في مؤتمر صحفي عُقد بمقر حزب تيار الكرامة بمنطقة الدقي بمحافظة الجيزة في 13 ديسمبر/كانون الأول 2017 وبحضور قيادات حزب التحالف الشعبي الاشتراكي وقيادات تحالف التيار الديمقراطي، تم الإعلان بشكل رسمي عن إطلاق كيان جديد يحمل اسم “الحركة المدنية الديمقراطية”.
شارك ابتداءً في هذا الكيان عدد من الشخصيات العامة والنخب السياسية بجانب 7 أحزاب هي: الإصلاح والتنمية والتحالف الشعبي الاشتراكي والدستور والعدل والمصري الديمقراطي الاجتماعي وتيار الكرامة ومصر الحرية، فيما كشف المتحدث باسم الحركة ومؤسسها يحيى حسين عبد الهادي أن هذا الكيان “يمثل تطورًا لما تم بناؤه في الفترة الماضية، لتوسيع جبهة العمل المشترك بين الأحزاب من أجل إرساء قواعد الدولة المدنية المنتهكة، خاصة الدستور المنتهك والمهان من النظام الحاليّ”.
وأضاف عبد الهادي (الذي تم اعتقاله لاحقًا في 2019، وصدر بحقه حكمًا بالحبس 4 سنوات قبل الإفراج عنه بعفو رئاسي منتصف 2022، بسبب مطالبته الإفراج عن بعض أعضاء الحركة المعتقلين بسبب احتفالهم بذكرى ثورة يناير 2011) أن الحركة تفتح أبوابها لانضمام كل من يتفق مع أهدافها وأنها ستمارس أنشطة لفضح سياسات النظام الحاليّ والدفاع عن مدنية الدولة ومواجهة الفساد، رغم القبضة الحديدية التي يفرضها النظام الحاليّ على المجال العام.
وخلال الأشهر القليلة الماضية بدأ هذا الكيان في تقديم نفسه في صورة البديل المدني، كما جاء على لسان أحد قياداته وهو البرلماني السابق أحمد طنطاوي (سافر إلى بيروت بعد خسارته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي قال إنها كانت بفعل فاعل وإنه خرج بعد تلقيه تهديدات من بعض المصادر المجهولة) الذي كان قد أعلن تفكيره الجدي في الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة أمام الرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي.
رمضان كريم.. كل سنة وحضراتكم وكل أحبابكم بكل خير. pic.twitter.com/LjeIMYPFWV
— Ahmed Altantawy (@A_altantawy79) March 22, 2023
ومنذ ذلك الحين باتت الحركة في مرمى الاتهامات والانتقادات، بين مؤيد لها ومعارض، فهل تكون الحركة حجرًا حقيقيًا في مياه السياسة المتجمد بثليج العسكرة وفق ما ذهب أنصارها أم مجرد جسر (كومبارس) لتمرير الرئيس الحاليّ نحو ولاية ثالثة كما يتهم البعض؟
المبادئ الـ11
في بيانه الأولى الذي ألقاه عبد الهادي قبل 5 سنوات، استعرض مبادئ الحركة ومرتكزاتها الأساسية الساعية إلى تنفيذها والموضوعة بشكل جدي على قائمة اهتماماتها خلال المرحلة المقبلة، مشددًا على أن الهدف الأسمى هو “وقف النزيف الذي تشهده مصر في كل المجالات، وتقديم حلول ربما تستفيد منها أي سلطة جديدة تستلم البلاد بطريقة ديمقراطية من نظام السيسي”، وأضاف “الله في عون من سيستلم السلطة من السيسي، لأنه سيواجه ألغامًا، تتمثل في اتفاقيات لا نعرف عنها شيئًا وديون اقتصادية كبيرة، فالسيسي وقع على اتفاقيات تمس الأرض مثل اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، وصفقة القرن التي ذكرها خلال لقائه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، دون أن يكلف نفسه شرح أبعادها، كما أغرق مصر في ديون خارجية دون وضع خطة لسدادها”.
وتناول البيان المبادئ الـ11 الأساسية للحركة المدنية أبرزها: “وضع أسس ومقومات الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، دولة المواطنة التي تقوم على التطبيق الصارم لمواد الدستوروالقانون على الجميع بلا استثناءٍ ولا تمييزٍ فيها على أساس الدين أو العرق أو الطبقة أو الفئة أو النوع.. الشعبُ فيها هو السيد.. والحاكم هو الخادم الذى يخضع للمحاسبة عَبْر برلمانٍ حقيقىٍ لا تشارك فى صُنعِه أجهزة الدولة”.
كذلك “صيانة حريات التفكير والتعبير والتنظيم والاحتجاج السلمى التى يكفلها الدستور وينظمها بمجرد الإخطار، ومواجهة الفساد بتفعيل مبدأ الشفافية والرقابة الديمقراطية من خلال مجالس نيابية ومحلية منتخبة بنزاهةٍ، وإعلامٍ حرٍ، وأجهزةٍ رقابيةٍ مستقلة، ومعاقبة لصوص المال العام لا رد اعتبارهم”، مع التأكيد على دعم جيش مصر الذي هو ملك لشعبها، إذ لا تخلو عائلة مصرية من مجند أو ضابط بين أفرادها، مع التشديد على “دوره الدستورى المقدس فى الذَوْد عن أمننا القومى، وعدم إشغاله بكل ما من شأنه التأثير على هذا المُهّمة”.
ووضعت الحركة على عاتقها “تشغيل كل الطاقات الاقتصادية المعطلة، وتطبيق الأسلوب العلمى فى تحديد أولويات استخدام الموارد”، بجانب العمل على “توفير الحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية اللائق إنسانيًا لحياةٍ كريمةٍ تتضمن الحق في الغذاء والدواء والإيواء والكساء والتعليم والعمل والأجور والمعاشات العادلة والبيئة النظيفة”، و”إزالة أسباب الاحتقان والتعصب وكراهية الآخر في المجتمع، والتصدي لخطاب السلطة الإعلامي الذي يشوه كل من يختلف معها”.
وفي الوقت الذاته التمسك بمطلب “الإفراج الفوري عن كل مسجوني الرأي والتظاهر السلمي وتعديل قوانين الحبس الاحتياطي والتظاهر”، كذلك “العمل على استعادة كل ما تم التفريط فيه من أراضٍ وحقوقٍ مصرية، لا سيما ما يتعلق بمصرية تيران وصنافير والحقوق التاريخية في مياه النيل”.
وفي الأخير ختمت الحركة المدنية مبادئها بالتأكيد على أهمية “استعادة دور مصر في محيطها العربي والإقليمي والدولي واستقلال قرارها الوطني المتحرر من التبعية ومن قيود التطبيع”، منوهة أن الباب مفتوح للجميع للانضمام لها دون أي استثناءات، فكل المطالب المقدمة تمس كل من يعنيه أن تظل مصر وطنًا عزيزًا حرًا مكتفيًا.
إفطار النادي السويسري.. قرصة أذن
جاء تدشين الحركة بعد عام واحد فقط من توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية السعودية المصرية المعروفة إعلاميًّا باتفاقية تيران وصنافير، التي أبرمت في 8 أبريل/نيسان 2016 بين مصر والسعودية، في أثناء زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود للقاهرة، التي بموجبها تنازلت مصر عن الجزيرتين لصالح المملكة.
وأثار هذا التوقيع حفيظة الشارع المصري بصورة كبيرة، فيما رفعت الحركة وقادتها عشرات الشعارات ونظمت عددًا من الوقفات والفعاليات التي تؤكد على مصرية تيران وصنافير وبطلان اتفاقية الترسيم الموقعة بين القاهرة والرياض، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في زيادة رقعة الحضور وشعبية هذا الكيان الوليد داخليًا.
ويبدو أن هذا الأمر لم يلق قبولًا لدى النظام الذي قرر تلقين الحركة وقادتها درسًا قاسيًا لوقف نشاطهم المناوئ لتوجهات الدولة في ذلك الوقت، ففي حفل الإفطار الرمضاني الذي نظمته الحركة المدنية الديمقراطية في 6 يونيو/حزيران 2018 ودعت رؤساء وممثلي الأحزاب المشاركة وبعض الشخصيات العامة في النادي السويسري بحي “الكيت كات” في إمبابة بمحافظة الجيزة، فوجئ الجميع وفي أعقاب أذان المغرب مباشرة بعدد من البلطجية اقتحموا الإفطار وانهالوا عليهم بالضرب حتى أصيب بعضهم كما هو حال رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي فريد زهران، ورئيس حزب الدستور – آنذاك – خالد داوود.
وكشف زهران عن تفاصيل الاعتداء قائلًا: “نحو 60 من الشخصيات العامة وقيادات الأحزاب السياسية في مصر كانوا في الحفل”، ومع أذان المغرب انطلقت ما أسماها عملية “اعتداء دبرها بلطجية اقتحموا المكان وخربوا مائدة الطعام وانهوا حفل الإفطار بعد دقائق من انطلاقه” بحسب تصريحاته لـ”بي بي سي“، منوهًا أنه أصيب بجرح في رأسه، ما استدعى تدخلًا طبيًا لوقف النزيف بـ8 غرز جراحية، مطالبًا بلجنة تحقيق “محايدة ونزيهة وموضوعية للوقوف على أسباب الاعتداء وكشف هوية المسؤولين عنه”.
أما رئيس حزب الدستور خالد داوود، فوجه اتهامه مباشرة إلى من أسماهم “بلطجية النظام” وأنهم المدبرون لتلك الجريمة، قائلًا إنه “عايش كثيرًا من الأحداث المشابهة من خلال عمله كصحفي ميداني منذ العام 1995 ومن خلال نشاطه في العمل السياسي العام، خاصة في عهد مبارك”، موضحًا أن من “اعتدوا على تجمع المعارضة كشفوا أنفسهم من خلال هتافاتهم، إذ كانوا يرددون عبارات من قبيل “يا جواسيس، يا عُملاء” و”تحيا مصر”.
ووقعت تلك الحادثة على مرأى ومسمع من بعض الوزراء السابقين في الحكومة المصرية الذين كانوا من بين الحضور مثل: أحمد البرعي وزير القوى العاملة والهجرة في حكومة عصام شرف وكمال أبو عيطة وزير العمل في حكومة الدكتور حازم الببلاوي وعمرو حلمي وزير الصحة السابق، بجانب نشطاء وأكاديميين وأدباء وصحفيين.
وأجمع المشاركون حينها وقادة الحركة على أن ما حدث هو رسالة مباشرة من النظام ردًا على مناوشاتها بخصوص اتفاقية تيران وصنافير وخشية تكوين رأي عام داخلي مناوئ للمملكة بما يؤثر على العلاقات بين البلدين التي كانت في أوج قمتها في ذلك الوقت، إذ كانت الرياض على رأس الداعمين لنظام ما بعد الثالث من يوليو/تموز 2013 قبل أن تدخل تلك العلاقات أنفاق من التوتير خلال الآونة الأخيرة بسبب تباين وجهات النظر إزاء العديد من الملفات.
حملة استهداف
يبدو أن سياسة التهويش التي اتبعتها السلطات الأمنية مع الحركة لم تجد نفعًا، بل على العكس تمامًا جاءت بنتائج عكسية بشكل مقلق، حيث زيادة شعبيتها وتعزيز حجم ومستوى الانتقادات الموجهة للنظام في الداخل والخارج، وهو ما دفع بالسلطات إلى اللجوء للإستراتيجية التقليدية المعتادة، الاستهداف الممنهج المباشر.
وبالفعل بدأ استهداف الرموز الواحد تلو الآخر، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2018 اعتقل الأمن مؤسس الحركة والمتحدث باسمها يحيى حسين بتهمة إهانة رئيس الدولة ونشر أخبار كاذبة وتكدير السلم العام، تعليقًا على مقال نشره عبر صفحته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي انتقد فيه تصريحات السيسي عن ثورة يناير، لكن تم الإفراج عنه لاحقًا بكفالة 10 آلاف جنيه.
الأمر تكرر مرة أخرى في يناير/كانون الثاني 2019 حيث ألقت السلطات الأمنية القبض عليه مجددًا، وذلك بعد ساعات من مطالبة الحركة بالإفراج عن خمسة آخرين من أعضائها، قبض عليهم في أعقاب احتفالهم بالذكرى الثامنة لثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، وفي 23 مايو/أيار، قضت محكمة مصرية بسجن عبد الهادي 4 سنوات لإدانته بتهمة نشر أخبار كاذبة.
وفي 2 يونيو/حزيران 2022 تم الإفراج عنه إثر قرار بالعفو الرئاسي صادر من رئيس الجمهورية حمل رقم 219 لسنة 2022 ونشرته الجريدة الرسمية، وذلك بعد قضائه أكثر من ثلاثة أرباع مدة الحكم الصادر بحقه، لكنه خرج مصممًا على استكمال ما كان قد بدأه من دعوات الإصلاح والديمقراطية والمطالبة بالحكم المدني، وهو ما عرضه حاليًا للمحاكمة مرة ثالثة.
وفي السياق ذاته تعرض زميله رئيس حزب الدستور السابق خالد داود، للمصير ذاته، حيث ألقت قوات الأمن القبض عليه من منزله فجر الأربعاء 25 سبتمبر/أيلول 2019، وتم اقتياده إلى وجهة غير معلومة وظهر بعدها بساعات في نيابة أمن الدولة العليا على ذمة القضية 488 لسنة 2019، وصدر قرار بحبسه احتياطيًا لمدة 15 يومًا على ذمة التحقيق.
ووجهت النيابة قائمة مطولة من التهم لداوود الذي كان المتحدث الرسمي باسم جبهة الإنقاذ الوطني المعارضة لحكم جماعة الإخوان المسلمين قبل وفي أثناء 30 يونيو/حزيران 2013، أبرزها مشاركة جماعة إرهابية تحقيق أهدافها مع العلم بأغراضها المخالفة للقانون، ونشر وبث أخبار كاذبة، فضلًا عن اتهامه بإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
وضمت القضية عددًا من الرموز السياسية والصحفية منها: الدكتور حسن نافعة والدكتور حازم حسني والمناضل العمالي كمال خليل والمحامي الحقوقي عمرو إمام والمحامية الحقوقية ماهينور المصري، والصحفيين إسراء عبد الفتاح وسولافة مجدي وزوجها حسام الصياد، والناشط محمد صلاح والباحث إبراهيم عز الدين، والمصور الصحفي إسلام مصدق وآخرين، وقد أفرجت السلطات الأمنية عنه في 13 أبريل/نيسان 2021
أما حمدين صباحي، الأب الروحي للحركة وزعيمها الأبرز، وبقية القيادات والرموز والأحزاب المنضوية، فتعرضت لحملة تضييقات مشددة، أصابتها بالشلل التام وعدم القدرة على ممارسة أي نشاطات سياسية، بجانب التعتيم الإعلامي عن قيادتها رغم أنهم نجوم شباك سابقيون في الإعلام والساحة السياسية، وهو ما اعتبره محللون خطة ممنهجة لوأد الحركة قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2024.
فخ الحوار الوطني
وجدت الحركة المدنية نفسها في مأزق حقيقي مع دعوة السيسي للحوار الوطني في أبريل/نيسان 2022، بين فكي تعهدات ووعود ومطالب تضمنها بيانها التأسيسي الذي حوى مبادئها الرئيسية، والانخراط في هذا الحوار المزعوم دون الضمانات الكافية، بما يعرض شعبيتها وسمعتها السياسية الداخلية للتشويه والتشكيك.
ووفق ما تناقلته مصادر داخل الحركة فإن قادتها تمسكوا ببعض المطالب كشرط أولي للدخول في الحوار، خاصة أنهم على يقين أنهم ركن أساسي فيه لإكمال الصورة العامة وحتى تكتمل أضلاع المشهد، الخاوي تمامًا – حال غياب الحركة – من أي فصيل سياسي غير الموالين رسميًا للنظام، ومن أبرز المطالب المقدمة: الإفراج عن قائمة تضم 100 معتقل على رأسهم الناشط السياسي أحمد دومة، كبادرة حسن نوايا على السلطات تقديمها أولًا.
لكن كالعادة لم يستجب النظام لتلك المطالب رغم الإفراج عن بعض المسجونين في إطار لجنة العفو الرئاسي المشكلة على هامش الحوار، لكن قوائم المفرج عنهم خلت تمامًا من الأسماء التي أدرجتها الحركة في قوائمها، الأمر الذي فسره البعض على أنه رغبة السلطات في عدم الانصياع للحركة وشروطها، فيما ذهب آخرون إلى أنه استخفاف واضح بمطالب الكيان المدني يكشف نظرة النظام له بشكل واضح.
ورغم عدم تلبية مطالب الحركة المدنية انخرطت في الحوار من خلال بعض رموزها، وهي الخطوة التي قوبلت بانتقادات شديدة من المشككين في جدوى الحوار، وعلى رأسهم حركة “الاشتراكيين الثوريين” التي أعلنت بشكل رسمي رفضها لهذا الحوار بدعوى أنه “غير متكافئ، وأن المناخ الحاليّ لا تؤمن عواقبه حتى على من قبلوا المشاركة فيه، إذ إن السلطة هذه هي ذاتها التي أغلقت المجال العام منذ ما يقرب من عشر سنوات، وحجبت المواقع الصحافية، وقمعت الأحزاب السياسية، واعتقلت كل من تفوه بكلمة نقد عن سياستها”.
وأشارت الحركة الاشتراكية في بيانها إلى أن “الصورة التي يحاول النظام المصري تصديرها عن نفسه ليست إلا قناعًا زائفًا، ويظل المجال العام مغلقًا، ولا تزال حرية الصحافة والتعبير منعدمة، ويبقى عشرات الآلاف من المعتقلين داخل السجون”، متسائلة عن “جدوى الحوار في ظل استبعاد أطراف بعينها وموضوعات بذاتها مثل: ملفات حول الدستور والسياسة الخارجية وقضايا الأمن القومي الإستراتيجي، و”كأنها مواضيع غير قابلة للنقاش من الأصل”.
كما طالبت في الوقت ذاته، الحركة المدنية، بمراجعة مواقفها فورًا والالتفاف حول مطالب موحدة لإنقاذ الشعب من الكارثة السياسية والاقتصادية الواقع فيها، محذرة إياها من المشاركة في تلك المسرحية التي تحولت إلى أداة لـ”تجميل شكل النظام أمام المجتمع الدولي” في ظل المناخ العام وإفراغ الحوار من أي جدوى أو فائدة.
إصرار التيار المدني على المشاركة رغم عدم الاستجابة لشروطه المسبقة، ومناشدات الحركات المدنية الأخرى بضرورة الانسحاب ومراجعة التفكير في الانخراط في هذا الحوار، وضع صباحي ونخبته والأحزاب المشاركة في هذا الكيان في مرمى الاتهامات والانتقادات، وبدأت أحاديث التشكيك تخرج للعلن تباعًا، بشأن دور ما يراد بتلك الحركة القيام به لعبور السيسي نحو ولاية رئاسية جديدة.
شبح 2014 يخيم على الأجواء
التخوف الأبرز الذي يساور الشارع المصري إزاء الحركة المدنية بعد مساعي استئناسها من السلطات وإعادتها المقننة للمشهد والخطوط الحمراء التي رسمت لها، أن تعيد سيناريو 2014 مرة أخرى، وأن تتحول من حركة سياسية تستهدف الإصلاح وبناء دولة مدنية ديمقراطية إلى “كوبري” أو “محلل” بحسب وصف البعض، لتمرير مخطط الولاية الثالثة للرئيس الحاليّ.
وكان زعيم الحركة الحاليّ، ومؤسس التيار الشعبي المصري، حمدين صباحي، قد أعلن في 8 فبراير/شباط 2014 خوضه انتخابات الرئاسة أمام وزير الدفاع وقتها عبد الفتاح السيسي، الذي كان يواجه مأزقًا سياسيًا حقيقيًا في وجود منافس له ولو كان صوريًا بعد انسحاب الفريق سامي عنان، رئيس أركان حرب الجيش المصري الأسبق، الذي كان المرشح الأجدر على منافسة السيسي فعليًا لتاريخه العسكري المعروف وعلاقته الجيدة مع كل الأطياف السياسية في الداخل والخارج، فضلًا عن خطوط اتصاله المستمرة مع الأمريكان، كذلك الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد مبارك.
وفي ظل هذا المشهد السياسي المنفلت، لم يجد السيسي منافسًا أمامه، الأمر الذي قد يعرض الانتخابات وصورة الدولة للانتقادات الخارجية خاصة في ظل التوصيف الدولي حينها بأن ما حدث في 2013 كان انقلابًا عسكريًا مدبرًا من المؤسسة العسكرية بقيادة الجنرال السيسي.
ورغم الضغوط التي مورست على صباحي وقتها للانسحاب من أجل تعرية نظام ما بعد الثالث من يوليو/تموز 2013 دوليًا، فقد رفض وأصر على خوض المعركة التي يعرف الجميع أنها ليست أكثر من مسلسل معروف خاتمته، ومسرحية أسدل ستار نهايتها قبل بداية فصلها الأول.
وبالفعل خاض زعيم التيار الشعبي – والحركة المدنية حاليًا – الانتخابات وهو يعلم يقينًا أن فرص منافسته تكاد تكون صفرية، لكنه آثر السلامة وخوض الغمار دون أسلحة سياسية في ظل استئثار مرشح الجيش بكل الأسلحة السياسية والعسكرية معًا، وقد جاءت النتائج النهائية للانتخابات معبرة تمامًا عن المشهد، حيث حصل المرشح الناصري على 3.09% من إجمالي عدد الأصوات فيما حصل عبد الفتاح السيسي على 96.91%.
ومنذ ذلك الوقت انهالت الانتقادات والاتهامات على صباحي الذي وصفه نشطاء بـ”الكومبارس” وآخرون بـ”المحلل” وثالث بـ”الكوبري”، اعتراضًا منه على منح السيسي الشرعية السياسية في خوض معركة محسومة النتائج قبل البداية، وهي الاتهامات التي يتخوف البعض من تكرارها في الانتخابات المقبلة 2024، حال قرار الحركة المدنية الديمقراطية المشاركة فيها، بما يمنح الرئيس الحاليّ ولايته الثالثة على طبق من ذهب كما حدث قبل 9 سنوات.
طنطاوي.. الرهان المختلف عليه
في 24 مارس/آذار الماضي أعلن البرلماني السابق أحمد الطنطاوي، رئيس حزب الكرامة المستقيل، وأحد قيادات الحركة المدنية الديمقراطية، عودته للقاهرة في 6 مايو/أيار 2023 مع تلميحه الترشح لخوض الانتخابات الرئاسية المقررة في 2024، ممثلًا للتيار المدني الديمقراطي في مواجهة جنرالات المؤسسة العسكرية.
وعلى صفحته الشخصية على فيسبوك برر طنطاوي عودته من بيروت التي غادر إليها في أغسطس/آب 2022، بالاشتياق إلى الوطن الذي لم يغادر عقله وروحه ووجدانه، كذلك “لأقوم بواجبي في تقديم البديل المدني الديمقراطي الذي تحتاج إليه مصر، ويقدر عليه شعبها العظيم”.
وأثار تلميح الترشح للانتخابات القادمة حالة من الجدل داخل الشارع المصري، بين مؤيد ومعارض، لكنه فوجئ قبيل موعد عودته المقررة بأقل من يومين باعتقال السلطات الأمنية لبعض أقاربه، خاله وعمه، وهو ما دفعه لتأجيل قرار العودة أسبوعًا كاملًا حتى تم الإفراج عنهم ليعود بعدها إلى وطنه وسط تساؤلات عن نواياه السياسية ومدى التزامه وتمسكه بفكرة الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة.
المعارضون لترشحه يرون أنه لن يكون سوى “كومبارس” آخر في الماراثون الانتخابي القادم، كما كان أستاذه ومعلمه الأول حمدين صباحي، فإن كان هذا حال أستاذه فكيف يكون حال التلميذ، خاصة أن طنطاوي لا يمتلك أي ظهير شعبي أو سياسي أو عسكري يؤهله لخوض تلك المعركة بقوة وشراسة، ومن ثم فهو لن يتجاوز عتبة صباحي في 2014 وموسى مصطفى موسى في 2018، هكذا يرى الفريق المشكك في قدرته على خوض السباق الرئاسي بجدية، والملمح إلى احتمالية أن تكون هناك صفقة مع السلطات نظير مكاسب سياسية مستقبلية يحصل عليها.
خلال عمله كبرلماني سابق اشتبك طنطاوي مع السلطة في بعض الملفات التي تؤكد استقلاليته السياسية ورغبته الحقيقية في الإصلاح والديمقراطية
وعلى الجانب الآخر هناك من يرى أن طنطاوي مختلف عن صباحي، وأن الرهان هذه المرة مختلف عما كان في المرتين السابقتين في 2014 و2018، وذلك وفق ما يتمتع به البرلماني السابق من تاريخ سياسي مشرف في مواجهة السلطة الحاليّة، ولم يحسب عليه أي مداهنة أو مواءمة أسوة بما فعله أستاذه ورفاقه من قبل.
ويستند أنصار هذا التيار إلى مواقف طنطاوي السابقة على رأسها ما أعلنه صراحة داخل مجلس الشعب (البرلمان) في أثناء مناقشة التعديلات على مواد الدستور في أبريل/نيسان 2019 حين قال: “أنا لا أحب الرئيس ولا أثق في أدائه ولست راضيًا عنه، وهذا حقي كمواطن مصري قبل أن أكون نائبًا”.
وخلال عمله كبرلماني سابق اشتبك طنطاوي مع السلطة في بعض الملفات التي تؤكد استقلاليته السياسية ورغبته الحقيقية في الإصلاح والديمقراطية، ومن أبرز تلك الملفات معارضته الشرسة لتنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير حين اتهم الحكومة بعدم احترام الدستور في إقرار الاتفاقية، كما اتهم النواب بخيانة ناخبيهم بالتنازل عن أرض مصرية.
كذلك عارض التعديلات الدستورية التي أقرها البرلمان في أبريل/نيسان 2019 بهدف تمديد فترة الحكم للسيسي حتى 2034، حين قال عبارته الشهيرة “قناعاتي الشخصية الراسخة المستقرة تجعلني أقول إن ما يحدث باطل دستوريًا طبقًا لموضعين في المادة 226 من الدستور، وليس من حق البرلمان أن يعدل مدد الرئاسة إلا بمزيد من الضمانات، ولا يستحدث مادة جديدة لأنها تفقد ثقة العموم والتجرد”، واصفًا تلك التعديلات بأنها “عودة لأسوأ مما كان الوضع عليه قبل 25 يناير” وأنها “عودة للقرون الوسطى”.
ووصل الصدام مداه حين كشف النقاب عن مبادرته السياسية التي أعلنها عبر مقطع فيديو بلغت مدته 76 دقيقة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، التي تضمنت 12 محورًا رئيسيًا، أبرزها دعوته للسيسي إلى مغادرة الحكم في عام 2022، كذلك اللجوء إلى انتخابات رئاسية مبكرة لا يكون مترشحًا فيها أو منافسًا، التزامًا منه بالتعهد الذي قطعه على نفسه مرارًا بعدم الاستمرار في الحكم لأكثر من دورتين رئاسيتين.
الحركة المدنية الديمقراطية باتت في مأزق سياسي خطير، قد يهدد شعبيتها ويضعها على المحك
وتسبب طنطاوي بتلميحه الترشح لخوض الانتخابات القادمة في وضع الحركة المدنية في حرج كبير، إذ بات من الواضح أن القرار كان فرديًا دون الرجوع والتنسيق معها، وهو ما كشفه المتحدث باسمها، خالد داوود، الذي وصف قرار طنطاوي بأنه “قرار شخصي يمثله منفردًا، جاء دون تنسيق مع الحركة”، موضحًا أن “هناك نقاشًا يدور الآن داخل الحركة” بشأن مرشحها، لكنه ما زال في مرحلة الـ”عصف الذهني”، وأن الحركة “لم تحسم الأمر بعد”.
بعض الأصوات ترى أن ترشح طنطاوي ممثلًا عن الحركة المدنية سيضعها في صدام مبكر مع “نظام حكم لن يرقب فيهم إلّاً ولا ذمة” بحسب تعبير الكاتب الصحفي سليم عزوز، الذي يرى في مقال له أن طنطاوي “لن يكون المرشح المتفق عليه من قبل أحزاب الحركة المدنية، وبالتالي فليس هو البديل أو البدائل، لخوض الانتخابات التي تتحدث عنها هذه الحركة”.
ويبرر عزوز رؤيته تلك بأن الحركة المدنية ستكون حريصة على ألا يكون البرلماني السابق هو مرشحها، مرجعًا ذلك إلى خشية حمدين صباحي من منافسة طنطاوي حال خوضه المعركة، وأنه من الممكن أن يسحب البساط من تحت أقدامه، قائلًا إن صباحي ” لن يسلم بالتماهي مع طموح النائب السابق، ليس فقط لأن ترشيحه سيضعهم في مواجهة مع النظام الحاكم، لكن بترشيحه سيكون قد تم الإقرار بوضع له، سيكون له ما بعده”.
في ضوء ما سبق يمكن القول إن الحركة المدنية الديمقراطية باتت في مأزق سياسي خطير، قد يهدد شعبيتها ويضعها على المحك، وربما زاد من حرج هذا المأزق تصريحات طنطاوي وإبداء رغبته في الترشح للانتخابات المقبلة وهو ما أربكها بصورة واضحة، فإما أن تكون المنافس القوي القادر على أن يكون البديل المدني الجاهز، وهو ما يدفعها للبحث عن مرشح تتوافر فيه صفات القيادة ويتمتع بسجل سياسي قوي وإما أن تتقبل دور الكومبارس والمحلل بتقديمها مرشح هش من باب إكمال الديكور الانتخابي نظير الحصول على مكاسب سياسية مستقبلا، فإلى أي الطرفين تميل الحركة؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.