تتواصل سياسة التنكيل المتعمد بحق رئيس البرلمان التونسي السابق وزعيم حركة النهضة الإسلامية، الشيخ راشد الغنوشي (81 عامًا)، وفق قيادات حزبه، وآخر حلقات هذا التنكيل، صدور حكم قضائي غيابي في حقه أمس الإثنين.
سنة سجن
ينص الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بتونس على سجن الغنوشي، عامًا واحدًا، مع غرامة قيمتها ألف دينار (328 دولارًا) بتهمة التحريض فيما عرف بملف “الطواغيت”، وفق هيئة الدفاع، وتعود هذه القضية إلى فبراير/شباط 2022، إذ تقدم أحد عناصر النقابات الأمنية بشكوى ضد الغنوشي، متهمًا إياه بوصف الأمنيين بالطواغيت في أثناء كلمة تأبين لأحد قيادات حركة النهضة، إذ قال رئيس حركة النهضة: “الفقيد كان شخصًا مناضلًا من أجل الحرية دون خوف من الفقر أو الحاكم أو طاغوت”.
وفق الأمني الذي تقدم بالشكاية، فإن الغنوشي كان يقصد بكلمة “طاغوت”، القوات الأمنية والعسكرية، لكن هيئة محامي زعيم النهضة أكدت أن “كلمة الغنوشي في التأبين لم تتعرض بتاتًا لذكر الأمنيين لا تصريحًا ولا تلميحًا”.
سبق أن مثل زعيم النهضة أمام حاكم التحقيق على ذمة ما يُعرف بقضية “الجهاز السري”
وسبق أن مثل زعيم النهضة، يوم 3 أغسطس/آب 2022، أمام الفرقة المركزية للحرس الوطني بالعوينة (شمال العاصمة تونس)، لسماعه على خلفية هذه القضية، وتم إبقاؤه في حالة سراح، ولم ير قاضي التحقيق حينها أي داع لإيقاف الغنوشي وإيداعه السجن.
يذكر أن الغنوشي لم يحضر جلسة المحاكمة رغم أنه في السجن، إذ سبق أن قرر مقاطعة كل جلسات التحقيق معه، لأنه يعتبر القضاء غير مستقل والقضايا المرفوعة ضده “سياسية ملفقة”، وفق ما أكدته هيئة الدفاع في وقت سابق.
7 قضايا
هذا الحكم لن يكون الأخير، فمن المتوقع أن تصدر أحكام أخرى في حق الغنوشي، ذلك أنه يحاكم في 6 قضايا أخرى، منها القضية التي تقدم بها نقابي أمني، ادعى أنه حصل على تسجيل للقاء بين الغنوشي وقيادات من “أنصار الشريعة”، الذي صنفته حكومة النهضة سنة 2013 منظمة إرهابية، ومثل الغنوشي قبل أسابيع أمام المحكمة على ذمة هذه القضية.
وعن تفاصيل هذه القضية الجديدة، فإن نقابي أمني زعم أنه أعطى هذا التسجيل لرؤسائه الأمنيين ولم يحتفظ بنسخة، لكن رؤساءه أخفوا هذا التسجيل أو أتلفوه، ورغم غياب التسجيل المزعوم، فإن النيابة ارتأت فتح تحقيق وقضية في الأمر.
ثالث القضايا التي يحاكم من أجلها الغنوشي، هي قضية البرلمان، وتتمثل تفاصيلها في عقد البرلمان التونسي جلسة على الإنترنت لمناقشة الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيد والمراسيم التي أصدرها في 30 مارس/آذار 2022، وخلال هذه الجلسة صوت النواب من مختلف الكتل النيابية بالإجماع على إلغاء المراسيم الرئاسية وإنهاء الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها سعيد بموجب البند 80 من الدستور.
واستدعت وحدة مكافحة الإرهاب التونسية بأمر من قيس سعيد، الغنوشي كرئيس للبرلمان إلى جانب عدد من النواب الآخرين بتهمة التحريض على الفتنة التي يمكن أن تؤدي إلى عقوبة الإعدام، وكان من المقرر عقد جلسة الاستماع في 5 أبريل/نيسان من العام ذاته، لكن المدعي العام أجلها إلى موعد غير محدد.
جلسة انعقدت بدون علم المتهم المفترض ولا أسرته وبدون علم المحامين أنفسهم وأصدرت حكما عجيبا بلا تهمة واضحة سوى كلمة لا لبس فيها خلال موكب تأبين.. فضيحة أخرى للانقلاب في محاولة جديدة للتنكيل بـ #راشد_الغنوشي في معتقله!#غنوشي_لست_وحدك#FreeGhannouchi pic.twitter.com/6ZogjQhsM8
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) May 16, 2023
تُعرف رابع القضايا بقضية “نماء”، حيث وجه النائب العام الاتهام لراشد الغنوشي على ذمة قضية “جمعية نماء”، وهي منظمة تنموية غير حكومية، تم اتهامها بغسل الأموال وتلقي تمويل أجنبي وتمويل الإرهاب.
و”نماء” جمعية تنموية غير ربحية، تأسست في 15 مارس/آذار 2011، تهدف إلى “بعث المشاريع الاقتصادية المحدثة لمواطن الشغل، خاصة في المناطق ذات الأولوية، ومساعدة العاطلين من أصحاب الشهادات الجامعية العليا على بعث مشاريع اقتصادية وربط العلاقات والصلات مع الجمعيات والهياكل والمنظمات ذات الصلة، والمساهمة في تقديم خدمات استشارية تساعد على تفعيل المبادرات الاقتصادية وبعث المشاريع الصغرى”، بحسب ما هو منشور في وثيقة تأسيسها بموقعها الإلكتروني.
فضلًا عن هذه القضايا، سبق أن مثل زعيم النهضة أمام حاكم التحقيق على ذمة ما يُعرف بقضية “الجهاز السري”، التي يُتهم فيها الغنوشي بتكوين “جهاز سري” داخل وزارة الداخلية، يضم أمنيين وقضاة، من أجل السيطرة على الدولة والتستر على بعض القضايا.
وتعرف القضية السادسة بقضية “شركة أنستالينغو”، التي أصدر بمقتضاها قاضي التحقيق الأول بالمكتب الثاني بالمحكمة الابتدائية سوسة 2، بطاقة إيداع بالسجن ضد الغنوشي، وشركة أنستالينغو مختصة في صناعة المحتوى والاتصال الرقمي بسوسة.
أطلقت سلطات سعيد في الأشهر الأخيرة حملة إيقافات استهدفت عددًا من السياسيين المعارضين ورجال الأعمال وصحفيين ومحامين وقضاة لأسباب مختلفة
وجهت إلى الغنوشي ومتهمين آخرين، تهم ارتكاب جرائم تتعلق بغسل الأموال في إطار وفاق والاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة وحمل السكان على مواجهة بعضهم بعضًا وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي وارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة والاعتداء على أمن الدولة الخارجي، وذلك في محاولة للمس بسلامة التراب التونسي، حسب القانون المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال.
أما آخر القضايا في الوقت الحاليّ، فهي التي تُعرف بقضية “التسفير إلى بؤر التوتر”، وبدأ القضاء العسكري التحقيقات في هذا الملف إثر شكوى تقدمت بها البرلمانية فاطمة المسدي في ديسمبر/كانون الأول 2021، قبل أن يحولها إلى القطب القضائي لمكافحة الإرهاب لوجود مدنيين بين المشتكى عليهم.
وتم الاستماع للغنوشي، على خلفية هذه القضية في مناسبتين: الأولى في 20 سبتمبر/أيلول 2022، والثانية في 28 نوفمبر/تشرين الثاني من نفس السنة، وكلاهما أمام القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، وفي المناسبتين استمر التحقيق أكثر من 12 ساعة، قبل الإفراج عنه دون توجيه أي تهمة له.
القاسم المشترك بين كل هذه القضايا غياب أي دليل يدين الشيخ راشد الغنوشي، ومع ذلك آلة قيس سعيد الأمنية والقضائية ما زالت تُلاحق رئيس البرلمان السابق، في مسعى منها لإذلاله وإلحاق الأذى النفسي به، وفق قيادات حركة النهضة.
قضايا سياسية
يعتقد الصحفي التونسي كريم البوعلي أن “الحكم الصادر بحق رئيس البرلمان الشرعي وأكبر حزب في البلاد راشد الغنوشي سياسي بامتياز وهو نتيجة أوامر سياسية للقاضي الذي أصدره لأن الجرم غير موجود أصلًا والتصريح الذي تم تأويله تعسفيًا لا يتضمن أي أدانة”.
ويرى البوعلي في حديثه لنون بوست “أن محاكمات الغنوشي وكل المعارضين هي تشفٍ وانتقام من قيس سعيد شخصيًا بهدف تصفية الساحة السياسية من قادة المعارضة في الشارع ومنع أي تحركات احتجاجية كبيرة كتلك التي دأبت حركة “مواطنون ضد الانقلاب” وبعدها جبهة الخلاص لتنظيمها”.
وأضاف محدثنا “يهدف سعيد من خلال هذه الإستراتيجية المتبعة إلى أن يخلو له الجو وإرساء دعائم نظامه القمعي البوليسي المنغلق على نفسه برؤى وتصورات استئصالية يسارية ينفذها وزير الداخلية كمال الفقيه الملقب بـ”ستالين””.
يؤكد البوعلي أن ما يجري لم يكن مستغربًا، قائلًا في هذا الشأن: “لم يكن مسار قيس سعيد مستغربًا، فقد خاض معارك طاحنة لتدجين القضاء والسيطرة عليه ووزيرة العدل ليلى جفال تتدخل في كل كبيرة وصغيرة تهم قضايا المعارضين وتواصل إحالة آخرين إلى مقصلة التحقيق والتنكيل آخرهم عضو هيئة الدفاع عن الموقوفين السياسيين المحامي عبد العزيز الصيد”.
بدورها، اعتبرت جبهة الخلاص المعارضة أن “إيداع إحدى أبرز الشخصيات السياسية السجن بسبب تصريحات يقع تأويلها على خلاف منطوقها ومدلولها، يثبت من جهة أن السلطة لم تستطع إثبات أي أعمال مادية مجرمة في حق رئيس حركة النهضة وعموم السياسيين الموقوفين، وتقيم دليلًا إضافيًا من جهة أخرى على أن الاعتباط حل محل القانون في الحياة العامة، وأن لا أحد من المعارضين مهما كان موقعه أو انتماؤه في مأمن من مصادرة حريته والزج به في السجن”.
ونبهت الجبهة إلى أن “الحكم الصادر هذا اليوم يضاف إلى إيداع أكثر من عشرين شخصية سياسية بالسجن للشهر الثالث على التوالي، من دون حجة أو تبرير إلا كيل التهم جزافًا والانحراف بالسلطة والقانون”.
واعتبرت الجبهة أن “سياسة القمع هذه نتيجة مباشرة للانقلاب على الدستور والانفراد بالحكم المطلق، وهي ملاذ السلطة في وجه إخفاقها في إدارة الشأن الاقتصادي وفشلها في معالجة الأزمة المالية والاجتماعية الخانقة التي تجتازها البلاد”.
من المهم التذكير بأن الغنوشي ليس الوحيد الذي يُحاكم في تونس، إذ أطلقت سلطات قيس سعيد في الأشهر الأخيرة حملة إيقافات استهدفت عددًا من السياسيين المعارضين ورجال الأعمال وصحفيين ومحامين وقضاة لأسباب مختلفة من أبرزها تهديد أمن الدولة على غرار رئيسي الوزراء السابقين علي العريض وحمادي الجبالي.