تُخصص السجون ومراكز الإيقاف عادةً، في مختلف أنحاء العالم، لسجن وإيقاف مجرمي الحق العام، لكن في تونس، اختلف الأمر بعد انقلاب الرئيس قيس سعيد على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية في يوليو/تموز 2021.
لم تعد سجون نظام سعيد مخصصة لمجرمي الحق العام فقط، إنما للسياسيين والصحفيين والمحامين والقضاة أيضًا، جريمتهم الوحيدة التنديد بواقع الحريات في تونس والمطالبة بحقهم في العيش الكريم في بلادهم أو معارضة إجراءات سعيد.
أغنية تنتقد الشرطة
آخر رواد مراكز الإيقاف التونسية، شابان، أُلقي القبض عليهما ليلة أمس الثلاثاء بسبب أغنية ساخرة تنتقد قوات الأمن، في خطوة تعزز المخاوف من تآكل حرية التعبير منذ انفراد الرئيس قيس سعيد بمعظم السلطات في البلاد وإقصاء الجميع.
وقبل أيام قليلة، نشر شباب مقطع فيديو على منصات التواصل الاجتماعي (تيك توك وفيسبوك)، يظهرون فيه وهم يضحكون ويرددون أغنية ساخرة على إيقاع لحن الصور المتحركة “بابار فيل”، تنتقد معاملة قوات الأمن للموقوفين وقانون المخدرات، ما رأته الشرطة تعديًا عليها.
سارعت الشرطة لإيقاف اثنين فيما تبحث عن الشاب الثالث، ويواجه الشابان يوسف شلبي وضياء نصير تهم “الإساءة للغير عبر شبكات التواصل ونسبة أمور غير صحيحة لموظف عمومي عن طريق الصحافة أو غير ذلك، ونسبة أمور غير قانونية متعلقة بوظيفة”، وفق المحامية إيمان السويسي.
تقول السويسي إن الشابين قد يواجهان عقوبة السجن لمدة تصل إلى 4 سنوات إذا أكدت المحكمة التهمة، كما قد يحرمان من اجتياز امتحانات آخر السنة الجامعية، ما من شأنه أن يؤدي إلى رسوبهما وتعريض مسارهم الدراسي إلى الخطر.
وترى محامية الشابين أن الأغنية التي تم تداولها بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي عادية، ولا تحتوي كلامًا بذيئًا أو توصيفًا سيئًا، كما لا تحمل أي إساءة إلى أحد، وذنب ضياء ويوسف الوحيد أنهما “مارسا الفن وعبرا عن رأيهما”.
مقال صحفي
في نفس اليوم، قضت محكمة الاستئناف بتونس العاصمة، بتشديد الحكم الصادر بحق الصحفي التونسي خليفة القاسمي من السجن سنة واحدة إلى السجن 5 سنوات بسبب نشره خبرًا عن الإرهاب وبتهمة إفشاء معلومات حساسة عن عملية أمنية جارية.
وبدأت ملاحقة القاسمي – الذي يعمل صحفيًا في إذاعة “موزاييك إف إم” الخاصة – قضائيًا في آذار/مارس 2022، وصدر ضده حكم في المرحلة الابتدائية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي يقضي بسجنه لمدة عام، وبعد الطعن ضده رفعت المحكمة حكمها إلى خمس سنوات سجنًا.
وتمثل تفاصيل القضية في نشر القاسمي خبرًا استقاه من مصدر أمني رسمي عن تفكيك خلية إرهابية بمحافظة القيروان، وقد رفض الصحفي الكشف عن مصادره لقوات الأمن، وهو ما عدته السلطات القضائية جريمة تعمد إفشاء معلومات، وفقًا لقانون مكافحة الإرهاب.
الحكم بسجن صحفي تونسي خمس سنوات بسبب مقال #تونس #صحافة pic.twitter.com/sW2dziWfQd
— Wejdene Bouabdallah ? (@tounsiahourra) May 16, 2023
يُعد هذا الحكم، وفق منظمات تونسية، الأعلى في تاريخ الصحافة التونسية، إذ لم يصدر حكم مُماثل في كل الفترات الرئاسية التونسية، وهو “محاولة سريعة لمعاقبة الصحفيين وتركيعهم باستغلال الجهاز القضائي”.
يذكر أن خليفة القاسمي ليس الصحفي الأول أو الوحيد الذي تم اعتقاله ومحاكمته “بشبهة إرهابية” منذ إعلان الرئيس قيس سعيد انقلابه على مؤسسات الدولة ليلة 25 يوليو/تموز 2021، إذ يوجد في السجون التونسية العديد من الصحفيين المحالين إلى القضاء بتهم تتعلق بالإرهاب وتهديد أمن الدولة.
وضع الحريات “قاتم”
عقب انقلابه على دستور البلاد صيف سنة 2021، تعهد قيس سعيد بحماية حرية التعبير والصحافة، وفي مناسبة أخرى قال سعيد إن بلاده ليس فيها أي سجين رأي أو سجين موقف، لكن الواقع يؤكد عكس ذلك، فالسجون التونسية تأوي عشرات السياسيين والصحفيين والمحامين والقضاة كما بينا في البداية.
فضلًا عن سجن النشطاء، شهدت تونس قبل أيام مصادرة كتاب يحمل اسم “فرانكنشتاين تونس، تأملات في الشأن السياسي التونسي في عهد قيس سعيد”، ويوجه هذا الكتاب – الذي حمل غلافه الصورة التخيلية المعروفة لشخصية “فرانكنشتاين” الهوليودية – انتقادات لرئيس البلاد قيس سعيد، وفق مؤلفه.
كما سبق أن عطل قيس سعيد ومن حوله، عمل الأحزاب وقيد نشاط السياسيين وضيق الخناق على المجتمع المدني والصحفيين وشرع قوانين تكمم الأفواه في الواقع وفي المجال الافتراضي، ما أضر بواقع الحريات في تونس، هذا البلد الذي كان يعد إلى وقت قريب الاستثناء العربي في مجال الحريات.
أدى هذا إلى تراجع ترتيب تونس بشكل لافت بين الدول على مستوى العالم في حرية الصحافة، وفق منظمة “مراسلون بلا حدود”، وذكر تقرير للمنظمة صدر بداية هذا العام أن تونس احتلت المرتبة 121 من بين 180 دولة، بعد أن كانت في المرتبة 94، في حين كانت في المرتبة 73 عام 2021.
تقول النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إن حرية الصحافة في تونس أصبحت في “وضع سيئ للغاية”، بسبب الانتهاكات المتزايدة وتقييد السلطات الوصول إلى المعلومات، على حد قولها، متهمة الرئيس قيس سعيد بتهديد حرية التعبير في البلاد.
بدورها ترى الباحثة التونسية في قضايا الإعلام والسياسة عائشة الغربي أن وضع الحريات في بلادها يشهد تهديدات كبيرة، ليس فقط بالنسبة للصحفيين أو السياسيين إنما يشمل أيضًا عامة المواطنين، وترى أن السنة الأخيرة شهدت أكبر عدد من الانتهاكات في حق النشطاء.
وتقول الغربي في حديثها مع نون بوست “بعض التشريعات التي أقرها سعيد تمثل سيفًا على رقبة أي أحد يعبر عن رأيه، حيث يتم تكييف المقالات والتدوينات والتصريحات وفق أهواء ناس معينة، للتضييق على الحريات.”
زرع الخوف لدى عامة الناس
ترى عائشة الغربي أن الهدف من وراء هذه التضييقات المتعمدة، زرع الخوف في نفوس عامة الناس، فالنظام لا يستهدف المعارضة السياسية فقط، فكل التونسيين مستهدفون من هذا النظام الشمولي الذي يسعى لفرض نظام حكمه على الجميع.
يحاول نظام قيس سعيد السيطرة على الفضاء العام واقعيًا وافتراضيًا، وأن يسكت أي صوت معارض له، حتى يعبد الطريق أمامه لفرض نظام حكمه القائم على حكم الشخص الواحد وإقصاء باقي الفعاليات السياسية والمدنية من السلطة.
يرى نظام سعيد أن الطريقة الوحيدة لتحقيق أهدافه، بث الخوف لدى التونسيين، كما فعل من قبل نظاما بورقيبة وبن علي، ففي غياب المنجز الاجتماعي والاقتصادي، لا سبيل أمام قيس سعيد سوى التضييق على التونسيين حتى يضمن الولاء ويأمن من الاحتجاجات.
في عهد سعيد، جميع التونسيين في السجن مع تأجيل التنفيذ، فالجميع مدانون في انتظار أن يصدر القاضي حكمه النهائي، مع ذلك، ما زال سعيد يقول إنه حامي الحريات في تونس ونصير المستضعفين وربان دولة القانون والمؤسسات.