تعاني الدبلوماسية العربية منذ الاستقلال خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي من واقع مأزوم، جراء التداخل الفج بين السياسة وهمومها وحساباتها من جانب والدبلوماسية بأبجدياتها ومحدداتها ومن ثم توجهاتها وأدواتها من جانب آخر، فيما انعكست الصدمات التي مرت بها المنطقة سلبًا على مسارها الدبلوماسي منذ اغتصاب الأراضي الفلسطينية على مرأى ومسمع من الأنظمة العربية الحاكمة، مرورًا بالهزائم العسكرية اللاحقة.
وإن كانت معاناة الدبلوماسية العربية خلال العقود الماضية أمرًا تقليديًا، فإنها خلال العشرية الأخيرة تعرضت لطعنات غائرة في مرتكزاتها ومقوماتها الأساسية، كانت سببًا في إفقادها أخلاقياتها وزجت بها نحو وحل التورط في الانتهاكات الإنسانية، مدفوعة بحسابات برغماتية بحتة، تنسف الشعارات التي تتشدق بها العواصم العربية الساعية إلى تعزيز نفوذها الإقليمي والدولي ولو عبر أشلاء العرب وبقايا كرامة الشعوب المهدرة.
في هذا التقرير نلقي الضوء على مؤشرات انهزامية الدبلوماسية العربية وكيف أنها رضخت دون أي مقابل لرغبات الأنظمة الديكتاتورية، ضاربة برغابات الشعوب وإرادتها عرض الحائط، مرتدية نظارات البرغماتية السوداء، التي أعمتها عن الانتهاكات والجرائم المرتكبة التي ترتقي في كثير منها لأن تكون جرائم ضد الإنسانية، مكتفية بالجلوس في مقاعد المتفرجين تصفق للجنرالات العائدين من معاركهم غير المتكافئة ضد شعوبهم، وتستقبلهم استقبال الفاتحين، ليمثل هذا العقد الأخير العشرية الأكثر قبحًا للدبلوماسية العربية.
تعويم الأسد.. انقلاب دبلوماسي مكتمل الأركان
طوال عشر سنوات أثبتَ نظام بشار الأسد أنه أحد أكثر أنظمة الحكم ديكتاتورية واستبدادًا في العالم، نظام لا يتورع عن قتل شعبه وتهجيره من أجل الحفاظ على الكرسي، لذا علقت جامعة الدول العربية في 16 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2011 عضوية سوريا داخل الكيان.
وحذت دول الخليج (البحرين والكويت وعمان والسعودية والإمارات) حذو الجامعة في هذا الموقف المبني على إيمان واعتقاد لا شك فيه بأن هذا النظام يجب أن يُستأصل بعد تغوله على شعب بأكمله، وبالفعل سحبت تلك الدول سفرائها من دمشق في فبراير/شباط 2012.
الموقف لم يغير من شهية الأسد المفتوحة بحق دماء شعبه، فمارس كل أنواع البطش والتنكيل، على مرأى ومسمع من الجميع، وتوقع الكثير من الخبراء حينها أنه لن يصمد في مكانه كثيرًا في ظل تلك الجرائم التي لا تعد ولا تحصى، وزادت عشرات الأضعاف عما كانت عليه في 2011 حين اتخذت الجامعة والدول العربية قرار العزل.
لكن فوجئ الجميع في 7 مايو/أيار 2023 بقرار الجامعة عودة سوريا وإلغاء القرار السابق والسماح لنظام الأسد باستئناف مشاركة وفوده في اجتماعات الجامعة، وذلك وفق البيان الصادر بأنه “تقرر استئناف مشاركة وفود حكومة الجمهورية العربية السورية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية، وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها اعتبارًا من 7 مايو/أيار 2023″، والمفاجأة الأكبر حضور الأسد شخصيًا على رأس وفد بلاده في القمة العربية التي عقدت في جدة في 19 مايو/أيار 2023 وسط احتفاء به من الزعماء المشاركين.
وقبل ذلك كان مخطط التعويم يسير على قدم وساق، إذ قادت الرياض وأبو ظبي والجزائر وبغداد حملة إعادة نظام الأسد للحضن العربي مرة أخرى، وفق أبجديات جديدة في توجهاتها السياسية ولو كان ذلك على حساب مرتكزاتها الوطنية الثابتة، ومن قبل ذلك فتحت مسقط أبوابها لاستقبال الأسد في فبراير/شباط 2023، وبعد ذلك بشهرين أعلنت تونس هي الأخرى استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا.
دعم قيس سعيد.. مؤازرة السلطوية
في 25 يوليو/تموز 2021 اتخذ الرئيس التونسي قيس سعيد حزمة من الإجراءات الاستثنائية، أقل ما قيل عنها إنها ديكتاتورية بامتياز، وتعكس رغبة الرجل في الهيمنة على السلطة بشكل منفرد، كان على رأسها تجميد اختصاصات البرلمان ثم حله نهائيًا في 30 مارس/آذار 2022، ثم رفع الحصانة عن نواب البرلمان، وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي وتعيين حكومة جديدة وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية وحل المجلس الأعلى للقضاء.
وفي 28 يوليو/تموز من نفس العام أصدر الرئيس أمرًا رئاسيًا بإعفاء المدير العام للتليفزيون الوطني محمد الداهش من مهامه، إضافة إلى إعفاء 24 مسؤولًا بالحكومة والأجهزة الأمنية، وبعد ذلك بيومين ألقت قوة من الأمن القبض على عضو البرلمان التونسي ياسين العياري من منزله، كما اعتقلوا عضو البرلمان ماهر زيد، بعد أن حُكم عليه في 2018 بالسجن لمدة عامين بتهمة إهانة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.
لم ينكر السيسي نفسه هذا الفضل الذي قدمته دول الخليج له على المستوى الشخصي ولنظامه، ففي سبتمبر/أيلول 2022 قال صراحة خلال افتتاحه بعض المشروعات في هيئة قناة السويس: “لولا الدعم الخليجي لم تكن الدولة لتكمل”
ثم أصدر قرارًا آخر في 5 فبراير/شباط 2022 بحل المجلس الأعلى للقضاء، بعد أن اتهم أعضاء فيه بالفساد والولاء لحركة النهضة، تلاها حزمة من القرارات كان أخطرها وأكثرها جدلًا القبض على رئيس الحركة راشد الغنوشي، في 18 أبريل/نيسان 2023 ثم الحكم عليه بالحبس لمدة عام.
وبينما كان العالم يتحفظ على تلك القرارات والانفراد المطلق بالسلطة وتقليم أظافر المعارضة بشتى انتماءاتها، كانت القاهرة والرياض وأبو ظبي تدعم الرئيس التونسي في تلك القرارات، وفي 17 يناير/كانون الثاني 2022 استقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وزير الشؤون الخارجية الجزائرية رمطان العمامرة، بحضور سامح شكري وزير الخارجية، حيث أكدا على استمرار الدعم العربي للرئيس قيس سعيد، وما يقوم به من إجراءات وجهد حثيث لتحقيق الاستقرار في البلاد.
التصالح مع الحوثيين.. دماء اليمنيين دون مقابل
في مارس/آذار 2015 قادت السعودية تحالفًا عسكريًا مدعومًا من الولايات المتحدة ضد الحوثيين في اليمن ودعم حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، بهدف التصدي للنفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة، وإنقاذ الشعب اليمني من الانتهاكات التي تمارسها الجماعة المدعومة من طهران ليل نهار وأسفرت عن سقوط مئات الضحايا.
وكان الحوثيون يحكمون الهيمنة على الكثير من المناطق اليمنية في الشمال تحديدًا، إذ امتد نفوذهم إلى العاصمة صنعاء وأجبروا الرئيس اليمني على الفرار من قصره والتوجه إلى الرياض، وسط تهديدات مستمرة للمملكة بأن أي تدخل في الشأن اليمني سيقابل باستهداف السعودية في عمقها الأمني الإستراتيجي، ليس في الجنوب وحده لكن في قلب العاصمة.
وتشير الإحصاءات إلى أن قوات التحالف شنت منذ 2015 أكثر من 24 ألف غارة جوية على مناطق متفرقة في اليمن، قابلها قرابة 4 آلاف غارة شنها الحوثيون استهدفت البنية التحتية الإستراتيجية في كل من السعودية والإمارات، ومن بينها المطارات وحقول الغاز وناقلات النفط العملاقة في أثناء إبحارها في البحر الأحمر.
ونتاجًا لتلك الحرب أنفقت المملكة على تسليح جيشها قرابة 57.5 مليار دولار خلال عام 2020، وهو ما يوازي 8.4% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما أنفقت خلال العام 2021 فقط أكثر من 50 مليار دولار، وتشير التقارير إلى أن قرابة 25% من الأسلحة الأمريكية المصدرة بين عامي 2016 و2020 وجهت إلى السعودية، بخلاف 32% من صادرات الأسلحة البريطانية، و49% من صادرات الأسلحة الكندية.
وبعد أكثر من 7 سنوات من القتال بين قوات التحالف والحوثيين، ها هم السعوديون يدخلون في مباحثات ومفاوضات مع الجماعة، ويجلسون معًا على طاولات واحدة، يتباحثون سبل التهدئة ووقف القتال، ويتفقون على تبادل الأسرى، رغم عدم تحقيق الرياض لأهدافها التي شنت الحرب لأجلها، في الوقت الذي شرد فيه الملايين من أبناء اليمن.
دعم حفتر.. السير عكس اتجاه البوصلة الدولية
في الوقت الذي يواجه فيه اللواء متقاعد خليفة حفتر وميليشياته اتهامات دولية بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات بالجملة بحق الشعب الليبي، كانت القاهرة والرياض وأبو ظبي على وجه التحديد تصر على دعمه بشتى السبل وتصديره للمشهد كونه رجل ليبيا الجديد في مواجهة الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا.
واستقبل السيسي حفتر أكثر من مرة في القاهرة، كما شهدت السنوات الماضية عشرات اللقاءات بينه ومسؤولي ميليشياته وبين المخابرات المصرية، فيما أعلنت مصر بشكل رسمي دعمها الكامل للجيش الليبي بقيادة حفتر، وكانت على رأس أبرز الداعمين لمعركة طرابلس التي هزم فيها الجنرال المتقاعد لتتغير الحسابات كافة.
الإمارات هي الأخرى كانت من أكثر القوى الخارجية انخراطًا في المشهد الليبي، ووفقًا لوثيقة تسلمها مجلس الأمن في مايو/أيار 2019 هناك احتمالية تورط الإمارات عسكريًا في ليبيا، استنادًا إلى الطائرات المسيرة التي أطلقتها قوات حفتر وهي مملوكة للجيش الإماراتي كان قد استوردها من الصين في أبريل/نيسان من نفس العام.
وعلى المستوى السعودي فقد وجدت الرياض في حفتر الأداة الأكثر تأثيرًا ونفوذًا للقضاء على تيارات الإسلام السياسي في ليبيا، وفي مارس/آذار 2019 استقبل العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز الجنرال الليبي، معربًا عن دعمه بشتى السبل في حربه ضد الإسلاميين، غير مبال للتقارير الدولية التي تكشف حجم الجرائم والانتهاكات التي يمارسها بحق الشعب الليبي.
نظام السيسي.. دعم دولة الثالث من يوليو/تموز
كانت السعودية والإمارات تحديدًا ثم الكويت والبحرين وعمان على قائمة الدول التي ساندت الانقلاب العسكري في مصر، ودعمت وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي الذي انقلب على رئيسه محمد مرسي في يوليو/تموز 2013 واستفرد بالحكم فيما بعد، حيث تعهدت تلك البلدان بتقديم مساعدات بنحو 12 مليار دولار على شكل منح وودائع بالبنك المركزي ومساعدات بترولية.
وتستند تلك الدول في دعمها لدولة الجنرالات في مصر على مساعيها لوأد الإسلام السياسي في مصر، ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم جاء هذا الدعم السخي تجنبًا لحدوث أي أزمات اقتصادية قد تسمح بعودة الجماعة للحكم مرة أخرى في ظل حالة العزلة الدولية التي فرضت على نظام السيسي في ذلك الوقت.
يبدو أن النظارة التي ارتدتها الجامعة العربية ودول الخليج تحديدًا إبان 2011 حين ارتأت الاصطفاف إلى جانب إرادة الشعوب، والانتفاض ضد الانتهاكات السلطوية بحقها، تغيرت سريعًا لتصبح نظارة بعدسة واحدة، أو ربما بلا أي عدسات، لتصاب الدبلوماسية العربية بـ”العمى”
وقدر البنك المركزي المصري حجم الأموال التي تلقاها نظام السيسي منذ الإطاحة بالرئيس مرسي بأكثر من 92 مليار دولار، وتأتي السعودية على رأس المانحين بقيمة 8 مليارات دولار في صورة 5 ودائع للنظام المصري، هذا بخلاف توريد شركة أرامكو السعودية 700 ألف طن من المشتقات البترولية لمصر شهريًا، من خلال قرض سعودي قيمته 23.5 مليار دولار لمدة 5 سنوات.
وليس هناك أدل من ذلك على الزيارة الخاطفة التي قام بها العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز للقاهرة التي لم يغادر مطارها الدولي مستقبلًا السيسي وبعض رفاقه على متن طائرته الخاصة، مؤكدًا على دعم بلاده له في هذا المسار رغم الاعتراضات الحقوقية والدولية.
الإمارات هي الأخرى كانت حاضرة بقوة، بل يرجع الفضل لها في دعم الانقلاب من خلال ريادتها لتيار الثورة المضادة، حيث دعمت القاهرة بقرض قيمته 8.6 مليار دولار لتمويل شراء مواد بترولية، بجانب إيداعها ودائع بقيمة 6 مليارات دولار، مستحقة السداد على أقساط حتى نهاية 2023، فيما دعمت الكويت بقرابة 4 مليارات دولار.
لم يكن الدعم العربي الخليجي لمصر قاصرًا على الجانب المادي فقط، بل لعبت تلك الدول دورًا محوريًا في تعويم النظام الجديد إفريقيًا وأوروبيًا وأمريكيًا بعدما فرض عليه عزلة دولية، حيث وظفت نفوذها الاقتصادي والسياسي لأجل الضغط على تلك البلدان للتعامل مع نظام السيسي على أنه نظام شرعي معترف به وليس انقلابيًا كما يقولون.
ولم ينكر السيسي نفسه هذا الفضل الذي قدمته دول الخليج له على المستوى الشخصي ولنظامه، ففي سبتمبر/أيلول 2022 قال صراحة خلال افتتاحه بعض المشروعات في “هيئة قناة السويس”: “لولا الدعم الخليجي لم تكن الدولة لتكمل”، مشيدًا بالدور الخليجي في دعم مصر بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين.
ومن مصر إلى السودان، حيث دعم الجنرالات منذ ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 والإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، حيث انحازت الدبلوماسية العربية إلى العسكر في المجمل، وإن رفعت شعار دعم الإرادة الشعبية، لكنه الشعار الذي سرعان ما سقط مع أول اختبار له، وهو ما تكشفه المواقف الحاليّة إزاء الحرب المستعرة هناك، ففريق يدعم عبد الفتاح البرهان وآخر يدعم حميدتي فيما يقف الشعب السوداني وحيدًا دون دعم من أحد.
غض الطرف عن الانتهاكات
يبدو أن النظارة التي ارتدتها الجامعة العربية ودول الخليج تحديدًا إبان 2011 حين ارتأت الاصطفاف إلى جانب إرادة الشعوب، والانتفاض ضد الانتهاكات السلطوية بحقها، تغيرت سريعًا لتصبح نظارة بعدسة واحدة، أو ربما بلا أي عدسات، لتصاب الدبلوماسية العربية بـ”العمى” في قراءتها للمشهد مقارنة بما كانت عليه في مجمله قبل 12 عامًا.
فالمزاج العربي الرسمي الذي قرر عزل نظام الأسد في 2011 بسبب قتله 4 آلاف من مواطني الدولة ها هو اليوم يقرر التطبيع مع ذات النظام بعدما وصل عدد ضحاياه لأكثر من 387 ألف قتيل بحسب آخر إحصاء نشر على موقع “المرصد السوري لحقوق الإنسان” في ديسمبر/كانون الأول 2020، بزيادة قدرها 96.7 مرة خلال السنوات الـ12 الأخيرة.
وذات المزاج الذي أحرجه النزوح الداخلي لبضعة آلاف لم يحركه ساكنًا 2.1 مليون مواطن سوري نزحوا خلال العقد الماضي، بما يمثل أكثر من 50% من سكان مناطق المعارضة السورية البالغ عددهم 4 ملايين نسمة، هذا بخلاف أكثر من مليون و43 ألفًا و869 نازحًا يسكنون المخيمات، فيما بلغ عدد الأيتام (ممن فقدوا آباءهم على أيدي جيش النظام) في سكان مناطق المعارضة نحو 197 ألفًا و865 يتيمًا من النازحين والسكان، بجانب نحو 46 ألفًا و302 أرملة فقدت عائلها، في الوقت الذي تم تشريد أكثر من نصف سكان سوريا داخل البلاد وخارجها.
ومن سوريا إلى ليبيا، حيث غضت الدبلوماسية العربية الطرف عن الانتهاكات التي ارتكبها حفتر وميليشياته بحق الشعب الليبي، وهي الانتهاكات التي وثقتها الأمم المتحدة وحددتها في 10 جرائم رئيسية بعضها يرتقي لجرائم ضد الإنسانية وقد قامت المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق فيها، أبرزها: جرائم إبادة عائلات في ترهونة، المقابر الجماعية التي فاق عددها 12 مقبرة، المجازر بحق المدنيين، إذ تعرضت عدة أحياء شعبية بالعاصمة لقصف جوي أو مدفعي خلف عشرات القتلى المدنيين بينهم أطفال، على غرار أحياء الفرناج وأبو سليم وسوق الجمعة، بجانب التعذيب الممنهج حيث عثر على جثث وُجد على بعضها آثار تعذيب، فضلًا عن الأفران البشرية التي أعدها حفتر للمدنيين، وحرق الجثث وإشعال النيران فوق الزنازين، مع تلغيم الأحياء الجنوبية لطرابلس، وقصف المستشفيات والطواقم الطبية، ما تسبب في قتل وإصابة العديد من أفراد الطواقم الطبية من أطباء ومسعفين، بالإضافة إلى قطع الطرق والاختطاف الممنهج.
أما على المسار اليمني، فتسير الدبلوماسية العربية بأرجل عرجاء، ففي الوقت الذي قدرت فيه الأمم المتحدة عدد الذين قتلوا في هذه الحرب نهاية عام 2021 بـ377 ألفًا، منهم 70% من الأطفال، فيما يعاني 14.5 مليون بنسبة 50% من عدد السكان من أزمات الجوع المتفاقمة، وأكثر من 4 ملايين مواطن نزحوا من البلاد، ها هي السعودية وأبو ظبي، القوتين الأكبر ضمن قوات التحالف، يبرمان صفقات سياسية مع الحوثيين، غير مبالين تمامًا بهذه الأعداد المهولة من الضحايا وبعدما حولا اليمن السعيد إلى واحد من أكثر بقاع العالم بؤسًا وكارثية.
السنوات الماضية أسقطت الكثير من الأقنعة التي ارتدتها الأنظمة العربية صاحبة الشعارات الإنسانية الرنانة، ونجحت من خلالها في دغدغة مشاعر الشارع العربي الذي عزف على أوتار تمجيدها سنوات وسنوات، لتسقط سريعًا في بئر البرغماتية العكر
وبحسب ما رصده تقرير حقوقي يمني مؤخرًا، فإن الحوثيين الذين يجلسون اليوم إلى جوار السعوديين والإماراتيين، ارتكبوا نحو 5091 جريمة إنسانية ضد المدنيين العزل في 18 محافظة، تراوحت بين الإخفاء القسري والاعتقالات والتعذيب، فيما ارتكبت ميليشياتهم نحو 504 جرائم إرهابية بحق الملاحة البحرية قبالة اليمن، في انتهاكات ترقى إلى جرائم حرب.
ومن الدبلوماسية العرجاء في اليمن إلى التأرجح بين العمى والعشى الليلي في تونس، فبينما تصر الأنظمة العربية على دعم نظام قيس سعيد السلطوي، تغض الطرف في الجهة المقابلة عن الانتهاكات التي يرتكبها ليل نهار بحق الديمقراطية والمدنية وحقوق شعبه، التي طالت المجالات كافة، اعتقالات وأحكام جزافية وحل لمؤسسات الدولة وكبت للحريات وتهميش لكل النخب، فضلًا عن إقصاء الأحزاب السياسية من المشهد السياسي، كل ذلك يتم على مرأى ومسمع من المزاج العربي الغارق في كابوس الإسلام السياسي والساعي للاستيقاظ منه ولو على حساب أشلاء الملايين من أبناء العرب.
وبالعودة إلى 2013 تحديدًا، حين بدأ مخطط الثورة المضادة يجني حصاده، يلاحظ أن الدول العربية، في مقدمتها الخليجية، قد غضت الطرف تمامًا عن شلالات الدماء التي خضبت ميدان رابعة العدوية والنهضة في القاهرة والجيزة، وحملات الاعتقال والتنكيل الممنهج التي وثقت عبر عشرات التقارير الحقوقية، وأثارت حفيظة العالم أجمع إلا بعض العواصم العربية التي رأت في ذلك متنفسًا لها وخدمة لأيديولوجيتها السياسية وحفاظًا على مناصبها وكراسيها دون التعرض لها شعبيًا.
وبينما كان الضمير العالمي يئن لتلك المشاهد المؤلمة كانت عواصم الرياض وأبو ظبي والمنامة ترقص فرحًا لوأد التجربة الديمقراطية في مصر، إيمانًا أنها كرة النار التي إذا ما تدحرجت ستطيح بأنظمة تلك البلدان التي لا يختلف أحد على سلطويتها وانتهاكاتها لشعوبها وسرقتها لمواردها وثرواتها، فضلًا عن فسادها الذي أزكمت رائحته الأنوف.
السنوات الماضية أسقطت الكثير من الأقنعة التي ارتدتها الأنظمة العربية صاحبة الشعارات الإنسانية الرنانة، ونجحت من خلالها في دغدغة مشاعر الشارع العربي الذي عزف على أوتار تمجيدها سنوات وسنوات، لتسقط سريعًا في بئر البرغماتية العكر، ولو كان على حساب المرتكزات الوطنية التي طالما كانت عنوانًا لها في توسيع نفوذها وإثبات حضورها رغم أن تاريخها الحضاري لا يساوي في حساب الزمن لحظات.
وبدعم الأنظمة الديكتاتورية والسلطوية وغض الطرف عن الانتهاكات والجرائم المرتكبة تضيف الدبلوماسية العربية جريمة جديدة لقائمة جرائمها المطولة، تتعلق بوأد إرادة الشعوب والعمل عكس عقاربها تمامًا، فحين تنتصر للحكام والأنظمة وتتجاهل جرائمهم وتعطي ظهرها لرغبات الشعوب، فإنها بذلك تصبح دبلوماسية السيف والدماء، متخلية عن هدفها الحقيقي وفلسفة وجودها في الأساس، وتتحول إلى خنجر في ظهر الشعب العربي لصالح حفنة القادة والرؤساء والملوك الذين حولوا بلدانهم إلى ملكية خاصة وشعوبهم إلى خدم وعبيد في بلاطهم.
وقد انعكس هذا السقوط المدوي لتلك الدبلوماسية على ثقلها واحترام العالم لها، فباتت الرئة المهملة التي لا يستعين بها إلا الدمويون، ولا يُلجأ إليها إلا حين يكون الهدف هو استهداف إرادة الشعوب ودعم الديكتاتوريين، لتكتب خلال السنوات العشرة الأخيرة شهادة وفاتها رسميًا حتى إشعار آخر.