تعيش تركيا خطوة سياسية غير مسبوقة لحسم انتخابات رئاسة الجمهورية، بعدما تحددت نتائج الانتخابات البرلمانية التركية التي تصدّرها حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، من واقع ما أعلنه المجلس الأعلى للانتخابات (رسمي).
وسيخوض انتخابات الرئاسة (يوم 28 مايو/ أيار الجاري) رجب طيب أردوغان (49.51% من الأصوات)، وأقرب منافسيه كمال كليجدار أوغلو (زعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهوري)، الحاصل على 44.88% من الأصوات.
وقبل 13 يومًا من إعادة انتخابات الرئاسة، تشير التوقعات إلى فوز أردوغان بأكثر من 51%، بعدما حصل على أغلبية أصوات 51 ولاية، مقابل حصول منافسه كليجدار أوغلو على الأغلبية في 30 ولاية من أصل 81.
وممّا يعزز فرص أردوغان في الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة، رغبة معظم الناخبين الأتراك في توفير أجواء استقرار سياسي- تشريعي، للتعامل مع التحديات التي تواجه البلاد، وهو أمر يتطلب توافقًا مع مؤسسة الرئاسة التنفيذية والبرلمان.
ورغم تقدُّم أردوغان بأكثر من 2 مليون و500 ألف صوت، فلم ينجح في تأمين الأصوات الكافية لحسم الرئاسة من الجولة الأولى، كونها تشترط حصول الفائز على الأغلبية المطلقة من الأصوات الصحيحة (50%+1).
ولتعذُّر حصول مرشح على الأغلبية في الجولة الأولى، لا تشترط الجولة الثانية حصول الفائز على الأغلبية، بل أكثرية الأصوات المشاركة في عملية الاقتراع، وفي حال عدم مشاركة أحدهما، يحقّ للحاصل على ثالث أعلى الأصوات خوض الانتخابات.
ويعني هذا أن القومي المتشدد سنان أوغان (الحاصل على 5.20% من الأصوات، مرشح تحالف الأجداد/ آتا) أمامه فرصة لخوض المعركة، حال وجود مانع يعوق أردوغان أو كليجدار أوغلو عن خوض جولة الإعادة.
وقد لا يعرف البعض أنه في حال بقاء مرشح واحد فقط خلال الجولة الثانية، يتم التصويت على شكل استفتاء لحسم انتخابات الرئاسة، وفي حال عدم تحقق ذلك يتم الإعلان مجددًا عن إجراء الانتخابات الرئاسية دون البرلمانية.
ولا يحتاج أردوغان خلال الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة التركية سوى الحفاظ على الكتلة التصويتية التي حصل عليها، بينما يحتاج كليجدار أوغلو إلى كل الكتلة التصويتية الداعمة للقومي المتطرف سنان أوغان، وهو أمر يصعب تحقيقه.
ويشارك كليجدار أوغلو في ثاني جولات الانتخابات الرئاسية، وسط حالة “عدم اتزان” سياسي، خشية الخسارة أمام أردوغان، وتأثير نتيجة الانتخابات على مستقبله في رئاسة حزب الشعب الجمهوري في ضوء الصراعات الداخلية.
وفي المقابل، يخوض أردوغان معركة الإعادة بـ”ثقة”، قائلًا لأنصاره: “سنواصل خدمة شعبنا خلال السنوات الخمس المقبلة. نتقدم بالفعل على أقرب منافسينا، ونتوقع زيادة هذا الرقم مع إعلان النتائج الرسمية”.
وأخفق كليجدار أوغلو (74 عامًا) في تحقيق تعهداته بـ”الفوز من الجولة الأولى” في معركة الانتخابات الرئاسية، وحفاظًا على ماء الوجه قال إن أردوغان “لم يحقق ما كان يتمنى خلال الجولة الأولى في الانتخابات الرئاسية”.
واعترف ثالث مرشحي انتخابات الرئاسة، سنان أوغان، بـ”صعوبة الانتخابات”، وقال إنه قرر “الاجتماع قريبًا مع قادة تحالف الأجداد، لبحث الموقف الانتخابي في الجولة المرتقبة قبل نهاية الشهر الجاري”.
ورقة سنان أوغان
رغم خروجه من معادلة انتخابات الإعادة، يحظى القومي المتشدد، سنان أوغان (ثالث مرشحي انتخابات الرئاسة التركية خلال الجولة الأولى عن تحالف الأجداد/ آتا)، بمكانة مهمة في المشهد السياسي المحلي.
وسيفرض سنان أوغان شروطه على مرشحَي جولة الإعادة المرتقبة يوم 28 مايو/ أيار الجاري (أردوغان وكليجدار أوغلو)، حتى يطلب من أنصاره في التحالف (أحزاب النصر، القويم، العدالة، وحزب دولتي) التصويت لأحدهما.
وتتساوى نقاط الاتفاق والخلاف بين أردوغان وكليجدار أوغلو في علاقتهما السياسية بسنان أوغان، حيث يتلاقى تحالف الشعب (برئاسة العدالة والتنمية والحركة القومية) مع تحالف الأجداد في العداء لحزب العمال الكردستاني.
وينسحب العداء لمعظم الأحزاب الكردية المتقاطعة مع العمال الكردستاني، رغم أنها داعمة (بشكل غير رسمي) لزعيم تحالف الأمة المعارض، كليجدار أوغلو، الذي يتلاقى مع سنان أوغان في التمسُّك بـ”ترحيل اللاجئين”، خاصة السوريين.
وتمثل قضية اللاجئين محور خلاف بين سنان أوغان وأردوغان، الداعم للاستفادة من ملف اللاجئين بما لا يضرّ بمصالح تركيا، مع وجود “مخرج سياسي” للخلاف، عبر توجه أردوغان لفتح باب “العودة الطوعية” للسوريين إلى بلادهم.
ويبدو كليجدار أوغلو في موقف حرج، حال رهانه على أصوات القوميين المتشددين من أنصار سنان أوغان، كونهم سيتمسّكون بـ”فكّ الارتباط” بين كليجدار أوغلو والتحالف “غير المعلن” مع الأحزاب الكردية.
ولخطورة موقفه، علمت “نون بوست” من مصادرها أن كليجدار أوغلو طلب من قيادات سياسية كردية عدم الدعاية العلنية له خلال الأسبوعَين المقبلَين قبل جولة الإعادة، حتى لا تؤثر العلاقة على أصوات الناخبين القوميين المتشددين.
وممّا يزيد من حدة أزمة كليجدار أوغلو، تحالف سنان أوغان مع رئيس حزب النصر أوميت أوزداغ المتشدد في العداء للاجئين والمجنّسين، والتحريض عليهم علانية خلال السنوات الأخيرة، وهو أمر سيكون له مردودًا هامًّا في عملية التصويت.
ويتهم أوميت أوزداغ حزب الشعب الجمهوري بقيادة كليجدار أوغلو بـ”التخلي عن قيم مؤسِّس الجمهورية التركية”، بينما سيكون لزعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، دور ضمان تصويت أنصار سنان أوغان لصالح أردوغان.
وتوجد مشتركات بين حزب النصر (بزعامة أوميت أوزداغ) وحزبَي الحركة القومية وحزب الوحدة الكبرى (كلاهما متحالف مع أردوغان منذ عام 2018، رغم الخلافات حول بعض القضايا محل الجدل، كملفّ اللاجئين).
وزاد نفوذ الأحزاب اليمينية المتشددة في المشهد السياسي التركي، كأوميت أوزداغ (الناشط السابق في حزب الحركة القومية، الذي كان والده مقرّبًا من مؤسسه ألب أرسلان توركيش)، ما يسهّل التقارب مع تحالف أردوغان-بهجلي.
وكشف سنان أوغان عن موقفه قبل الانتخابات، قائلًا: “سننظر في مواقفهم وكفاءتهم الوطنية. سننظر في حالة الانتماء إلى الإرهاب وطلب المساعدة من الإرهاب، وسنقرر بمنطق”، في إشارة إلى التحالف غير المعلن مع الأحزاب الكردية.
وتخوض الأحزاب الكردية (خاصة حزب الشعوب الديمقراطي) الانتخابات تحت مظلة تحالفات اليسار الأخضر.
معادلة الأحزاب الكردية
سيجدُ كمال كليجدار أوغلو نفسه في موقف حرج خلال جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية، بسبب رهانه على أصوات القوميين المتشددين التي تتناقض مع تعهداته السياسية للأحزاب الكردية، خاصة حزب الشعوب الديمقراطي.
وأعلن حزب الشعوب (ثالث أكبر قوة برلمانية في انتخابات عام 2018، الذي يخوض الانتخابات البرلمانية الحالية تحت مظلة حزب اليسار الأخضر) دعمه المباشر لكليجدار أوغلو في انتخابات رئاسة الجمهورية.
وبادر قادة حزب الشعوب بخوض الانتخابات تحت مظلة اليسار الأخضر الذي تمَّ تأسيسه، خشية تعرض الحزب لتجميد النشاط أو الإغلاق، في ظل الاتهامات التي تلاحقه ووجود علاقة بينه وبين حزب العمال الكردستاني المحظور.
وحزب اليسار الأخضر جزء من تحالف العمل والحرية (تأسّس في 25 أغسطس/ آب الماضي)، ويضمّ أحزاب الشعوب الديمقراطي، العمال التركي، الحركة العمالية، العمل، اتحاد الجمعيات الاشتراكية، الحرية الاجتماعية، واليسار الأخضر.
ولا يتوافق تحالف العمل والحرية (بتوجهاته الشيوعية والاشتراكية واليسارية) مع القوميين المتشددين، الذين يتعاملون مع الأحزاب الكردية باعتبارها ذات “نزعة انفصالية”، وهو “تحدٍّ كبير” لكليجدار أوغلو المدعوم من التحالف الكردي.
ولم يرجّح “التصويت الكردي” كفة المعارضة، لا سيما تحالف الأمة، وإن ساهم في تحسين موقفها نسبيًّا، وبحسب النتائج (غير الرسمية) انحازت معظم ولايات جنوب شرق البلاد (ذات الأغلبية الكردية) لكمال كليجدار أوغلو.
وحصل كليجدار أوغلو على 72% من إجمالي الأصوات المؤيدة للأكراد، يأتي هذا فيما نجحت استراتيجية أردوغان في قطع الطريق على خصومه السياسيين، الذين كانوا يروّجون أن الانتخابات ستكون محسومة من الجولة الأولى.
12 ملاحظة كاشفة
– أكدت الجولة الأولى للانتخابات التركية صمود أردوغان (رغم تكتل المعارضة) وحفاظه على تصدُّر كل المعارك الانتخابية التي خاضها، منذ تصدر حزب العدالة والتنمية للمشهد السياسي التركي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002.
– تحقيق حزب العدالة والتنمية الحاكم (وتحالف الشعب) في الانتخابات البرلمانية 326 مقعدًا برلمانيًّا (تعادل 54.33%)، يؤكد الانحياز الشعبي للإنجازات التي تحققت خلال الـ 21 عامًا الماضية، وتطلُّعه إلى المزيد.
– وصول نسبة المشاركة في الانتخابات العامة التركية (الرئاسة والبرلمان) إلى 88.92%، تكشف عن زيادة نسبة الوعي الشعبي، وأهمية الصوت الانتخابي في تحديد شكل المستقبل، وطبيعة الرهان على الكيان السياسي الفاعل.
– انتصار “خيار الاستقرار” على “المغامرة السياسية” في الانتخابات التركية، بغضّ النظر عن المشكلات المتفاقمة خلال السنوات الأخيرة، خاصة الأزمة الاقتصادية، وارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض سعر صرف الليرة أمام الدولار الأمريكي.
– تأكدت “هامشية” الأحزاب الجديدة (الديمقراطية والتقدم بقيادة علي باباجان، والمستقبل برئاسة أحمد داود أوغلو) التي انشقت عن أحزاب عريقة في المشهد السياسي التركي، وذلك من واقع الأصوات التي حصلت عليها في الانتخابات.
– ضحّى حزب الشعب الجمهوري بـ 38 مقعدًا برلمانيًّا تقليديًّا، للحفاظ على كينونة الأحزاب الهامشية في التحالف (14 مقعدًا لحزب الديمقراطية والتقدم، و11 للمستقبل، و10 للسعادة، و3 مقاعد للحزب الديمقراطي).
– عكست نتائج الانتخابات البرلمانية التركية عدم رهان الناخب التركي على الوعود والتعهدات السياسية التي أطلقتها المعارضة، خلال فترة الدعاية الانتخابية قبل عملية الاقتراع، خاصة أن معظمها يفتقد لـ”آلية التنفيذ”.
– دفعت المعارضة ثمن خلافاتها الداخلية ومعاركها البينية التي خرجت إلى العلن قبل الانتخابات، ومن ثم أثّرت على مرشحها الأقوى لرئاسة الجمهورية، كليجدار أوغلو، وقوائمها في الانتخابات البرلمانية.
– لن تتمكن المعارضة التركية من إنجاز مطلبها الرئيسي (العودة للنظام البرلماني) بعد فشلها في تحقيق “الأغلبية البرلمانية”، علمًا أن أردوغان قطع الطريق على المزايدات السياسية، متعهّدًا بإجراء تعديلات تتوافق مع المتغيرات السياسية.
– تأكد أن القومية من الركائز الأساسية في عملية التصويت، ومكون مهم في المشهد السياسي التركي، بحكم أنصار هذا التوجه الذي ما زال صامدًا منذ تأسيس الجمهورية، وزاد عدد أنصاره منذ تسعينيات القرن الماضي.
– ارتفاع نسب التصويت لصالح أردوغان في المناطق التي ضربها الزلزال، بعد الصورة التقليدية التي رسمتها التحليلات السياسية حول تأثير الكارثة على اتجاهات التصويت.
– كشفت نتائج الانتخابات التركية عن عدم منهجية استطلاعات الرأي التي تقوم بها معظم الشركات التركية، بعدما أكّدت قبل الانتخابات تقدُّم كليجدار أوغلو، قبل أن تثبت النتائج عكس ما ذهبت إليه معظم الاستطلاعات.
الحزب الحاكم يَحسِم
كشفت النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية عن تقدم حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، يليه حزب الشعب الجمهوري، ثم حزب الحركة القومية (حليف الحزب الحاكم)، وحلَّ حزب الجيد رابعًا، وحزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) خامسًا.
وحصل حزب العدالة والتنمية على 267 مقعدًا، مقابل 169 لحزب الشعب الجمهوري، وحصل حزب اليسار الأخضر على 61 مقعدًا، مقابل 50 معقدًا لحزب الحركة القومية، و44 لحزب الجيد، و5 مقاعد لحزب الرفاه، و4 لحزب العمال التركي.
ووفق النسب المئوية، حقق تحالف الشعب (العدالة والتنمية والحركة القومية وأحزاب أخرى) نسبة 49.37%، مقابل 35.12% لتحالف الأمة المعارض، و10.53% لتحالف العمل والحرية، ونسبة 2.45% لتحالف الأجداد.
وخاض معركة الانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية) 24 حزبًا سياسيًّا و151 مرشحًا مستقلًّا، كما تنافست 5 تحالفات (الشعب، الأمة، العمل والحرية، الأجداد، واتحاد القوى الاشتراكية).
وبحسب رئيس المجلس الأعلى للانتخابات في تركيا، أحمد ينار، بلغت نسبة الإقبال على التصويت حوالي 88.75% بالداخل، و51.92% ممّن لهم حق التصويت في الخارج، من إجمالي 64 مليونًا و113 ألفًا و941 مواطنًا تركيًّا.
يتكون البرلمان التركي من 600 مقعد، ونظام التمثيل النسبي يلزم الحزب السياسي الراغب في الحصول على مقعد برلماني اجتياز العتبة الانتخابية (7% من الأصوات)، في حال خوضه الانتخابات بمفرده.
أما إذا كان الحزب ضمن تحالف، فيجب أن يتجاوز إجمالي أصوات هذا التحالف العتبة الانتخابية، ووفقًا للمادة الثانية من قانون الانتخاب لا يتعيّن على كل حزب سياسي يخوض الانتخابات ضمن تحالف أن يتجاوز بمفرده عتبة الـ 7%.
وسيتم اعتبار أن جميع الأحزاب داخل التحالف تجاوزت العتبة الانتخابية، في حال تجاوز إجمالي الأصوات التي حصل عليها التحالف الـ 7%، وإذا تجاوز العدد الإجمالي العتبة الانتخابية يتم تقسيم النواب بحسب أصوات كل حزب.
تساؤلات انتخابية حرجة
الآن، اتضحت ملامح الانتخابات البرلمانية، لكن تبقى الكرة في ملعب الناخبين الأتراك فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية، نظرًا إلى أهميتها محليًّا ودوليًّا، فهل تنحاز الكتلة التصويتية التي حصل عليها سنان أوغان خلال الجولة الأولى (5.17%) لكليجدار أوغلو المتحالف مع تحالف العمل والحرية الكردي (10.53%)، أم تصبّ هذه التناقضات في مصلحة أردوغان، فيحسم الرئاسة بعدما تصدّر حزبه البرلمان؟