عقدت في مدينة جدة السعودية القمة العربية الـ32، وكان الأحدث الأبرز فيها عودة النظام السوري لشغل مقعد سوريا في اجتماعاتها، بعد سنوات من تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، فقد كان القادة والزعماء العرب على مدار الـ13 سنة الماضية ينظرون لرئيس النظام السوري بشار الأسد على أنه مجرد “قاتل وتاجر مخدرات وتابع لإيران”، قبل أن يعيد هؤلاء القادة إنتاج حالة فشل جديدة، وإعادة الاعتراف بنظام الأسد كممثل شرعي للشعب السوري، متناسين حجم الجرائم التي ارتكبها هذا النظام وحجم الدمار الذي خلفه، والأهم من ذلك حجم الويلات التي لحقت بالمنطقة بسبب سلوكياته، بعد أن فتح الباب واسعًا لتكون سوريا ممرًا لعبور المخدرات والسلاح والمقاتلين للعديد من البلدان.
لا يختلف أحد على أن قمة جدة جسدت حالة عربية غير مفاجئة، فالقمم العربية السابقة لم تكن أكثر من مجرد منابر إعلامية يتسابق عليها الزعماء والقادة العرب، للحديث عن التضامن العربي وضرورة العمل العربي المشترك، وبعد انتهاء هذه القمم، يعود هؤلاء الزعماء والقادة لممارسة هوايتهم المفضلة، بإنتاج إسطفافات جديدة والدخول في محاور جديدة، بالضد من الآخر العربي.
ولعل “نظرية الأحضان” التي أطلقها بشار الأسد في كلمته بقمة جدة، تعطينا خير مثال على ذلك عندما قال: “الأحضان عابرة وربما ينتقل الإنسان من حضن لآخر لسبب ما.. نغير الحضن ولا نغير الانتماء”، فالرسالة التي أراد الأسد إيصالها من هذه الكلمة، هو أننا عرب رغم ارتمائنا بالحضن الإيراني.
الأسد والغيبوبة التاريخية
إن نظرة بسيطة لطبيعة الخطاب الذي أدلى به الأسد أمام الجامعة العربية، تشير بما لا يقبل الشك إلى أن النظام السوري ما زال يعيش في غيبوبة تاريخية، بل والأدق من ذلك ما زال خطاب نظام البعث يعيش أزمة أخلاقية في عدم الاعتراف بفشله في إنتاج دولة مواطنة في سوريا.
فهو حتى اللحظة يرفض الاعتراف بأنه سبب الأزمة الإنسانية التي يعيشها اللاجئون السوريون في الخارج، ويستكثر عليهم العودة للمساهمة في إعادة الوضع الطبيعي لسوريا، فخطاب الأسد جاء حاملًا عبارات رنانة عن عالم متعدد الأقطاب والتغيير بالنظام الدولي ومواجهة الليبرالية المنحرفة، إذ يتبادر لذهن المستمع وهو يسمع هذه العبارات للوهلة الأولى، بأنه خطاب لرئيس دولة عظمى، وليس خطابًا لرئيس يجلس على ركام دولة اسمها “سوريا”.
كما حاول الأسد في خطابه توضيح أن سبب المشاكل التي تواجهها المنطقة اليوم، هو التحالف بين العثمانية والإخوان، متناسيًا أن إيران تسيطر على ما لا يقل عن نصف مساحة سوريا، في حين تنتشر المليشيات المسلحة الموالية لها في أغلب الجغرافيا السورية، وهي التي تمتلك وجودًا في اليمن والعراق ولبنان وشمال إفريقيا، ومؤخرًا السودان الذي بدأت دلائل الأسلحة المستخدمة في الصراع الدائر هناك تشير إلى أن بعضها صناعة إيرانية.
كما حاول الأسد أن يغالط الحقيقة التي تقول بأن إيران أكبر مصدر للمخدرات إلى دول المنطقة، وعلى ما يبدو فإن خطابه جاء لمغازلة حالة الانفتاح العربي على إيران مؤخرًا، خصوصًا أن القمة الحاليّة تعقد في جدة، بعد شهرين تقريبًا من التوافق السعودي الإيراني.
لا يختلف أحد على أن الجهود التي بذلتها السعودية لإعادة النظام السوري للجامعة العربية، هي ضرورة أكثر من كونها إستراتيجية للتكامل العربي، ضرورة فرضتها قدرة هذا النظام على خلق أزمة اجتماعية في الدول الخليجية، بعد ارتفاع معدلات تجارة المخدرات، وتحديدًا حبوب الكبتاغون القادمة من سوريا.
فضلًا عن ذلك تشير ضرورة إبعاد النظام السوري عن الحضن الإيراني إلى رغبة سعودية خليجية عربية، لكنها رغبة جاءت متأخرة جدًا، فالنفوذ الإيراني ينخر بكل مجالات الحالة السورية، والأهم أن سوريا تحتاج سنوات كي تفتك من كماشة الديون الإيرانية خلال سنوات الحرب، التي تقدرها بعض المصادر بـ50 مليار دولار.
الفشل العربي من جديد
أظهرت قمة جدة فشلًا عربيًا واضحًا في معالجة المشاكل العربية، وهو فشل يعود إلى مرحلة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، عندما فشلت الدول العربية في معالجة الغزو الأمريكي ضمن المظلة العربية، وتكررت الحالة في سوريا واليمن، فـ”سياسة النصف خطوة” التي اعتمدتها الدول العربية وفرت لإيران فرصة ثمينة للحصول على الجائزة كلها.
فالدول العربية تهيئ الأرضية وتأتي إيران للبناء عليها، والحالة السورية ترجمة واضحة لهذا الفشل، فبعدما دخلت الدول العربية على خط الأزمة السورية، أنتجت شرخًا واضحًا فيها، وبعد سنوات من الدعم لقوى المعارضة، عادت لتنقلب عليها، مبررةً هذا الفعل بكونه فرصة لإنهاء الصراع في سوريا، بل وتعتبره مدخلًا لتوافق إيراني عربي.
فبعد السعودية، بدأت محادثات إيرانية مع الأردن ومصر، ومن أجل إنجاح هذه المحادثات، لا بد من إنتاج صفقة جديدة على غرار الصفقة السعودية الإيرانية في اليمن.
إن عودة النظام السوري للجامعة العربية لا يمكن البناء عليها في تغيير التوازنات في المنطقة، فالنظام السوري لن يغير علاقته مع إيران من أجل العرب، كما أن الدول العربية ليست متأكدة بالكامل من عودة سوريا لحضنها العربي، لأن محاولة الدول العربية إعادة تأهيل نظام الأسد دون حل سياسي في سوريا، ستكون لها نتائج عكسية على الداخل السوري، والأهم من كل ذلك أن هذه العودة “مشلولة” في ظل استمرار العقوبات المفروضة على النظام السوري من الولايات المتحدة، فضلًا عن الرفض الأمريكي الواضح لهذه الخطوة السعودية.
فقد قال نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل، في تصريح صحفي: “لا نعتقد أن سوريا تستحق إعادة القبول في جامعة الدول العربية بهذا الوقت، وهذه نقطة وضحناها لجميع شركائنا”، وأضاف “نحن نتفهم أن شركاءنا يعتزمون الانخراط المباشر مع نظام الأسد لدفع المزيد من التقدم، والمطالبة بإحراز تقدم في هذه المجالات خلال الأشهر المقبلة، وفي حين أننا نشكك في استعداد الأسد لاتخاذ الخطوات اللازمة لحل الأزمة السورية، فإننا نتفق مع شركائنا العرب في الأهداف النهائية”.
مما لا شك فيه أن الدول العربية من حقها اعتماد السياسة التي تراها متوافقة مع مصالحها الوطنية، وفيما يتعلق بانفتاحها الأخير على نظام الأسد، فهي مطالبة أيضًا بتصحيح فشلها مع الشعب السوري، لأنها مثل إيران، استثمرت لسنوات طويلة بالحرب الدائرة في سوريا، سواء على مستوى المواقف السياسية أم الدعم العسكري، وبالتالي فهي جزء أساسي من المشكلة التي يعاني منها السوريون في الداخل والخارج، فاستمرار ذات العقلية العربية في التعاطي مع أزمات المنطقة، من منطلق المصالح والمواقف الآنية، لن يضع حدًا للحرب السورية فحسب، بل قد تدخل المنطقة في دوامة صراع جديدة بالمرحلة المقبلة.