زادت حالة الاضطراب السياسي في السودان وحروبه الداخلية المتطاولة من مطامع بعض الدول التي تجاوره في موارده، إلى حدّ احتلال جزء من أراضيه.
وعملت مصر وتشاد وإريتريا على بناء شبكة علاقات سياسية واجتماعية وسط السودانيين بدوافع مختلفة، حيث تحرص القاهرة على ضمان وجود حكومة موالية، أو على الأقل لا تُناصبها العداء، فيما تتخوف انجمينا وأسمرة من أنشطة المعارضة التي تستفيد من التداخل القَبَلي بين الحدود المشتركة.
وظلت علاقات السودان مع دول الجوار خاضعة لمزاج العسكر الذين حكموا البلاد لفترات طويلة، إذ تتحول من العداء الصارخ بالدعم المشترك لأنشطة المعارضة سواء السلمية أو المسلحة، إلى التعاون المشترك، دون أن يحدث استقرار طويل.
مصر.. تدخُّل لن ينتهي أبدًا
سعت القاهرة ولا تزال تسعى إلى احتواء الخرطوم، لضمان تأمين مصالحها والفوز بحصتها كاملة من مياه نهر النيل، والتأكُّد من عدم استغلال السودان للجغرافيا لتقليل تلك الحصة، كإقامة السدود أو شقّ القنوات لتوسيع نطاق الزراعة المروية.
ورغم اتجاه البلدَين إلى التعاون المشترك عبر الاتفاقيات التي أبرزها الحريات الأربعة الخاصة بحرية التملُّك والتنقل والعمل والإقامة لمواطني السودان ومصر، إلا أن العلاقات بينهما كثيرًا ما تنحو إلى طابع عدائي، خاصة في السنوات الأولى لحكم الرئيس المعزول عمر البشير (1989-2019).
ويظهر طابع العدوانية بوضوح في استغلال مصر لحادثة اغتيال الرئيس الراحل حسني مبارك الفاشلة في إثيوبيا، والتي يُرجّح أنها دُبّرت من بعض أجنحة نظام البشير، واجتاحت عام 1995 مثلث حلايب الذي يضمّ مناطق حلايب وشلاتين وأبو رماد، وهي مناطق غنية بالمعادن تبلغ مساحتها نحو 20.5 ألف كيلومتر مربع.
صحيح أن القاهرة تطالب بهذه المناطق منذ عام 1958، لكنها ظلت خاضعة لسيادة الخرطوم التي تنادي بحلّ النزاع أمام التحكيم الدولي، وتعمل سنويًّا على تجديد شكوى أمام مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، لكن مصر ترفض التحكيم الدولي ربما لأنها لا تملك أدلة تدعم مزاعمها.
وعملت القاهرة على تمصير المناطق الثلاثة الواقعة على ساحل البحر الأحمر، ومنع السودانيين من دخولها، وعادة ما تنحو أنظمتها الاستبدادية، سواء كان نظام حسني مبارك أم عبد الفتاح السيسي، إلى اتخاذ قضية مثلث حلايب شعبويًّا من أجل التغطية على الأزمات الداخلية.
وتدعم مصر الأنظمة العسكرية في السودان لسهولة تقديمها تنازلات لصالح القاهرة، كما حدث حين أغرقت منطقة كاملة لتغمر المياه 150 كيلومترًا من الأراضي الزراعية السودانية الخصبة وتهجير 53 ألف مواطن سوداني من البيئة التي ترعرعوا فيها من أجل بناء السد العالي، دون أي تعويض مالي لإعادة استيطان المهجّرين مقابل الدعم السياسي فقط.
وظلت القاهرة الرسمية تخشى من الديمقراطية في الخرطوم، حيث يمكن أن تثير القضايا المسكوت عنها، وفي مقدمتها دعم مصر للعسكر واستغلالها لموارد البلاد الاقتصادية، في وسائل الإعلام والبرلمان الذي يستطيع تقييم العلاقات الثنائية لإبعاد الاستغلال.
وظهرت خشية مصر من الديمقراطية والحكم المدني في السودان قبل أسابيع من تسليم قائد الجيش، الجنرال عبد الفتاح البرهان، رئاسة مجلس السيادة إلى المدنيين، لتشجّع الجنرال على تنفيذ انقلابه في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
وعندما انخرط الجيش والدعم السريع في عملية سياسية مع قوى سياسية لتسليم السلطة إلى المدنيين، حرّضت مصر قوى أخرى على رفض العملية ووصل بها الأمر إلى استضافتهم في القاهرة، في رسالة واضحة إلى العسكر فحواها أنها ترفض العملية السياسية لإدراكها بأنها لن تكون في صالحها.
وتمتلك مصر حليفَين دائمَين في السودان هما الجيش والحزب الاتحادي الديمقراطي ـ الأصل، ولا تغلب في استمالة حلفاء جدد مؤقتين مثل رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي، والملاحظ أن مصر ظلت تستضيف معارضي الأنظمة وإن كانت علاقتها بهم جيدة، لضمان وجود بطاقة رابحة يمكن أن تساوم بها.
إريتريا.. فاعل في إقليم استراتيجي
التدخل الأقل نفوذًا في شؤون السودان الداخلية بعد مصر يأتي من إريتريا، لكن تدخلها ينحصر في شرق السودان الذي يستوطن فيه قرابة 123 ألف لاجئ إريتري، إضافة إلى آلاف الحاصلين على الجنسية السودانية من نظام الرئيس عمر البشير.
وظلَّ شرق السودان يمدّ إريتريا بالوقود والسلع الغذائية عن طريق التهريب، بواسطة شبكات قَبَلية لم تنجح الحكومات السودانية في إيقافها.
يضمّ شرق السودان 3 ولايات، تمثل ولايتان منها أهمية عظيمة للبلاد، إذ تعدّ ولاية القضارف أكبر منطقة زراعية مطرية في البلاد، فيما تقع موانئ البلاد البحرية التي تؤمّن معظم احتياجات السودان الحياتية في ولاية البحر الأحمر التي تزخر بكمّيات هائلة من معدن الذهب.
وانطلاقًا من هذه الأهمية، عملت إريتريا على بناء شبكة تحالفات سياسية مع مؤتمر البجا والأسود الحرة، بجانب ترابطات اجتماعية قوية مع رجل الدين ذي النفوذ الواسع في شرق السودان سليمان علي بيتاي، ومع قبائل فاعلة مثل الهدندوة والرشايدة.
تسعى إريتريا من هذا التدخل إلى عرقلة الانتقال الديمقراطي في السودان، لكن الأهم من ذلك جعل شرق السودان بيئة غير محفّزة لتنشط فيها معارضة نظام الرئيس أسياس أفورقي، خاصة من اللاجئين والامتداد القَبَلي بين البلدَين مثل قبائل البني عامر والحباب.
ليبيا.. تأثير انتهى
بعد أقل من عامَين من تولي الرئيس الراحل معمر القذافي مقاليد الحكم في ليبيا، عبر انقلاب نفّذه في مطلع سبتمبر/ أيلول 1969، اعترض نظامه طائرة تقلّ اثنين من قادة انقلاب نُفّذ ضد الرئيس السوداني جعفر نميري الذي بدوره وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، وسلمهما إلى نميري الذي أعدمهما.
ومثلت هذه الحادثة، رغم التدخل الفجّ، نقطة مهمة في توطيد علاقات النظامَين، قبل أن تتحول إلى عداوة مريرة وصلت إلى موافقة القذافي على تدريب عناصر الجبهة الوطنية التي تُعارض نظام نميري، كما أمدّها بالسلاح، لتقوم هذه القوات في يوليو/ تموز 1976 باجتياح العاصمة الخرطوم قبل أن يصدّها الجيش بعد مواجهات عسكرية عنيفة.
ورغم أن القذافي ظلَّ يدعم مقاتلي الجبهة الوطنية ولاحقًا الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق وحركات تمرد دارفور، فإن ذروة التدخل حدثت حين قصف نظامه إذاعة أم درمان باعتبارها مركزًا لبثّ إذاعة المعارضة الليبية.
بعد سقوط نظام الرئيس جعفر نميري عبر ثورة شعبية في أبريل/نيسان 1985، لم تتحسّن العلاقات بين نظام القذافي والحكم التعددي في السودان، ما دعاه إلى تأييد الانقلاب الذي أوصل الرئيس عمر البشير إلى السلطة في 29 سبتمبر/ أيلول 1989، لكن سرعان ما دبّت الخلافات، ليدعم القذافي التجمع الوطني المعارض لنظام البشير دعمًا غير محدود.
كان القذافي يعمل على جعل ليبيا دولة إقليمية مهمة، لكنه اتّبع في ذلك سياسة خرقاء خاصة تجاه السودان، ما جعل السهم يرتدّ إليه عند اندلاع الثورة ضده، إذ مدّت الخرطوم الثوار بالأسلحة.
إثيوبيا.. عداء لن ينضب
ظلت العلاقات بين السودان وإثيوبيا غير مستقرة نهائيًّا، فكل منهما حاول تغذية التمرد المسلح، لكن أديس أبابا بلغت عداوتها للخرطوم حدّ الاستيلاء على نحو 2.5 مليون فدان من الأراضي الزراعية الخصبة في مناطق الفشقة شرق السودان في أوائل تسعينيات القرن المنصرم.
وتمكّنت الخرطوم من السيطرة على بعض هذه المساحات بعد معارك عسكرية اعتبارًا من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، ليؤثر هذا على علاقات البلدَين بعد تحسُّنها في السنوات الأخيرة، خاصة على ملفات تمثل تهديدًا لأمن السودان مثل سد النهضة وأنشطة العصابات التي تعمل في تجارة البشر وتهريب الأسلحة والمخدرات في حدود القطرَين.
ووقّع السودان اتفاقيات أمنية مع إثيوبيا لتبادل المعلومات حول أنشطة العصابات، لكن الأخيرة ظلت تنتهج التسويف وشراء الوقت فيما يخصّ ملء وتشغيل سد النهضة المشيّد قرب الحدود المشتركة.
جنوب السودان وتشاد.. تأثير متواصل
يتحكم التداخل القَبَلي ومحاولة كل دولة دعم المعارضة المسلحة في علاقات السودان بتشاد وجنوب السودان بصورة كبيرة، دون أن تصل إلى مرحلة الاستقرار رغم اتجاه الخرطوم بعد حقبة ما بعد البشير إلى تصفير العدوات مع دول الجوار.
انفصل جنوب السودان عن السودان عام 2011، بعد حرب أهلية دامية، لكن سرعان ما دعمت الخرطوم الحركات المسلحة المعارضة لحكم الرئيس سلفا كير ميارديت، وهو ما قوبل بالمثل.
ودعمت جنوب السودان حركات التمرد في إقليم دارفور، وهي تأوي حاليًّا رئيس حركة تحرير السودان عبد الواحد محمد نور الذي يمتلك فيها قاعدة عسكرية لتدريب قواته، علاوة على دعمها غير المحدود والمستمر للحركة الشعبية ـ شمال بزعامة عبد العزيز الحلو، نظرًا إلى الروابط التاريخية بين الجانبَين.
ورغم تحسُّن العلاقات في السنوات الأخيرة، فإن قضايا البلدَين الحيوية لم تُحل، ومن أبرزها قضية أبيي، وهي منطقة غنية بالنفط متنازع عليها، رغم الاتفاق على حسم تبعيتها عبر استفتاء لم ينظَّم حتى الآن.
علاقات السودان مع معظم دول الجوار تتحكم فيها النظرة القَبَلية، فالأنظمة الحاكمة تعتمد على رافعة قبيلة أو قبائل بعينها بدلًا عن الشعب ككل.
وأيضًا، يتنازع السودان وجنوب السودان على مناطق حدودية، هي دبة الفخار وجبل مقنيص وكاكا التجارية وكافي كنجي وحفرة النحاس.
وإذا استطاعت الخرطوم وجوبا حلّ المناطق الحدودية المتنازع عليها عبر التفاوض، فإن التداخل القَبَلي وانتشار السلاح يمكن أن يقوّضا هذه الحلول، ما يجعل الاستقرار الدائم حلمًا بعيد المنال.
وظلَّ التداخل القَبَلي بين السودان وتشاد بمثابة قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي وقت، خاصة أن هذا التداخل يشكّل قاعدة اجتماعية صلبة للحركات المسلحة، تساعدها في ذلك سهولة اختراق الحدود المشتركة.
وأوت الخرطوم الرئيس الراحل إدريس ديبي، بعد فشله في تنفيذ انقلاب عام 1989 على الرئيس حسين حبري الذي كان يتهم السودان بإيواء الجماعات المسلحة المعارضة لحكمه، وفي العام التالي نجح ديبي في تنفيذ انقلاب ناجح يُعتقد أنه نُفِّذ بدعم من الخرطوم.
لكن العلاقات الجيدة بين نظامَي البشير وديبي لم تدُم طويلًا، فقد اتهم الأول الثاني بالهجوم على بلدة حدودية والضلوع في حرب دارفور، وساءت العلاقات إلى حدّ إغلاق القنصليات، قبل أن يتراجعا لاحقًا ويوقعا على اتفاق ضبط الحدود بقوة مشتركة ووقف دعم الجماعات المتمردة المسلحة.
يمكن القول إن علاقات السودان مع معظم دول الجوار تتحكم فيها النظرة القَبَلية، فالأنظمة الحاكمة تعتمد على رافعة قبيلة أو قبائل بعينها بدلًا عن الشعب ككل، وإن لم تُبعد هذه النظرة ستظل العلاقات محل شدّ وجذب.