أيار الجاري.
ورغم فوز تحالف الجمهور بقيادة حزب العدالة والتنمية بالأغلبية البرلمانية، إلا أنه من جهة أخرى خسر العديد من المقاعد البرلمانية مقارنة بالانتخابات البرلمانية السابقة، ويمكن القول في هذه الصدد إن هذه الخسارة كانت متوقعة في ظل حالة الاستقطاب السياسي التي تمرُّ به البلاد في الآونة الأخيرة، إلى جانب تعدد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
فقد أثّرت هذه الأزمات بطريقة أو بأخرى على الكتلة التصويتية لحزب العدالة والتنمية، مع ذلك أظهر الحزب تفهُّمًا واضحًا لهذه المشاكل، ونجح في إعادة ثقة المواطن التركي به، وهو ما تمّت ترجمته عبر الانتخابات الأخيرة، حيث تمكّن الحزب وحده من الحصول على 35% من إجمالي مقاعد البرلمان التركي.
الطريق نحو الأغلبية
أظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية صدمة كبيرة لتحالف الأمة بكل ما للكلمة من معنى، فخلال الأسابيع التي سبقت إجراء الانتخابات، دأبت العديد من استطلاعات الرأي التي أُجريت في تركيا على إظهار تحالف الأمة بطريقة توحي للناخب التركي بأنه سيحصد الأغلبية في البرلمان التركي.
استندت استطلاعات الرأي في النتائج التي صدّرتها للداخل التركي إلى الأزمات الاقتصادية، وتداعيات الزلازل الأخيرة على مزاجية الناخب التركي، وهو ما عملت على تنميته الماكينات الإعلامية التابعة لتحالف الأمة، إلا أن نظرة بسيطة إلى خارطة التنافس الانتخابي أظهرت تقدمًا واضحًا لتحالف الجمهور في مناطق الزلازل، وتحديدًا في كهرمان مرعش وشانلي أورفا وعثمانية وهاتاي.
نجح أردوغان بخلق ضدٍّ نوعي لكل من داود أوغلو وباباجان، عبر تقديم نجل أربكان ضمن تحالفه الانتخابي الذي حصل على 5 مقاعد برلمانية.
وفضلًا عمّا تقدم، ربطت استطلاعات الرأي بين دخول رئيس الوزراء الأسبق وزعيم حزب المستقبل، أحمد داود أوغلو، ووزير الاقتصاد الأسبق وزعيم حزب الديمقراطية والتقدم، علي باباجان، بعد انشقاقهما عن حزب العدالة والتنمية، والترشُّح ضمن تحالف الأمة، وتحديدًا القوائم الانتخابية التابعة لحزب الشعب الجمهوري؛ وبين إمكانية تآكُل الكتلة التصويتية لحزب العدالة والتنمية، على اعتبار أنهما يمكن أن يأخذا من أصوات حزب العدالة والتنمية لصالح حزب الشعب الجمهوري.
إلا أن نتائج الانتخابات أظهرت بوضوح أن الخاسر الوحيد من ترشح داود أوغلو وباباجان ضمن تحالف الأمة هو حزب الشعب الجمهوري، إذ خسر الحزب قرابة 35 مقعدًا برلمانيًّا لصالح داود أوغلو وباباجان، فيما لم يتمكنا من الحصول على مقعد واحد من الكتلة التصويتية التابعة لحزب العدالة والتنمية.
إن استراتيجية تحالف الجمهور الانتخابية أظهرت قراءة جيدة لطبيعة القانون الانتخابي، إذ عمد التحالف إلى حصر الكتلة التصويتية للأحزاب المنضوية ضمنه حسب القاعدة الجماهيرية لكل حزب، ولعلّ هذا ما مكّنه من التحرك السهل ضمن قواعد كل حزب، سواء على مستوى المهرجانات الانتخابية أو العملية الانتخابية.
فوز تحالف الجمهور بالأغلبية البرلمانية فرصة كبيرة لفوز الرئيس أردوغان بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي ستنطلق في 28 مايو/ أيار
على عكس تحالف الأمة الذي فضّلت العديد من الأحزاب المنضوية ضمنه، كحزب السعادة وحزب المستقبل وحزب الديمقراطية والتقدم، الترشح ضمن قوائم حزب الشعب الجمهوري، رغم كونها أحزابًا من خلفيات إسلامية، إلا أنها فضّلت الترشح ضمن قوائم حزب علماني يساري.
ولعلّ هذا ما دفع العديد من المواطنين الراغبين بعدم التصويت لحزب العدالة والتنمية إلى البحث عن بديل آخر، ويبدو أن حزب الرفاه الجديد بقيادة نجل رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان، فاتح أربكان، كان هو البديل المفضّل بالنسبة إليهم.
وفي هذا السياق، يظهر سعي الرئيس أردوغان لخلق ضدٍّ نوعي مقابل تحالف الأمة عن قراءة واقعية للداخل التركي، فعلى مستوى الوسط الإسلامي، نجح أردوغان في خلق ضدٍّ نوعي لكل من داود أوغلو وباباجان، عبر تقديم نجل أربكان ضمن تحالفه الانتخابي الذي حصل على 5 مقاعد برلمانية.
وعلى مستوى الوسط الكردي، نجح أيضًا في خلق ضدٍّ نوعي لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي، عبر التحالف مع حزب الطليعة الكردي؛ أما على المستوى القومي فنجح في تقديم حزب الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي كمنافس قومي شرس، مقابل حزب الجيد بقيادة ميرال أكشنار وتحالف الأجداد بقيادة سنان أوغان.
ماذا تعني هذه الأغلبية؟
يمثل فوز تحالف الجمهور بالأغلبية البرلمانية فرصة كبيرة لفوز الرئيس أردوغان بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي ستنطلق في 28 مايو/ أيار، إذ ستلعب هذه الأغلبية دورًا كبيرًا في تغيير المزاجية الانتخابية للناخب التركي، بل قد تؤدي إلى تغييرات كبيرة على مستوى الكتلة التصويتية للرئيس أردوغان.
إذ إن ما كان يجمع أطراف تحالف الأمة لم يعد موجودًا بعد فوز تحالف الجمهور بالأغلبية البرلمانية، بعد ما كانت تطمح أطراف تحالف الأمة للفوز بالأغلبية البرلمانية، من أجل تعديل الدستور وتغيير النظام الرئاسي والعودة إلى النظام البرلماني.
مطالبة كليجدار أوغلو بالعودة للنظام البرلماني، تعني أنه سيعيد السلطة مرة أخرى إلى تحالف الجمهور بقيادة حزب العدالة والتنمية، باعتباره صاحب الأغلبية في البرلمان التركي
كما أنه حتى لو افترضنا جدلًا فوز كليجدار أوغلو بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، فإن الواقعية السياسية التي تؤطر البرلمان التركي اليوم، تشير بما لا يقبل الشك أنه سيواجه معارضة برلمانية قوية، ولن يكون قادرًا على التعاطي معها.
فالبرلمان التركي هو المسؤول عن تعيين الحكومة وإقرار الموازنة العامة، وفرض الرقابة على رئيس الجمهورية والحكومة، وغيرها من الصلاحيات التشريعية الواسعة، ثم إن مطالبة كليجدار أوغلو بالعودة للنظام البرلماني، تعني أنه سيعيد السلطة مرة أخرى إلى تحالف الجمهور بقيادة حزب العدالة والتنمية، باعتباره صاحب الأغلبية في البرلمان التركي، فكيف سيتعامل كليجدار أوغلو مع هذا الواقع البرلماني في حال فوزه؟
إن الأغلبية التي حصل عليها تحالف الجمهور تعني عمليًّا الإبقاء على الدستور والنظام الرئاسي، بل قد نشهد تعزيزًا للنظام الرئاسي كما عبّر الرئيس أردوغان عن ذلك، إذ ستؤسّس هذه الأغلبية لواقع سياسي جديد في الداخل التركي، سيستفيد منه حزب العدالة والتنمية خلال السنوات القادمة.
أخيرًا، إن فوز أردوغان بالأغلبية البرلمانية يمثل نجاحًا شعبيًّا على مستوى الإجراءات التشريعية والدستورية التي قام بها خلال السنوات الماضية، فالانتخابات الأخيرة أظهرت بما لا يقبل الشكّ أن الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية ما زالا موضع رهان من قبل الشعب التركي، لتجاوز التحديات الاقتصادية والسياسية التي تمرُّ بها البلاد في الوقت الحالي.