عندما كنا نتابع خريطة التصويت للإسلاميين في تركيا كانت ملاحظة مهمة تكشف بل تؤكد اتجاهات التصويت، فالمناطق الساحلية حيث المدن الكبرى أو المراكز الحضرية الأساسية مثل اسطنبول وأزمير وغيرها من مدن الساحل الغنية تكشف ميلها إلى التصويت ضد الإسلاميين بينما ترتفع نسب التصويت في المناطق الريفية والمدن الصغرى والقرى وربما الأرياف المفقرة تعلن عن ثباتها في التصويت للإسلاميين.
الخريطة الملونة ذكرت بخرائط التصويت للإسلاميين في مصر وفي تونس. إذ نتذكر دون استحضار الأرقام في هذه اللحظة (ونأسف لذلك) بأن الأرياف المفقرة والقرى والمدن الطرفية قد صوتت للإسلاميين بينما صوتت المراكز الحضرية الكبرى باستثناء الضواحي من حول المدن (تونس والقاهرة) لخصومهم وهو ما حرضنا على طرح سؤال في علم الاجتماع الانتخابي، هل الإسلام السياسي وأحزابه (التي فتحت لها فجوة انتخابات) هي خيار عقلاني للمفقرين أم أن التصويت كان يعبر عن صراع ريف ضد مدينة (فقراء ضد أغنياء) وهو بلا شك صراع اجتماعي موروث وغير عقائدي؟ وهل الناس ينفرون من الإسلاميين وبما يذكرون به من تدين (والتزام أخلاقي) كلما تمتعوا بالحياة الحضرية ورهافتها؟
نحتاج تدقيق الأرقام
نطرح هذه الأسئلة كفرضيات بحث علمي محتملة في غياب الأرقام الدقيقة للتصويت وتوزيع الخرائط الانتخابية بدقة في تركيا ومصر وتونس وقد نضيف لو تيسرت المعطيات انتخابات المغرب وربما انتخابات الجزائر في التسعينيات من القرن الماضي. وهي فرضيات قد تدفعنا إلى قراءة أخرى تتجاوز الآني الانتخابي المعاصر إلى قراءة في تاريخ الإسلام عامة وسر انتشار سلوك الدعة بقدر توسع الحياة الحضرية. وربما نوفر به مدخلًا آخر للقائمة الطويلة من خبراء نهاية الإسلام السياسي. الذين يكتبون عادة من مقاهي باريس ويوزعون شهادات التقدمية.
رغم افتقارنا إلى الأرقام الدقيقة إذن، نؤكد ملاحظة مهمة وهي أن التصويت للإسلاميين يرتفع كلما ارتفعت نسب الفقر. وتنخفض بقدر انتشار سلوك الدعة والإقبال على الرفاه المادي بما يجعل الإسلام السياسي وأحزابه هو خيار الفقراء والمحرومين حيثما أتيح لهم المشاركة في تصويت. بينما يصوت الحضريون للبازار أو للأحزاب اليمينية وطبقة الأغنياء التي تعبر عن نفسها انتخابيا في المدن.
وفي الخلفية التحليلية الآن التقسيم الخلدوني بين العصبيات الصاعدة في مواجهة مدن الرفاه أو العصبيات المتحللة وهو عمق آخر للفرضية قد نجد له سندًا في نظرية العصبية الخلدونية والتداول التاريخي على الحكم. وهو العمق الذي قد يفسر لنا تصويت اسطنبول ضد أردوغان وحزبه. واسطنبول الحديثة هي ثمرة عمل أرودغان منذ رئاسته لبلديتها وتحويلها من مدينة مزبلة إلى أنظف وأجمل مدينة في العالم. كما لو أن رفاهها الذي صنعه بيديه قد انقلب عليه في ما يمكن نعته بأكبر عملية إنكار معروف في التاريخ.
كأنه قانون تاريخي؟
مشاهد تقفز إلى الذاكرة من تاريخ الإسلام الأول فقراء العرب هم من رحب بالإسلام (بلال ضد أبي سفيان) ونشره من عمق الجزيرة إلى الحواضر المحيطة. وبمجرد تأسيس الحواضر العربية الكبرى مثل دمشق وبغداد والقيروان مال العرب المستقرون (الحضر الجدد) إلى استجلاب طرق العيش الرغيد وتوفير شروطه وابتعدوا عن صرامة النظام الأخلاقي المنصوص عليه بكل النصوص المؤسسة. وكان هذا سلوك يتكرر بعد كل ثورة عصبية من الأطراف الواسعة من الدولة الإسلامية ضد أهل الحواضر المستكينة (أهل القلم ضد أهل السيف).
نفس المشاهد تعود مع كل انتخاب في العصر الحديث. بل قبل الانتخاب فحيث ظهرت حركات الإسلام السياسي (الإخوان وفروعهم) وجدنا لهم ثقلا في الأرياف المفقرة والأحياء الشعبية حول المدن كأنها الدعوة الدينية الأولى تتجدد بطموح الفقراء إلى المشاركة وإلى العدالة. وحيثما وصل هؤلاء إلى حياة حضرية (الحالة التركية خاصة حيث أنها الحالة الوحيدة التي وصلت إلى الحكم واستقر لها نسبيا) مال الناس عنها إلى خصومها ممن يعبر بقوة عن طموحات الرفاه والدعة (بقطع النظر عن الديماغوجيا القومية أو الوطنية كما في حالة تحالف الأمة التركي بقيادة كيلجدار). ودون الوقوع في أحكام أخلاقية (طهورية) عن أخلاق الحضر وسلوكهم اليومي فإن الأمر ينحصر في معادلة تبدو لنا قابلة للتحقيق العلمي. الإسلام السياسي هو صوت الفقراء وحدهم وهم يتخذونه خيارا وسلما للمشاركة فإذا بلغوا به مبلغهم تحولوا عنه كما فعل عرب الجزيرة في دمشق وبغداد.
نتذكر أنه قبل أن يرمي الفرنسيون مصطلح الإسلام السياسي في الأقورا كانت التسمية هي الإسلام الاحتجاجي وهو المصطلح الذي رمته الثورة الإيرانية في مجال التداول.
ندفع الفرضية إلى أبعد مدى ممكن؛ الحركات اليسارية الأوروبية منذ ظهور الماركسية كانت حركات آمن بها الفقراء وطبقة العمال المفقرة (الرثة) ضد رأس المال (الحضري) بما يجعل حركات الإسلام السياسي العربية خاصة هي وريثة حركات اليسار الاحتجاجي الغربية. ونشير إلى أن اليسار العربي هو حراك حضري بالأساس وقد وقف مع الأنظمة المعادية للديمقراطية وتوسيع المشاركة ضد الإسلام الاحتجاجي في كل رقعة عربية، بما جعله جزءا من وسائل دفاع الحضر عن مكاسبهم المستقرة ولا علاقة له بالفقراء وطبقة العمال.
الحالة التونسية تقوي فرضيتنا
كأن ابن خلدون يهيمن على المشهد من عل وإن اختفى شكل القبيلة القديمة، لكن أحزمة الفقر حول المدن وفقراء الأرياف وما تبقى من البوادي تؤلف عصبيتها وتحتج بالإسلام العائد (المستعاد) مشكِّلة رابطة عصبية جديدة ثائرة/ محتجة/ معارضة لمدن الرفاه (الرفاه نشأ وتوسع بالدكتاتورية الغاشمة) فاجتمعت مطالب المشاركة الاجتماعية في الثروة بمطلب المشاركة السياسية (في ظل العجز عن الثورة المسلحة) متلحفة بدعوة دينية سلمية أكثر من رابط عصبي (قرابي).
حزب النهضة التونسي هو حزب المفقرين والمهمشين في الجغرافيا التونسية الحديثة (الجنوب والوسط الريفي خاصة) وأحزمة المدن المفقرة. بينما كان تصويت المراكز الحضرية للنظام السابق وطبقته التي صنعها وقيمها الحداثية التي روجها كأفق وحيد ممكن للعيش المشترك. (مع لغو كثير حول تخلف الريف ورجعيته وتقدم المدن ورقيها الخ). وكعنوان فرعي دال (المنصف المرزوقي الريفي حليف الإسلاميين الريفيين ضد الباجي قائد السبسي الحضري حليف طبقة رأس المال).
الخلاصة.. توجد هنا حظيرة للتفكير والعمل يمكن الاهتداء فيها بابن خلدون. حركات الإسلام السياسي هي حركات تحرر وطني بعمق اجتماعي ولا يمكنها الهروب من قدرها الذي هو الجمع بين تحرير الأوطان وبناء الديمقراطية مع وضع احتمالات نكران الجميل على طريقة اسطنبول في وارد الحدوث المتكرر.
ونذكر للعبرة والقراءة غير العاطفية للتاريخ بتاريخ القيروان الأولى فالأسر العربية التي قادت الفتوحات في أفريقية بنت القيروان عاصمة دينية للفتح أولا لكنها بعد أقل من خمسين سنة من عمرها مالت إلى الرفاه فبنى أمراؤها قصور اللهو والمجون ونسوا الفتح. وكان مبلغ حيائهم أن اجتنبوا فتح الخمارات قرب جامع عقبة فبنوا مدينة رقادة على فرسخ من الجامع الكبير وقال شاعرهم اللاهي مع أميرهم.
يا سيد الناس وابن سيدهم ومن له الرقاب منقادة
ما حرم الشراب بمدينتنا وهو حلال بأرض رقادة.
نحتاج إلى علم الاجتماع الانتخابي (وقد توفرت معطيات على الأرض لفترة زمنية كافية) كمدخل آخر يستفيد من تجارب سياسية وفكرية لم تقرأ حتى الآن بدقة علمية.