يتصاعد الصراع بين زعيم مرتزقة فاغنر وقيادة الجيش الروسي، ووصل الحد إلى تبادل الاتهامات بالخيانة العظمى، بينما على الطرف الآخر من الجبهة يستمر الجيش الأوكراني في تحقيق مكاسب مهمة، خاصة في باخموت، بعدما استطاع في وقت وجيز السيطرة على أجنحة المنطقة التي تحولت منذ شهور إلى مستنقع دم.
هل يكون هذا الصراع هو الشجرة التي تخفي وراءها أكمة أم قد يكون فخًا منصوبًا بعناية على الطريقة التي درجت بها روسيا البوتينية للتعامل مع مسائل مشابهة بسلاح الخديعة؟
طباخ بوتين المتمرد
قبل سنوات لم يكن يظهر في العلن إلا لمامًا، أما الآن فلا يكاد يمضي يوم واحد على يفغيني بريغوجين دون أن يبعث رسائل على قناة تلغرام “كيبكا بريغوجينا” (قبعة بريغوجين)، في معظم هذه الرسائل ينتقد بشدة قيادة الجيش الروسي ويهاجم ويشتم وزير الدفاع ورئيس الأركان سيرغي شويغو، ويتهمه بالتخاذل وبأفعال ترقى إلى خيانة الوطن.
هذا هو رجل الأعمال ذو الرأس الأصلع الغاضب الذي تربطه بسيد الكرملين علاقة وثيقة، أسس شركة فاغنر الأمنية عام 2014، ويتولى الآن إدارة عملياتها مباشرة في أوكرانيا، وأطلقت عليه أسوشيتد برس لقب “طباخ بوتين” بسبب المطاعم وشركات المأكولات التي يملكها، التي استضافت الرئيس فلاديمير بوتين مع شخصيات أجنبية رفيعة المستوى.
في مرات عديدة هدد زعيم المرتزقة الروسي بسحب قواته من باخموت بسبب نقص الذخيرة وما وصفه بـ”تخاذل الجيش الروسي” في إمداد فاغنر بالذخيرة اللازمة، وبدا ملفتًا أن يظهر بريغوجين وسط جثث قتلاه وهو يهدد بالانسحاب من الخطوط الأمامية في جبهة باخموت في 10 مايو/أيار، أي في اليوم الموالي لاحتفال روسيا بذكرى انتصار الاتحاد السوفيتي على ألمانيا النازية.
لكن القيادة الروسية تعهدت بتزويد فاغنر بالذخيرة اللازمة، لأن انسحاب قواتها من الجبهة سيضع الجيش الروسي في موقع حرج، في وقت تستكمل قوات كييف استعداداتها لشن هجوم واسع النطاق تؤكد أنه بات وشيكًا، لكن روسيا تزعم أن هجوم الربيع المضاد قد بدأ بالفعل.
في إحدى رسائل زعيم فاغنر على قناته بتلغرام، يقول إن أحد موظفي فاغنر حاول إرسال رسالة منه إلى وزير الدفاع، يوم 13 مايو/أيار الساعة 6.10 بعد الزوال من خلال خدمة البريد السريع، لكن تم رفض قبول الرسالة، بسبب أمر شخصي من وزير الدفاع نفسه.
وأشار بريغوجين إلى أن “الرسالة عكست المشاكل مع الجيش الروسي على أطراف باخموت، فضلًا عن النداءات الجماهيرية لعناصر من الجيش الذين يرغبون في الانضمام إلى فاغنر بسبب الافتقار إلى السيطرة على مستوى وحدات وزارة دفاع روسيا الاتحادية”.
مزاعم خيانة فاغنر
نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريرًا يكشف عن عرض غريب تقدم به بريغوجين للجيش الأوكراني، حيث قايض تقديم معلومات عن مواقع القوات الروسية بانسحاب الجيش الأوكراني من أرتيوموفسك، وفي المقابل كذب الكرملين هذه الوثائق المسربة واعتبرها معلومات مضللة.
وقال الناطق الرسمي للكرملين دميتري بيسكوف: “يبدو التقرير كاذبًا.. للأسف حتى المطبوعات المحترمة في السنوات الأخيرة لا تترد في نشر مثل هذه التقارير في كثير من الأحيان”.
وادعت الوثائق المسربة، المنسوبة للمخابرات الأمريكية، أن بريغوجين تحدث عدة مرات إلى مديرية المخابرات الأوكرانية، عن الانسحاب من باخموت، لكن كييف رفضت العرض لأن المسؤولين الأوكرانيين لا يثقون في بريغوجين واعتقدوا أن مقترحاته قد تكون خادعة.
وتشير الوثائق أيضًا إلى أن كييف تشك، أو ربما تعرف، أن الكرملين على علم باتصالات بريغوجين مع المخابرات الأوكرانية، في حال لم تكن مفاوضاته سرية بشأن باخموت.
عندما تم إبلاغه بأن وثائق المخابرات الأمريكية كشفت اتصالاته مع المخابرات الأوكرانية، بدا أن زعيم المرتزقة يتفاعل مع الموقف، حيث قال من خلال قناته: “نعم بالطبع يمكنني تأكيد هذه المعلومات، ليس لدينا ما نخفيه عن الخدمات الأجنبية الخاصة”، لكنه لم يتحدث بشكل مباشر بشأن عرضه الكشف عن مواقع القوات الروسية.
صراع على السلطة في الكرملين
حتى لو دخل بريغوجين في عداء علني مع القادة العسكريين الروس، واتهمهم بالفشل في تجهيز وإعادة إمداد قواته، التي قدمت دعمًا حيويًا لجهود موسكو الحربية، فإن زعيم فاغنر يبقى أيضًا حليفًا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورجله الوفي.
ويرجح مراقبون غربيون أن الصراع بين قائد المرتزقة وقادة الجيش الروسي قد يعكس صراعًا كبيرًا على السلطة في الكرملين، إذ يظهر بريغوجين كأنه يتمرد على المؤسسة العسكرية، ولا يعني هذا أنه يريد تقديم نفسه كمنافس لبوتين، لكنه يريد أن يؤكد أنه البديل والحليف الأكبر والأكثر موثوقية وسط ضعف المؤسسة العسكرية الرسمية.
كما يعكس الخلاف فشل الكرملين في إنشاء هيكل قيادة واضح في أوكرانيا، فالرئيس الروسي لم يعين قائدًا شاملًا للغزو حتى أبريل/نيسان 2022، أي بعد أكثر من شهر من بدء الهجوم، فقد أسند الدور في البداية إلى الجنرال ألكسندر دفورنيكوف، لكنه غير المنصب ثلاث مرات منذ ذلك الحين، أولًا عين الجنرال جينادي زيدكو في مايو/أيار، ثم الجنرال سيرجي سوروفيكين في أكتوبر/تشرين الأول، وأخيرًا الجنرال جيراسيموف في يناير/كانون الثاني 2023.
خدعة لصد هجوم الربيع
تخشى كييف أن يكون هذا الصراع مجرد واجهة ودعاية حربية، فطالما اعتاد نظام بوتين التعامل مع قضايا الصراع بمنطق الخدعة، وهو ما شهدناه مؤخرًا في حادث المسيرتين اللتين عطلتا قبل وقت وجيز تنفيذ هجوم على مبنى الكرملين، علمًا بأن موسكو محاطة بأنظمة دفاعية من الصعب جدًا، أو يستحيل، اختراقها، خاصة مركز القرار الروسي، لأنه محاط بحماية شديدة من الطائرات المسيرة على الأقل منذ عام 2015.
كما يبدو أن الكرملين يملك القدرة على احتواء هذا الصراع، على غرار نجاحه في إبقاء فاغنر في باخموت خلال وقت سريع، بالتالي قد تكون مواقف بريغوجين تمثيلية متقنة ومناورة عسكرية لخداع الجيش الأوكراني الذي وعد بتنفيذ هجوم الربيع المضاد، الأكبر من نوعه في هذه الحرب الماكرة.