انجلى غبار المواجهة الأخيرة التي جرت بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والاحتلال الإسرائيلي، بعد 5 أيام من العدوان الذي بدأه الاحتلال بسلسلة اغتيالات مباغتة لمجموعة من قيادات سرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.
المواجهة التي جاءت بعد نحو 9 أشهر فقط من معركة “وحدة الساحات”، التي بدأها الاحتلال الإسرائيلي أيضًا باغتيال تيسير الجعبري أحد أبرز قادة سرايا القدس، أعادت إلى الأذهان سياسة الاغتيالات التي اتّبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة خلال انتفاضة الأقصى.
اللافت أن هذه الاغتيالات جاءت بعد سلسلة تسريبات إعلامية إسرائيلية شهدتها الشهور الأخيرة، عن عزم المنظومة العسكرية توجيه ضربات عسكرية لقيادات المقاومة الفلسطينية في غزة ولبنان، في أعقاب تصاعد العمليات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة والداخل المحتل عام 1948.
ورغم أن الفصائل الفلسطينية اتخذت سلسلة من التدابير والاحتياطات الأمنية، إلا أن ذلك لم يمنع الاحتلال من تنفيذ هذه الاغتيالات، رغم الوساطات التي شهدتها الفترة من قبل مصر والأمم المتحدة وقطر، لتثبيت التهدئة وعدم اندلاع مواجهة جديدة.
في المقابل، شهدت هذه الجولة تنسيقًا عالي المستوى بين فصائل الغرفة المشتركة للمقاومة الفلسطينية التي تضمّ 12 ذراعًا عسكرية من مختلف الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حركة حماس عبر ذراعها العسكرية كتائب الشهيد عز الدين القسام، خلال عملية الردّ.
ويمكن القول إن المقاومة الفلسطينية حققت إنجازًا، لأن حكومة الاحتلال رغم تفوق جيشها والاختلال الفادح في ميزان القوى لم تستطع كسر إرادتها، وحسم المعركة بالقضاء عليها، ولا الانتصار عبر تحقيق أهدافها بشكل واضح وساحق.
والدليل على ذلك أن الغرفة المشتركة وسرايا القدس لم تُكسر إرادتهما، ولم تخضع، ولم ترتدع، بل واصلتا إطلاق الصواريخ والقذائف حتى اللحظة الأخيرة، رغم الثمن الباهظ الذي دفعته سرايا القدس، والذي تمثل في استشهاد 6 من أبرز أعضاء المجلس العسكري لسرايا القدس، وقصف أهداف كثيرة تابعة لها، مع أنه لم يوجَّه لها ضربة قاصمة قاتلة.
وكان لافتًا خلال هذه الجولة السعي الإسرائيلي لزرع بذور الخلاف والفرقة بين حركتَي حماس والجهاد الإسلامي، عبر محاولة التفرُّد بالأخيرة، وهو ما رفضته الأولى من خلال التأكيد على حضور الغرفة المشتركة في المشهد، والدعم السياسي الذي حظيت به الجهاد خلال أيام المواجهة.
قراءة في الأهداف الإسرائيلية.. الأسباب والتوقيت؟
عند الحديث عن مواجهة “ثأر الأحرار” التي حملت إسرائيليًّا اسم “الدرع والسيف”، يجب الإشارة إلى العوامل الداخلية الإسرائيلية التي دفعت الاحتلال نحو تنفيذ هذه العملية، وفي مقدمتها الأزمة السياسية المتواصلة في الاحتلال على خلفية التشريعات القانونية والقضائية.
وإلى جانب ذلك، برزت الخلافات بين أعضاء الائتلاف الحكومي، وتحديدًا الوزير المتطرف إيتمار بن غفير الذي دعا في أكثر من مناسبة إلى تنفيذ عمليات اغتيال ضد قيادات المقاومة الفلسطينية، واعترض على التعامل العسكري والأمني مع قطاع غزة تحديدًا، وعلّق مشاركته في الحكومة حتى بدأت العملية العسكرية الأخيرة.
وبمحاذاة هذا الأمر، لعب تراجع شعبية رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو دورًا في الدفع نحو تنفيذ هذه العملية في هذا التوقيت بالذات، إذ انخفضت شعبيته بشكل كبير عن أقرب منافسيه، نتيجة الأزمات الداخلية التي تمرّ به دولة المستوطنين خلال الفترة الأخيرة.
وأسهمت زيادة العمليات الفلسطينية خلال عهد هذه الحكومة التي صعدت في الانتخابات التي جرت قبل نحو 6 أشهر، في تعزيز قناعة الإسرائيليين بفقدان عامل الردع ضد المقاومة الفلسطينية عمومًا وقطاع غزة خصوصًا، مع إطلاق أكثر من 100 صاروخ حتى قبل العملية العسكرية الأخيرة تجاه المدن المحتلة عام 1948.
ومن بين الأهداف التي سعت إليها حكومة نتنياهو من العدوان الأخير، استعادة الردع الذي تآكل من عدم ردّ قوات الاحتلال، أو ردّها بشكل محدود واستعراضي على قصف الصواريخ وعلى تصاعد المقاومة في الضفة، وتحميل المقاومة في غزة المسؤولية عن ذلك.
رغم الضربة المباغتة التي تلقتها المقاومة الفلسطينية، إلا أنه يحسب لها تعاملها الهادئ مع الحدث، ما يوحي بمستوى عالٍ من التنسيق وضبط الميدان لتنفيذ ردّ مدروس ومتفق عليه
غير أن حكومة نتنياهو لم تتمكن من استعادة صورة الردع، لكنها رمّمته بشكل نسبي، من خلال اغتيال 6 قادة بارزين من أعضاء المجلس العسكري لسرايا القدس، ما يعكس نجاحًا أمنيًّا محدودًا بالنسبة إلى الاحتلال يتوجب على المقاومة وعلى حركة الجهاد معالجته.
وإلى جانب ذلك، نجح نتنياهو في معالجة التصدع الذي حصل على خلفية الخلاف حول الرد الإسرائيلي على المقاومة، فقد رمّمت نفسها، وتجلى ذلك بعودة الوزير إيتمار بن غفير لحضور اجتماعات الحكومة، وعودة نواب حزبه لحضور اجتماعات الكنيست، وحاجة الائتلاف الحاكم إلى استمراره ستجعل من الصعوبة انهياره.
وهناك هدف ثالث للعدوان، وهو تصدير الأزمة الداخلية الإسرائيلية العميقة والبنيوية وغير المسبوقة إلى الخارج، ووقف تراجع شعبية الليكود وزعيمه والأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم، وقد حصل هذا وذاك؛ إذ وقفت المعارضة وراء الحكومة، وجمّدت مظاهراتها الاحتجاجية، كما ارتفع الليكود في أغلب الاستطلاعات من 5-6 مقاعد مقارنة باستطلاعات ما قبل العدوان (من 22 إلى 28 مقعدًا)، وقلّص الفارق بينه وبين “المعسكر الوطني” بقيادة بيني غانتس، وفي بعض الاستطلاعات تفوّق الليكود عليه.
الإدارة الميدانية.. واقع جديد في إدارة المواجهة
رغم الضربة المباغتة التي تلقتها المقاومة الفلسطينية من خلال 3 من كبار قادتها العسكريين بشكلٍ مفاجئ، إلا أنه يحسب للمقاومة تعاملها الهادئ مع الحدث، ما يوحي بمستوى عالٍ من التنسيق وضبط الميدان لتنفيذ ردّ مدروس ومتفق عليه من الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة.
واتضح هذا الأمر من خلال إبقاء الاحتلال في حالة استنفار لمدة 36 ساعة كاملة، قام خلالها بإجلاء آلاف المستوطنين من مستوطنات غلاف غزة إلى مدن العمق المحتلة، وعمل بكل الطرق على استفزاز المقاومة أملًا في استجلاب ردّ سريع يتوافق مع توقعاته.
وشكّلت الضربة الصاروخية الأولى المركّزة التي طالت المدن من غلاف غزة وحتى تل أبيب، عامل مفاجأة بالنسبة إلى الاحتلال، نظرًا إلى الكثافة النارية في إطلاق مئات الصواريخ كردٍّ أولي من المقاومة على عملية الاغتيال، إضافة إلى إدخال مئات الآلاف من المستوطنين إلى الملاجئ.
وتعكس حالة التوافق وجود خطط مسبقة لدى المقاومة الفلسطينية في كيفية التعامل مع المشهد الميداني والعسكري، حال وقوع عمليات اغتيال بطريقة يتم تدارك فيها عامل الصدمة والمباغتة الذي يسعى الاحتلال لتحقيقه، وبشكلٍ يعكس الضغط ليصبح عاملًا مساعدًا لها في مواجهتها ضد الاحتلال.
تعكس الإدارة الميدانية الموحّدة من قبل المقاومة وحالة التنسيق إحدى النقاط المهمة التي تحسب للفصائل في هذه الجولة.
وتجلّى هذا الأمر من خلال البيانات المتكررة التي صدرت عن الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية والأذرع العسكرية المختلفة، التي كانت تؤكد على وحدة الموقف الميداني في المواجهة العسكرية مع الاحتلال، رغم محاولات الاحتلال المتكررة للعزف على وتر التفريق بين الجهاد وحماس في الاستهدافات.
أما من الناحية العسكرية، فقد أثبتت فصائل المقاومة جمعاء تمكُّنها من تطوير منظومتها الصاروخية بشكل تعجز معه منظومة القبة الحديدية، وهو ما اتضح بشكل جلي خلال المواجهة الأخيرة، عبر فشل اعتراض عشرات الصواريخ الخاصة بالمقاومة.
إلى جانب ذلك، سجّلت منظومة “مقلاع داوود” فشلًا ذريعًا في اعتراض الصواريخ بعيدة المدى، حيث سقط صاروخ أُطلق من غزة على منطقة رحوفوت القريبة من تل أبيب، وتسبّب في قتلى وإصابات وأضرار مادية كبيرة، دون أن تتمكن المنظومة من اعتراض الصواريخ وإسقاطها.
وتعكس الإدارة الميدانية الموحّدة من قبل المقاومة وحالة التنسيق إحدى النقاط المهمة التي تحسب للفصائل في هذه الجولة، التي يتوجب عليها أن تقوم خلال الفترة المقبلة بابتكار حلول لمواجهة الثغرات الأمنية، بما يخدم العمل المقاوم الفلسطيني ويسهم في حل الإشكالات الحالية.
قراءة سياسية.. هل نجحت المقاومة؟
كان واضحًا منذ بداية جولة المفاوضات التي تلت المواجهة مع المقاومة الفلسطينية في غزة إصرار الأخيرة على رفض مبدأ الهدوء، مقابل الهدوء الذي سعى الاحتلال الإسرائيلي لفرضه عليها، والإصرار على شرط وقف الاغتيالات للمدنيين والأفراد كشرط أساسي لوقف التصعيد.
وخلال الأيام الخمسة أصرّت المقاومة على هذه الشروط، إلى جانب شرط وقف استهداف المنازل والبيوت الذي يستخدمه الاحتلال كوسيلة ضغط على الفلسطينيين في كل جولة تصعيد أو مواجهة مفتوحة، بعد أن يعجز في تحقيق أهداف عسكرية حقيقية.
في المقابل، فإن المقاومة يحسب لها النجاح في مواجهة الضغوط السياسية التي تعرضت لها من الوسطاء للقبول بأي ثمن لوقف العدوان الإسرائيلي، إلا أن المقاومة باتت تحتاج بشكل واضح إلى إدارة أكثر وضوحًا في الخطاب الإعلامي والسياسي المقدَّم لجمهورها.
بالعموم، قد لا تكون هذه الجولة هي الأفضل من ناحية الأداء العسكري والسياسي للمقاومة الفلسطينية، مقارنة مع جولات سابقة مثل سيف القدس أو حرب 2014، إلا أن المقاومة يمكنها الاستفادة من هذه التجربة والمراكمة عليها خلال المواجهات المقبلة.
ما بعد المعركة.. السيناريوهات المتوقعة؟
مع مرور أيام قليلة على المعركة التي خاضتها المقاومة، فإن ثمة مراجعات أمنية وسياسية وعسكرية ستتمّ لما حصل خلالها، بداية من اغتيال القيادات وتعقبهم بهذه الطريقة، إلى جانب معادلة الأخطاء العسكرية التي وقعت خلال عملية الردّ على العدوان الإسرائيلي على غزة.
في المقابل، فإن الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة عليها العمل بشكل حقيقي وواقعي على زيادة التنسيق المعلن والخفي، إلى جانب ضبط الخطاب الإعلامي بشكل أكبر يحبط أي مساعٍ إسرائيلية، لزرع بذور الفتنة والفرقة بين رفاق الدم والسلاح خلال المواجهات.
أما عن السيناريوهات المتوقعة، ثمة رأي يتوقع أن تشهد الأمور الميدانية هدوءًا غير مسبوق خلال الفترة المقبلة، ستعمل خلاله كل الأطراف على استغلاله للمواجهة المقبلة لمعالجة الثغرات العسكرية ومراكمة القوة، والاستفادة لوضع خطط عسكرية مباغتة للطرف الآخر.
في حين أن سيناريو الاغتيالات الذي نفّذته “إسرائيل” مؤخرًا لا يبدو مستبعدًا من التكرار من جديد، على أن يستهدف هذه المرة قيادات من حركة حماس سياسيًّا أو عسكريًّا، أو حتى بعض المحسوبين على إدارة ملف الضفة الغربية فيها ضمن مساعي الاحتلال لردع المقاومة.
سيناريو اندلاع مواجهة جديدة سيبقى قائمًا مع التوتر في المسجد الأقصى ومحاولات الإسرائيليين فرض واقع جديد.
ولا يبدو هذا السيناريو مستبعدًا أمام المعطيات الميدانية القائمة مؤخرًا، وحالة الاستنفار العسكري المتكررة للاحتلال وللمقاومة على حدّ سواء، فضلًا عن التحليق المكثف للطيران الحربي الإسرائيلي في أجواء القطاع حتى ما بعد العدوان الأخير، وهو ما يعكس أن الميدان سيبقى متوترًا.
في الوقت ذاته، فإن سيناريو اندلاع مواجهة جديدة سيبقى قائمًا مع التوتر في المسجد الأقصى، ومحاولات الإسرائيليين فرض واقع جديد عبر مسيرات الأعلام أو عبر السعي لفرض التقسيم الزماني والمكاني كسياسة أمر واقع جديد، وهو أمر ترفضه المقاومة الفلسطينية.
على أي حال، ما هو مؤكد أن الوسطاء سيسعون بكل قوة للحفاظ على الواقع الحالي لأطول وقت ممكن، مع عدم إنكار أن الميدان سيبقى المتحكم في المشهد خلال الفترة القادمة، وأن أي حدث صغير قد يقلب الطاولة على رأس الجميع ويفجّر مواجهة جديدة.