لا شكّ أن الهزيمة لأيّ زعيم سياسي أمر محبط للغاية، لكن عندما يحوّل هذا الزعيم فشله إلى هجوم ضد شريحة واسعة من اللاجئين لإبعاد اللوم عنه وإنقاذ طموحاته المحطَّمة، فإن ذلك يصبح ظاهرة بغيضة أخلاقيًّا.
يخرج إلينا يوميًّا ثلة من الموتورين سياسيًّا من المعارضة في تركيا، أتقنوا فنّ استخدام التحريض والكراهية ضد اللاجئين كخطاب سياسي، يلقون اللوم عن جميع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على أكتاف اللاجئين السوريين، لا يتركون مشكلة صغيرة ولا كبيرة في تركيا لا يلقون فيها اللوم على هؤلاء، حتى إذا أضاع أحدهم جواربه ألقى اللوم على اللاجئين، ويتجاهلون بشكل بارع الأدلة الدامغة للمساهمات الإيجابية التي يقدمها هؤلاء للمجتمعات المضيفة.
تحوُّل خطير في الخطاب السياسي
بعد فشله في جلب “ربيع تركيا” الذي بشّر به مرشح تحالف الأمة، كمال كليجدار أوغلو، بسبب الهزيمة التي تعرّض لها في الانتخابات التي جرت مؤخرًا، وما ترتب عنها من حالة إحباط شديد في صفوف حزبه والأحزاب المنضوية تحت طاولته غير المتجانسة التي أنشأها لهزيمة منافسه رجب طيب أردوغان؛ طرأ تغيير كبير في خطابه السياسي، في محاولة لجذب الناخبين الذين لم يصوّتوا له في الجولة الأولى.
تصريحات كلتشدار أوغلو في اليومين الأخيرين تُظهر حقيقة الحزب اليمينية المتطرفة منذ تأسيسه.
الكمالية والقومية والعَلمانية الحادة التي يتبناها الحزب ودعمه للانقلابات وتدخل الجيش هي صورة الحزب الحقيقية مهما حاولوا تغطيتها
— Basheer | محمد بشير (@MBAA) May 18, 2023
كلمات كليجدار أوغلو التي كانت مليئة بالتطلعات إلى التغيير والتقدم والرفاهية، يتردد صداها الآن بالمرارة والاستياء والكراهية، ويطلق العنان لهجمات لاذعة ضد أشخاص غير مسؤولين عن هزيمته، ويدوس بأقدامه دون مبالاة على بقايا الكياسة السياسية.
يرسم هذا التدهور الأخلاقي لخطاب كليجدار أوغلو وجوقته، بعد فشلهما في الانتخابات، صورة قاتمة لشخصياتهما وقيمهما، ويفضح العواقب التي تنشأ عندما تصبح السلطة غاية في حدّ ذاتها.
اللاجئون أصل الشرور
بعد أن كان يصوّر نفسه مدافعًا عن العدالة ومتواضعًا عبر بثّ خطاباته من مطبخه، ويتحدث عن القيم الأخلاقية والنزاهة ومكافحة الفساد، تجاهل كل ذلك بعد هزيمته في الانتخابات التي سمّمت بوصلته الأخلاقية، وتركته على غير هدى في بحر من المرارة.
ورمى هذه القيم والمبادئ مثل الخِرَق المهملة، واستبدلها بمزيج بغيض من الكراهية والتحريض ضد اللاجئين، آملًا في أن يشكّل ذلك طريقًا له للخلاص وتقديم العزاء لأنصاره.
“ستكون المدن تحت سيطرة اللاجئين والمافيا والعصابات، ولن تتمكن الفتيات الصغيرات من السير في الشوارع بمفردهن، في حال بقيَ هؤلاء في السلطة“.. #كليجدار_أوغلو يتجه للتحريض ضد اللاجئين، كمحاولة لكسب أصوات الناخبين في الجولة الثانية.#الانتخابات_التركية pic.twitter.com/S2wKhP8Te1
— نون بوست (@NoonPost) May 18, 2023
تحوُّل كليجدار أوغلو إلى هذا الخطاب العبثي الذي كان يخفيه في عباءة الوطنية، مزعج لشريحة كبيرة من المواطنين الأتراك واللاجئين الذين وصفهم بالمافيات وعصابات الرذيلة وتجّار المخدرات، بعد أن كان يدعو إلى التغيير السلمي واللاعنف.
يعكس هذا الخطاب الذي تحوّل إلى بؤرة للكراهية والتحريض، تدهورًا في المعايير الأخلاقية وانعكاسًا مروعًا لمجتمع يبدو أنه ضلَّ طريقه وتآكل ضميره الجماعي، بعد أن تخلى عن العقل وانحدر إلى الهاوية. لقد أصبح خطابه مسمومًا بشكل متزايد، يغذي الغرائز الأساسية، بدلًا من البحث عن أرضية مشتركة لحلّ مشكلة اللاجئين.
يعكس هذا الخطاب أيضًا تحوُّل تحالف الأمة -بعد حزب النصر الذي يقوده أوميت أوزداغ- إلى جوقة تروّج لكراهية اللاجئين، بعيدًا عن أدنى معايير الإنسانية. لقد أسقطوا جوهر الإنسانية واستبدلوه برواية تجرّد اللاجئين المثقلين بمعاناة لا يمكن تصورها، من إنسانيتهم، وتشيطنهم وتحوّلهم إلى أكباش فداء، بعد أن يتمَّ تصويرهم على أنهم أصل الشرور في البلاد.
ديماغوجية الانتخابات
لم يولّد التحول في الخطاب السياسي لكليجدار أوغلو ثقافة الكراهية فحسب، بل أدّى أيضًا إلى تطبيع ممارسة التحريض الخطيرة ضد اللاجئين في سبيل الوصول إلى السلطة.
يتلاعب هؤلاء الديماغوجيون، بألسنتهم اللاذعة، بالمشاعر العامة، ويؤجّجون الخوف والاستياء ضد اللاجئين، لحشد الدعم لأجنداتهم المثيرة للانقسام بدلًا من تعزيز الوحدة والتفاهم، ويزرعون بغوغائيتهم الخطيرة وخطاباتهم المسمومة بذور الفتنة والانقسام داخل المجتمعات.
إن الانحطاط الأخلاقي لهؤلاء يعميهم عن حقيقة أن اللاجئين هم بشر، يستحقون الكرامة والرحمة، وليسوا مجرد بيادق لاستغلالها لتحقيق مكاسب شخصية والتأثير على سلوك الناخبين، من خلال رسم صورة لعالم مرعب اجتاحه أولئك الذين يبحثون عن مأوى من الحرب والاضطهاد.
يمكن تفسير الانزلاق إلى هذا الخطاب المشين من قبل قادة الأحزاب السياسية في تحالف الأمة، بأنه ينبع من الخوف الشديد من فقدان مناصبهم، وهذا ما يدفعهم إلى اعتماد تكتيكات تقسيمية كجزء من محاولتهم اليائسة لاستعادة السيطرة والنفوذ.
يبدو أن الخوف من فقدان السلطة داخل أحزابهم أو الدعم العام يزيد من استخدامهم لخطابهم الضارّ، حيث يرون فيه السبيل الوحيد للبقاء في مناصبهم.
لقد وفّرت خسارة الانتخابات فرصة للجمهور للتعرُّف إلى حقيقة هؤلاء، وهو ما تبيّن بشكل جليّ من خلال قيام بعض البلديات التابعة لتحالف الأمة بطرد ضحايا الزلزال وقطع المساعدات عنهم، وتوجيه الإهانات لهم وشتمهم فقط لأنهم لم يصوتوا لأحزابهم في الانتخابات. إن شهوة السلطة لدى هؤلاء التي كانت مستترة بغطاء من الشعارات البرّاقة، أصبحت الآن مكشوفة ليراها الجميع.
انتهازية سياسية
تلعب الانتهازية السياسية وإثارة الخوف وكراهية الأجانب والنداءات الشعبوية والقومية، أدوارًا مهمة في استخدام خطاب الكراهية والتحريض ضد اللاجئين، يستغل بعض قادة المعارضة في تركيا مخاوف الجمهور لتعزيز شعبيتهم وترسيخ سلطتهم، من خلال وضع اللاجئين كأكباش فداء، حيث يستغلون الأحكام الموجودة مسبقًا والانقسامات داخل المجتمع لتحقيق مكاسب شخصية.
تتيح لهم هذه الاستراتيجية حشد الدعم من قاعدتهم الشعبوية لإذكاء الخوف وتأجيج كراهية اللاجئين وشيطنتهم، من خلال تصويرهم على أنهم تهديد للأمن القومي أو الهوية الوطنية أو الثقافة أو الاستقرار الاقتصادي، عبر التلاعُب بالمشاعر العامة، واستغلال غريزة الحفاظ على الذات لتحقيق مكاسب سياسية.
لقد أعمتهم طموحاتهم الشخصية، فبدأوا يلقون المسؤولية عن هزائمهم على الآخرين، وبدلًا من الاعتراف بعيوبهم وضعفهم، فإنهم يوجّهون أصابع الاتهام إلى الأعداء المتخيَّلين، ويصورونهم على أنهم القوى الخبيثة التي دبّرت سقوطهم.
تزييف الحقائق
ينسج قادة المعارضة يوميًّا شبكة من الأكاذيب حول اللاجئين، من شأنها أن تجعل حتى أكثر كاتب خيال يحمرّ خجلًا، يرسمون رؤية بائسة لأمة يسيطر عليها “الغرباء”، مع كل كلمة يضربون على وتر حسّاس، ويؤجّجون جمر الكراهية ضد اللاجئين.
على سبيل المثال، يقول كليجدار أوغلو مهاجمًا منافسه أردوغان: “لم تحمِ الحدود وشرف البلاد.. أدخلت عمدًا أكثر من 10 ملايين لاجئ إلى هذا البلد لاستخدام أصواتهم في الانتخابات”، مضيفًا أنه خلال السنوات القادمة “سيأتي 10 ملايين لاجئ إضافي إلى تركيا في حال استمرار هؤلاء في السلطة”، في إشارة إلى حكومة تحالف الجمهور، و”سيبدأ النهب، وستكون المدن تحت سيطرة اللاجئين والمافيا والعصابات، ولن تتمكن الفتيات الصغيرات من السير في الشوارع بمفردهن”.
ترك القميص الأبيض وقلوب الحب والمطبخ واتجه إلى ضرب الطاولات والتحريض على اللاجئين.. هل #كليجدار_أوغلو بخير؟#الانتخابات_التركية pic.twitter.com/vQ0UPGhjAG
— نون بوست (@NoonPost) May 18, 2023
وبحسب بيانات الأمم المتحدة، هناك 3.9 ملايين لاجئ في تركيا، من بينهم لاجئون من سوريا المجاورة، لكن الحكومة التركية تضع الرقم عند حوالي 4 ملايين، كثير منهم من سوريا وأفغانستان وباكستان، في حين لا يوفّر كليجدار أوغلو أي بيانات تدعم زعمه بأن البلاد تأوي 10 ملايين لاجئ.
من خلال هذه الأكاذيب المضللة، يقود كليجدار أوغلو ومن معه سمفونية من الكراهية في عالم السياسة الملتوي، حيث تتلاشى البوصلة الأخلاقية، ويعزفون بمهارة على أوتار القومية والخوف والتحيُّز ضد اللاجئين، كأدوات للتلاعب بسلوك الناخبين للفوز في الجولة الثانية، بعد أن تذوقوا طعم الهزيمة الأليمة في الجولة الأولى.
هل تستطيع الأحزاب المحافظة استعادة البوصلة الأخلاقية؟
يضمّ تحالف الأمة عددًا من الأحزاب المحافظة التي ربما كان يعوّل الكثير من الأتراك عليها للوصول إلى التغيير السلمي المزعوم الذي ينشدونه، مثل حزب المستقبل وحزب السعادة وحزب الديمقراطية والتقدم، لكن يبدو أن هذه الأحزاب هي الأخرى قد غرقت في الخطاب المسموم، وتخلت عن عقلانيتها وحنكتها السياسية، في سبيل الوصول إلى السلطة.
ومع ذلك، ينبغي على هذه الأحزاب أن تتحدى هذا الخطاب المشين وتنأى به لحفظ مستقبلها السياسي، وأن تستعيد بوصلتها الأخلاقية من خلال خطاب سياسي متوازن يدعم المبادئ التي يقوم عليها أي مجتمع عادل، وينبغي أن يكون هذا الخطاب قادرًا على مواجهة الانحدار نحو الظلام، وأن يشجّع على التعاطف والوحدة والسعي نحو عالم أفضل للجميع.
ينبغي ألا يبرر السعي وراء السلطة اعتماد مثل هذا النوع من الخطابات المشينة.
لكن ربما يعتقد قادة هذه الأحزاب الذين طغت على مُثُلهم ومبادئهم الرغبةُ في السلطة والاعتقادُ الخاطئ، بأن الخطاب الخلافي يمكن أن يعزز مكانتهم السياسية، ولفت الانتباه العام والحفاظ على صورتهم الذاتية المتضخّمة ومصالحهم الشخصية.
بالتأكيد إن مثل هذا الاعتقاد خاطئ، فالانحطاط الأخلاقي لخطاب أي زعيم سياسي لمجرد هزيمته في الانتخابات أمر مزعج، لكن عندما يتجلى على أنه هجوم على اللاجئين، فإنه يصبح خيانة مقيتة للإنسانية.
مرشح المعارضة كمال كلجدار أوغلو تحوّل من “غاندي” يوزع الابتسامات المشرقة والقلوب، إلى أوميت أوزداغ مسعور آخر.
في خطابه اليوم، زَعَم أنه بانتخاب أردوغان “سيبدأ النهب، وستكون المدن تحت سيطرة اللاجئين والمافيا والعصابات ولن تتمكن الفتيات الصغيرات من السير في الشوارع بمفردهن”..…
— أحمد حذيفة Ahmad Houthaifa (@AhmadTalk) May 18, 2023
أخيرًا، ينبغي ألا يبرر السعي وراء السلطة اعتماد مثل هذا النوع من الخطابات المشينة، يجب أن يُنظَر إلى الوصول إلى السلطة على أنه مسؤولية لخدمة الجمهور، ودعم القيم الأخلاقية، والعمل من أجل تحسين المجتمع.
عندما يعطي القادة الأولوية للسلطة بأي ثمن، فإنهم يقوّضون أُسُس الديمقراطية ذاتها، ويكرّسون الانقسام ويضرّون بالرفاهية الجماعية للجمهور.
إن التحوّل من الأمل بالتغيير إلى الكراهية واللجوء إلى التحريض يمثلان تآكلًا عميقًا للمبادئ الأخلاقية، لذلك فإن مسؤوليتنا الجماعية هي إدانة مثل هذا السلوك والمطالبة بالمساءلة عليه.